قصة مات دُوغ بوش، ترجمة الدكتور علي القاسمي
مات دُوغ بوش
في الأدب البيئي
قصة "مات دُوغ بوش"
بقلم: حسن مكوار
ترجمها من الإنجليزية: علي القاسمي
انظر. هذه واحدة أخرى أستطيع أن أسردها عليك. ساخنة. قصّة التقطتُها قبل أقل من نصف ساعة، عندما وصلت منتصف الطريق تقريباً في مشيتي الصباحية. آه لعل كلمة قصة ليست الكلمة المناسبة هنا على الإطلاق، لأنه لم يحدث الشيء الكثير، أو بالأحرى لعل ما حدث لا أهمية له، أكثر من إطلاقه سلسلة الأفكار التي أشغلتني خلال الستين دقيقة الماضية، ويخامرني شعور قوي بأن عليَّ أن أحوّلها إلى نصٍّ " أدبي" في الحال، قبل أن يتضاءل ذلك الإحساس مرَّة أخرى. وأدرك كذلك أنه كان ينبغي عليّ أن أقول قصص بصيغة الجمع، لأنه تبين لي، حتى قبل أن أروى الحادثة التي بدأت بها السلسلة، أنني يجب ألّا أتكلم عن حادثة واحدة بل عن عدَّة حوادث، متمدِّدة، خيوط متشابكة في شلّةٍ أخذتُ أحاول حلّها منذ أن مررتُ برجل مسكين يقود عربة يجرّها حمار.
أترى، لا أدري إذا كنتَ تشبهني، فبالنسبة لي غالباً ما تلتقي الجغرافية الطبيعية مع الجغرافية العاطفية. فعندما أصل أماكن معينة في مساري المعتاد عبر البلدة الشاطئية التي أسكن فيها الآن، تنتفض فجأة ذكريات معينة في دماغي. أحداث أو وقائع كنتُ أظن أنني نسيتها منذ زمن طويل. فبعد حوالي نصف ساعة من المشي، وفي أماكن معينة، تبدأ تلك السلسلة أو الشلّة بالعمل، بحيث لا أستطيع أن أقبض على أي جزء منها دون أن أسحب تلك الشبكة من الخيوط اللزجة التي تضطرني إلى بذل الجهد في حلّها خلال ما تبقّى من مشيتي، وأحياناً خلال بضعة أيام بعد ذلك. ومن الغريب أن نفس المشاهد تثير نفس الذكريات التي تحرّك نفس البقع العاطفية. وبالنسبة إليّ عندما أواجه، لنَقُل المناطق المضطربة، فإنها تقودني إلى الاستنتاجات ذاتها أو عدمها. وقلما أنحرف عن تلك الأخاديد التي أسلكها. ولأضرب لك مثلاً مقارناً حديثاً، فمسار مشيتي يشبه موقعاً إلكترونياً تزوره كل يوم، فمن المحتمل جداً أنك ستضغط على الروابط القديمة نفسها مرّة تلو الأخرى. دائماً.
والرابط في هذه الحالة بالذات يتألَّف من مشهدٍ رأيتُه عندما مررتُ برجلٍ مسكين يقود عربته التي يجرَّها حمار، في نفس الشارع الذي أمشي فيه ـــ فقد شاهدتُ، كما تتوقَّع، تلك الحركة المعتادة التي يستخدمها الرجل لحثِّ حيوانه على الإسراع في السير. كان الوقتُ بُعيد الضحى، وكان الصندوق المصنوع من الخشب الرقائقي والكارتون، المركَّب على عجلتَين والذي يجرُّه الحمار المُنهَك، يبدو فارغاَ مع ذلك، فليس ثمَّة كثير من الأشياء المتروكة أمام المنازل ليجمعها ذلك الرجل. لا بُدَّ أن الطيور المبكرة حصلتْ على ما وُجِد من طريدة ذلك اليوم. فكما ترى، لقد خضع الشاطئ الهادر، وهو الاسم الذي أُطلقُه على شاطئ الهرهورة، لتطوُّرَين: الأوَّل، أن مزيداً من الناس أخذوا الآن يسكنون هنا طوال العام، فيرمون أنواع الأزبال المختلفة التي يعيش عليها كثيرٌ من أهالي القرى وأحياء الفقراء المجاورة؛ والثاني أن جميع الأكواخ الشاطئية التي خلّفتْها الفترة الاستعمارية، قد أُزيلت بسرعة هائلة، وبُنيت مكانها منازل كبيرة ذات ثلاثة طوابق. ولهذا السبب، لم يعُد من النادر أبداً رؤيةُ قطعٍ من الأثاث القديمة، والأدوات الصدئة، وحتى أجزاء من الأبواب، مرمية أمام المنازل، ما جعل أبناء الأحياء الفقيرة مسرورين بالمجيءُ لجمعها. ولك أن تتصوَّر أن جميع تلك الخردة تنتهي في ورشات التدوير، أو أن تلك القطع القابلة للاستعمال تجد حياةً جديدة في الأسواق القروية وشبه القروية، التي تقع في الجهة المعاكسة من السُّلم الاجتماعي للمنطقة التي أقوم فيها الآن بإيداع هذه الكلمات في حاسوبي.
في البداية وقبل حوالي عشرين ياردة من اجتيازي العربة التي يجرّها الحمار، لحظتُ شيئاً من التوافق في إيقاع حركة الرجل والحمار أخذت أستجيب لها، وتبادر إلى ذهني أنني سأرافقهما. ذكّرني ذلك الإيقاع بمشهد آخر رأيته في البقعة ذاتها الأسبوع الماضي بالضبط، وحسبتُ أن في وسعي أن أنسج قصةً حول قطةٍ تطارد دراجةَ رجلٍ يبيع السمك. سمكٌ يحتفظ به في سلَّةٍ مغطاةٍ بالخَيش فيما كان يواصل ركوب الدراجة ويطلق صيحاته: سمك، سمك، ساردين، ساردين. الآن لا بُدَّ أنك تدرك أنه على الرغم من انتشار المحلات التجارية والأسواق الممتازة العملاقة في كل مكان، فإن هؤلاء الباعة المتجولين يجدون في المناطق السكينة ما يكفي من الزبائن لكسب عيشهم. وأحسب أن تلك القطة التي تجري وراء الدراجة، تبدو كأنها كانت تعرف من خبرتها أنه سرعان ما ينفتح شباك ما أو باب أو مرأب، وسينادي صوت امرأة من الداخل على بائع السمك ليقف عندها لترى أو ربما لتشم ما هو معروض للبيع ذلك اليوم. ما أدهشني عند رؤية القطة هو ما ارتسم عليها من ثقة بأنها ستُشبع جوعها على الرغم من المسافة الطويلة التي قطعتها دون أن يستجيب أحد لنداءات بائع السمك على دراجته. ومهما ابتعد بائع السمك بدراجته والقطة تطارده، فستأتي تلك اللحظة، ستأتي تلك اللحظة، بعد المساومة والاختيار وتنظيف السمكة هناك في عين المكان، حين يرمي فيها الرجل بالرؤوس والأحشاء في اتجاه القطة. وخلال الدقائق القليلة التي تابعتُ فيها المشهد، ما زال الوقت مبكراً مثل اليوم، فثمة القليل من السيارات والناس، وبدا لي أنه ما زال على القطة أن تجري لمدّة لا بأس بها قبل أن يأتيها المدد. وعندما يحصل ذلك، ولأسباب تتعلَّق بعائدية المناطق، وندرة الطعام الطازج، إلخ.، فإن القطة قد تضطر حتى إلى الدخول في معركة ضروس للدفاع عن حقها في الأقدمية. تمنيتُ لو كان لدي مصوِّرة لأسجل تلك الحادثة؛ تمنيتُ لو كان في وسعي أن أجمَّد العزيمة، ذلك التعبير عن التصميم الذي ارتسم على ملامح القطة وهي تعدو خلف الدراجة، وصمودها لبذل الجهد اللازم، تعبير كأنه يقول لي: سأنجح، سأنجح، فعليه أن يتوقّف، وهو دائماً يتوقّف...
أتحدث عن تصوير بصري لأن الانسجام الحركي بين سير الحمار وحركة رأس الرجل أمامي
أثار فيَّ نوعاً من الرقص الذي ينسجم بطريقة أو بأخرى مع إيقاع مشاعري في تلك البقعة بالذات، بحيث وجدتني أنتج بحذائي الرياضي إيقاعاً خفيفاً على إسفلت الشارع حتى لحقتُ بالحيوان ورأيت الدم الجديد حيث جرح اللجام زاويتي الفم. ولحظت في الحال القروح المفتوحة على رقبة الحيوان وكتفيه؛ كان في وسعي أن أرى وحتى أن أسمع صاحبه وهو يضربه بعصاه بصورة متكررة في جميع أنحاء جسده، قبل أن أدرك أن العصا كانت مزوّدة بقطعة معدنية في إحدى نهايتيها، لعلها مخرز أو سيخ صغير أو شفرة رقيقة وربّما فتّاحة رسائل صدئة. ومن المؤكّد أن ذلك الرجل يستعمل تلك النهاية، بوصفها كلمة الحسم عندما لا ينفع الضرب المجرَّد، كما في حالة المنحدر الذي نقترب منه الآن، الذي يتطلّب بذل جهد جهيد من طرف الحيوان.
ـ لا تضربه، لا تضرب ذلك الحيوان. ألا ترى الدم يسيل منه؟
ليس هذا ما قلته ــ آسف. لم أقُل شيئاً، لا شيء على الإطلاق. وأسرعتُ قُدماً، وأنا أتساءل لماذا لم أقُل أي شيء، فقط لأجد في شلّال الأجوبة الممكنة، جميع أنواع التبريرات التي غدت أكثر مناعةً كلّما اتسعت المسافة بيني وبين المشهد الحزين. وهذه الأفكار قادت إلى أفكار أخرى، قبل أن تعود لتؤرِّقني الآن، وستبقى تضايقني حتى أضعها على الورق مكتوبة، أو أُبعِدها بالكتابة.
ـ نعم، سيدي. آسف، سيدي.
أواه، لا. ليس ذلك محتملاً على الإطلاق. فليس الرجل من ذلك النوع الذي يستعمل مثل هذه العبارات المتمدِّنة أو حتى يعرفها. فأنا متأكد أنه لم يتعلّم أبداً. فالكلمات التي وصلتني لم تصدر عنه. وإلا لما استعمل أداة التعذيب تلك على ذلك الحيوان الذي لا حيلة له. فالضرب بالعصا على القروح المفتوحة سيء بما فيه الكفاية، أؤكّد لك. ولكن ذلك الشيء الحاد، يا إلهي، وكل تلك الجراح؛ كيف يستطيع أن يقول آسف إذا كان حتى لا يعلم أنه يفعل أي شيء خطأ؟ حاولت أن أقنع نفسي بأنه حتى حينذاك، حتى إذا فتح عينيه فجأة، ورأى أن ما كان يفعله سيصدم أناساً مثلنا، فأنا متأكد بأنه سيعود إلى نفس الأسلوب حالما أبتعد عنه.
وفكرتُ أن الاحتمال الأكثر أن ردّ فعله سيكون: ـ ماذا؟ أنتَ تكلمني؟ لا يهمُّك ذلك! إن بنيته الجسمية بالمقارنة مع بنيتي، والحملقة الشريرة في وجهه، وبالتأكيد ذلك الشيء الذي يمسك بيده، أثارت في نفسي الحزينة رد الفعل الممكن الوحيد: انتبه. أنت تحت ما يكفيك من الضغط، والشارع فارغ في هذا الوقت من النهار، وأنت لا تحمل معك أبداً هاتفاً خلوياً لطلب المساعدة عند الضرورة، ولماذا تتدخَّل فيما لا يعنيك، إضافة إلى تحذيرات مماثلة.
أو قد يكون السكوت ردُّه الوحيد على عتابي غير المنطوق، مجرد نظرة فارغة على وجه فارغ، وجه ونظرة لا يختلفان عن وجه حيوانه البائس ونظرته، ربما يعبّران عن شقاء أكبر، خلافاً للحيوان، لأن الرجل يدرك جميع المشاكل المتعلقة بمستلزمات جهاده اليومي من أجل تأمين معيشته.
ما الفائدة؟ ما الفائدة؟ ...
ووجدتني أُقلِّب ذلك السؤال في فكري، فيما كنتُ أزيد من سرعة مشيي: يا صاحب الفم الكبير. إذا كنتُ تريد أن تفعل الخير، فلماذا لا تمد يد المساعدة ـ وفي وسعك أن تتصدّق، وتخلِّص ذلك الحيوان من العذاب المستمر. وسرعان ما وصلني الجواب البديهي: نعم صدقتي يمكن أن تحسّن حياة ذلك الرجل لأيام قليلة أو ربما لأسابيع على أحسن تقدير، ولكن ماذا عن الحمار؟ سيُباع ذلك الحيوان مرة بعد أخرى، وحتى العربة ستُستعمَل، ومالم أشتريه من ذلك الرجل بنفسي، وأصطحبه إلى الطبيب البيطري بنفسي كما لو كان حيواني الأليف المدلَّل، فإن لا شيء سيغير وضعه، وحتى لو كان ذلك ممكناًــ تصوَّر فقط ذلك الحيوان في ساحة منزلي الأمامية، والنهيق بين الفينة والأخرى، وتشكّي الجيران ــ وحتى لو أستطيع أن أنقذ فرداً واحداً، فماذا عن جميع الاخرين الذين هم في نفس الوضعية؟ الآخرين الذين لا حصر لهم.
وهكذا ترى، أن هذا الشغل أو الانشغال، بدون تكاليف جارية أو ضرائب أو أي شيء آخر، مجرد الاستثمار الأولى في اقتناء ذلك الحيوان المتواضع وفي تلك العربة المصنوعة من حزم مستعملة وأنابيب معدنية وعجلتين في أواخر عمرهما الرابع، وصندوق من الورق المقوّى، يجرّها كلا الرجل والحيوان من شروق الشمس إلى غروبها ـ شيء سهل بما فيه الكفاية، لاحتراف هذه المهنة هنا وفي البلدان الأخرى التي تسمى بالعالم الثالث، من قبل أناس لا يملكون شيئاً على الإطلاق، ومنعَتهم كرامتهم من التسوّل. ينبغي أن تتولّى الحكومة، وليس فرداً واحداً، أو إدارة خاصة بمنع تعذيب الحمير والبغال. ولكن أي وزير أو حزب سياسي أو تنظيم غير حكومي يجرؤ أن يقترح مثل هذا الإجراء الذي سيقابل بكثير من السخرية والاستهزاء، والذي سيؤدي عند تطبيقه إلى صعوبات اقتصادية عند ضياع مئات الآلاف من أسباب المعيشة التي يوفّرها ذلك النشاط؟ سيكون ذلك الإجراء مثل قرار منع التسوّل والاستجداء هنا. حاول وسترى!
لا تضربه، لا تضرب الحيوان، إنه ينزف دماً.
ليس ذلك ما قلتُه. لم أقُل شيئاً ـ آسف ـ لا شيء على الإطلاق، وأسرعتُ لأدفن رأسي في حاسوبي، كما أخبرتك. ولكن ذلك المشهد جعلني أتذكر ذلك الوقت، أو تلك الأوقات، التي كنتُ فيها، كما تعلم، قبل أربعين سنة، أخرج مع مارلا. أتذكر مارلا؟ كانت أكبر مني بقليل آنذاك، وهي مُحِبَّة للحيوانات بحماس، ولا تتردد أبدا في إيقاف مثل أولئك الناس وزجرهم، تماماً مثل ذلك الرجل الذي أثار فيَّ ذلك الانفعال الهادر هذا الصباح. دعني أخبرك أنها في بداية إقامتها في هذا البلد ـ فقد كانت تدّرس اللغة الإنجليزية في مدرسة ـ كانت أول جملة تعلّمتها أو حاولت تعلُّمها باللغة الدارجة تبدو مثل " مات دوغ بووش"، " مات دوغ بووش" (وتعني: ما تضربوش)؛ ولكن بالنسبة لأولئك الذين لم يخاطبهم أناس مثلنا إلا نادراً، ناهيك بامرأة أجنبية شقراء، فإن هذه العبارة تبدو مثل بربرة. وبوجهها ذي الفم المفتوح الذي تنبعث منه جميع ألوان الاستياء والغضب، لا يملكون إلا أن يحدّقوا فيها. أذكر المرات العديدة التي صرخت فيها مارلا على صاحب حمار أو بغل. فيتلفَّت هؤلاء الرجال المساكين يمنة ويسرة وإلى الخلف، ليروا ما إذا كان هناك شخص آخر مقصود بهجومها، فيما أجلس أنا صامتاً في السيّارة. أنا متأكِّد أن لا أحد منهم استطاع أن يفهم بأنها كانت تحاول أن تتكلَّم معهم وبلغتهم لتأمرهم بالتوقُّف عن ضرب تلك الحيوانات السيئة الحظّ التي يركبونها أو يجرّونها وهي تحمل أو لا تحمل أطناناً من الأثقال على ظهورها.
ذات مرّة عندما كنا ما نزال معا ــ استمرت ما يمكن تسميتها بعلاقتنا حوالي سنة قبيل أن ألتقي بالمرأة المرهفة الإحساس التي كُتِب لي أن أرافقها في رحلةٍ سعيدة بطريق لمّا تنتهِ بعد ــ كانت مارلا على وشك أن تورِّطنا معاً في مأزق بغيض، عندما أوقفت سيّارتها ذات صباح في وسط شارع مزدحم، وخرجت من السيّارة محاولةً أن تنتزع بالقوة عصا ثقيلة قبيحة من يد رجل كان مستغرقاً منذ عدّة دقائق مزعجة في ضرب حيوانه الذي حَرُنَ في ذلك السوق السياحي المكتظ فيما كنا نزوره.
بيدَ أنّه من حسن حظ مارلا ـ ومن حسن حظي كذلك، فقد كنتُ في الحقيقة في حيرة من أمري: هل ينبغي عليَّ أن أتدخل أو لا ـ أنَّ المقيمين الأجانب في بلادنا كانوا يتمتعون في ذلك الوقت بامتيازات أقرب ما تكون إلى الحصانة. ولهذا فإنَّ عديدين في الزحام أسرعوا بصورةٍ تلقائية لمنع ذلك المواطن الغاضب من تحويل عصاه من البغل إلى رأس السيدة الصغيرة. مَن الذي كان سيصدِّقه إذا ما قام بدفع المرأة بعنف أو أسقطها أرضاً وهو يصرخ: اتركيني لسبيل حالي، أيتها الفاعلة التاركة؟ مَن الذي سيصدقه إذا ادَّعى أن تلك المرأة المجنونة أوقفت سيارتها، وخرجت منها، واتجهت نحوه وهاجمته دون أيِّ سببٍ على الإطلاق؟ دون أي سبب في مقدوره أن يدركه، وطبعاً لم يستطِع أن يفهم حينذاك، بل ربّما لا يستطيع أن يفهم حتى اليوم إذا كان ما يزال حيّاً: لماذا خرجتْ من سيارتها، وعرقلتْ حركة المرور، ورمتْ بجسمها الصغير عليه، وهي ترتعد غضباً، محاولةً إيذاءَه؟ وما فعله هو مجرَّد إبعادها عنه. كانت ستذهب جميع شروحاته وتوسلاته سُدىً، وهو في طريقه إلى مركز الشرطة، بسبب الفارق الفاضح بين المتخاصمَين في الحجم، وبسبب مليون شيء آخر.
وعندما تذكّرت عبارة " مات دوغ بووش" القديمة، تداعت أفكار أخرى في دماغي، واختلطت بذكريات حياةٍ، في وقت أقف على عتبتها وقد أصبح معظمها الآن ورائي. ومن هذه الذكريات، شغلني استعمال جديد لصورة تلك القطة، التي ذكرتها قبل قليل، وهي تواصل الجري وراء دراجة صياد السمك. فأنا في نهاية الأمر، لم أرَ إلا فرقاً قليلاً بين وضعي آنذاك وبين القطة التي كانت تجري وراء سمكة مفترضة. فقبلَ أربعة عقود من الزمن، كنتُ أجرى وراء شيء كانت له جاذبية قوية تماماً مثل سمك الساردين للقطة السائبة في ذلك الشاطئ الهادر. كنت مدفوعاً بجميع الدروس التي علّمتني أمي عن الحياة، وأنا كلي ثقة وأمل، نحو هدفٍ أسمى وهو أن أكون مؤثّراً في الحياة وأُحدث فرقاً فيها، وكنتُ أقول لنفسي: ستصل إلى هناك، ستصل إلى هناك، دون أن أكون قادراً على تعريف " هناك ". عندك القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة، ولديك التعليم الجيد، فقط كُن حذراً. وكِن متحفِّظاً. وأخيراً عندما وصلت إلى هناك، وجدت أن السمكةَ متعفِّنة. وهكذا أضعتُ جميع الوقت في السعي لتحقيق أهدافي، وفي الدفاع عنها. واستنفدتُ جميع طاقتي في محاولةٍ لتغييرِ أشياءٍ لم أكُن أملك وسائل تغييرها، ولم أكن قادراً على التحرُّك بنفسي، تماماً مثل ذلك الحمار بدون استنهاض قاسٍ.
وطبيعي أن جميع ذلك التفكير، الموضوع بين قوسين في كل نهاية من نهايتي نفق الأربعين سنة من احتجاجات "مات دوغ بووش" المنطوقة والصامتة، جعلني طوال ما تبقى من مشيتي مشغولا بحلِّ كتلةِ خيوط الذكريات، ثم تغطية ما أنبشُ منها بالتراب. ولنتحّدث يا صديقي عن مادةٍ للأدب، أو مادةٍ لمحكمة جنائية، حتى لو كانت مُتَخَيَّلَة. محكمة الضمير الإنساني. كيف تُعِدُّ مرافعةً للدفاع عن جميع ما لم تفعله في حياتك. وما يهمني خطّان للدفاع، مثل خطَّين للحياة، هما كل ما أستطيع أن أعتمده الآن.
في الخط الأول، كنتُ سأحاول أن أبرّر الفعل أو اللافعل بالحالات التي شهدتُها طوال حياتي. وعندما لا يتكلّم الملايين، ولا يسمعون، وحتى لا يرون، فإنَّ صمتك يا صديقي سيجعل منك خبيراً من نوع ما في هذا الشيء الذي يُسمّى بالتعذيب، سواء استُعمِل مع الحيوانات أو مع البشر، وسواء استُعمِل في العموم أو الخصوص، في العلن أو الخفاء.
وفي الخط الثاني، يا صديقي، الخط الثاني من الدفاع أو الإنقاذ في هذه المحاكمة المتخيَّلَة، سيقلب الوضع، ويجعلني أقف شاهداً على جميع أولئك الأحياء أو الموتى، البعيدين أو الذين ما زالوا قريبين، أولئك الذين وضعوني مجازيا في موقف ذلك الحيوان المعذَّب. وقد أفعل ذلك على شكل حوار داخلي أو حتى مسرحية، عندما يحين الوقت لذلك، قبل موتي. أما الآن فدعني أقول لك إنني لا أميل إلى الحفر أكثر من اللازم.
انتهت
***
الأدب والبيئة
د. علي القاسمي
في أواسط القرن العشرين، كان الاقتصاديون يعملون بمفهوم " التنمية الاقتصادية" الذي يقيس تقدُّم البلاد بالزيادة السنوية في إنتاجها القومي، ومعياره معدّلُ دخلِ الفرد. فالهدف هو نمو ثروة البلاد بحث يكون معدل الزيادة السنوية فيها أعلى من معدل الزيادة السنوية في سكّانها.
وفي الثلث الأخير من القرن العشرين ظهر مفهومان:
الأول، حركة " الخضر " التي تجسّدت في جمعيات وأحزاب سياسية في أوربا وكندا وأستراليا، أي البلدان الصناعية. وتدعو حركة الخضر إلى المحافظة على الطبيعة، والاهتمام بالبيئة، والحدّ من التلوّث الذي تفرزه المصانع.
الثاني، مفهوم التنمية البشرية، الذي يقيس تقدُّم البلاد لا بنموها الاقتصادي، بل برقيِّ حياة المواطن فيها، بحيث أصبح الإنسان محور التنمية وهدفها ووسيلتها في آن واحد. وابتداءً من سنة 1990، أخذت منظمة الأمم المتحدة تُصدِر تقريراً سنوياً بعنوان " تقرير التنمية البشرية لعام ـــ". ويقيس هذا التقريرُ التنميةَ البشريةَ، بثلاثة مؤشِّرات: التعليم، والصَّحة، وكفاية الدخل الفردي لتأمين معيشةً تليق بالكرامة الإنسانية. وروَّج هذا التقرير لمفاهيم أخرى في مقدمتها مفهوم " التنمية المستدامة" أي استخدام الطبيعة (الأرض، الماء، الهواء، العناصر الأخرى في البيئة) في عملية التنمية بصورة عقلانية تلبّي احتياجات الحاضر، دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها.
ونظراً لتبادل التأثير والتأثُّر بين الدراسات الإنسانية، سرعان ما ظهر في الأدب، أواخر القرن العشرين، مفهوم " النقد الأدبي البيئي" الذي يُعنى بدراسة الطبيعة والبيئة والمكان في النصوص الإبداعية. وجاء هذا المفهوم بعد ما يسمى بأدب ما بعد الحداثة.
وإذا كان بعض أعلام النقد الأدبي البيئي في الغرب يشيرون إلى أننا ينبغي أن نتلمَّس أصوله في نتاج شعراء الحركة الرومانسية في أوربا خلال القرن التاسع عشر، لعنايتهم بوصف الطبيعة وجمالها؛ فإن الشعر الجاهلي مليء بوصف الطبيعة والبيئة: رمالها، ونباتاتها، والناقة أو الفرس التي يركبها الشاعر، وأطلال منازل الحبيبة التي تشبه المها في لفتاتها وجيدها وعينيها، إلخ. أليس الأدب محاكاة للطبيعة والحياة؟!
ومنذ أن حصل صديقي وجاري الدكتور حسن مكوار على الدكتوراه في الأدب الأمريكي من جامعة براون في الولايات المتحدة في أواخر السبعينيات، وهو يسكن في شاطئ الهرهورة بالقرب من العاصمة المغربية، الرباط. وقد نما لديه ولع شديد ببيئة ذلك الشاطئ الذي يقع على المحيط الأطلسي، بجميع عناصره: الناس بمَن فيهم المشردون، والحيوانات الداجنة والسائبة، والنباتات، والطيور البحرية والبرية، والطبيعة الخلابة. وقد تمثَّل هذا الولع في جميع أعماله الفنية: الشعر، الرواية، القصة، والرسم. علما بأن دافعه الأول لإبداعه ليس " النقد الأدبي البيئي" بل حبّه للشاطئ الذي يسكن فيه. بيدَ أن إنتاجه الأدبي كلَّه باللغة الإنجليزية. وقد لفتت انتباهي قصته القصيرة " مات دُوغ بوش" التي نشرتها مجلة Mizna الأمريكية في عددها الصادر في 8/2/2017، فترجمتُها إلى العربية، آملاً أن تعجب القارئ الكريم كذلك وهي بعباءتها العربية.
المترجم
تعليقات (26)