ـ محمود محمد علي، رئيس قسم الفلسفة في جامعة أسيوط، " علي القاسمي...الفيلسوف الأديب المغترب".
علي القاسمي .. الفيلسوف - الأديب المغترب
تعد أعمال الفيلسوف "علي بن الحاج محمد بن الحاج عيسى بن الحاج حسين القاسمي" (المعروف بالدكتور علي القاسمي) في اعتقادي من أعمق ما عرفه عصرنا هذا، ومن أكثر الأعمال أصالة ؛ وقديماً قال فيلسوف العرب "أبو يعقوب الكندي" (250هـ) عن الفلسفة بأنها هي " علم الأشياء بحقائقها ، ويحتاج طالب العلم إلي ستة أشياء حتي يكون فيلسوفاً ، فإن نقصت لم يتم : ذهن بارع ، عشق لازم، صبر جميل، روح خال، فاتح مُلهم، مدة طويلة، وأحسب أن "علي القاسمي" (مع حفظ الألقاب) قد تحققت له، وفيه هذه الشروط التي فرضها فيلسوف العرب، في دارس الفلسفة وطالبها؛ إذ كان النبوغ هو المقدرة علي تحمل الجهد المستمر، علي حد قول تشارلز ديكنز ، فإن بإمكاننا القول إن المفكر الناقد العراقي "علي القاسمي" كان واحداً من النابغين العرب الذين أضافوا كثيراً إلي الثقافة الإنسانية ، فهو أحد الفلاسفة العراقيين المعاصرين الذين يتمتعون بمواهب لا تنكر، وبطاقة فلسفية حقيقية؛ لقد استطاع أن يفرض علي الجميع أن يكون أحد الأسماء العراقية الهامة واللامعة في فكرنا المعاصر، وأن يسهم بسقط وافر في بناء هذا الصرح، بحيث تكون اللبنات الفكرية والأدبية والسياسية التي يضعها بمثابة الأساس الذي يبني عليه الكثيرون (سواء من تلاميذه، أو من مشاهديه) مشاريعهم الفكرية، ورؤاهم الفلسفية في الفكر العربي المعاصر.
وعلي القاسمي من الفلاسفة (التأمليين والتطبيقيين) الذين نذروا حياتهم للبحث عن الحكمة متذرعاً بمبادئ الحق والخير والجمال، وهو إنساناً في تفلسفه، وفيلسوفاً في إنسانيته، وبين الإنسان والفيلسوف تتجلي المشاغبة الفلسفية لهذا الرجل المتعدد الأوجه سواء كمترجم، أو معجمي ، أو محقق، أو ناقد، أو سياسي، أو أكاديمي، أو أديب .. الخ؛ فهو غزير الإنتاج ، موسوعي المعرفة ، لديه دأب علي البحث والتنقيب ، وشهوة لا تقاوم لتعلم كل ما هو جديد ومبتكر ، وهو رجل منضبط في فكره ومفرداته ، ويتمتع بروح دعابة، وخفة دم، ونظرة ساخرة للحياة والكون. وهو في كل هذا يستهدي بشرع قيمي منسق ، تتدفق في عروقه حيوية الصحة والسلامة السوية ، وينطلق من عقل صاف مدرب علي توليد الأفكار الناضجة الناقدة الملتهبة حماسة وفتوة.
وهو مغامراً لا يحدّه خوف، ومناضلاً لا تتعبه خيبة، ومقاوماً لم تكسِره شراسة الأيام ، وهو من الرجال الأفذاذ الذين تحملوا معاناة الغربة التي أزهرت في ما بعد كتباً لم تكن في الحسبان ؛ علاوة علي أنه صاحب فكر متّقد- انتهج النقد سبيلاً، والتجديد أسلوباً، والكشف عن المنسي هدفاً، وهو نوع عجيب من البشر فقد وهبه الله القدرة في التواصل البنّاء مع المتلقّين من حوله، وعدم الرضا بالبكاء على الأطلال، ولا التغني بنهضة سبقت، وهو مبدعاً في أكثر من مجال؛ وكأنه مركز أبحاث، أو خلية نحل لها استراتيجية خاصة بكل يوم، تنجزها وتنتقل إلى أخرى متّجهة نحو حقل أبعد ، ولعل تنقله الدائم بين مختلف بلدان العالم ، وتقلده عدة مناصب ثقافية ودبلوماسية ، أتاح له تجربة ثرية في الأدب والحياة بكافة مناحيها ، وهذه الشمولية ، وهذه الموسوعية في الفكر والثقافة نلمسها فعلاً ، حين نطالع مؤلفاته التي تتميز بالتنوع والتعدد بين القصة، والمعاجم، والدراسات الأدبية، والفلسفية، والسياسية، والعلمية .. وهلم جرا ؛ حيث كان متعدد الاهتمامات، فهو أديب وقصاص ، باحث وناقد ، رائد من رواد الفكر والثقافي ، لغوي ومجمعي ، صحفي وسياسي ، وله في كل جانب من هذه الجوانب خلق وابتكار ، وآراء ونظريات.
وثمة نقطة مهمة وجديرة بالإشارة ، وهي أن علي القاسمي يعد فيلسوف حقيقي، وذلك لأنه نجح في خلق لغة خاصة به للتعبير عن دقائق أفكاره، ومنعرجات مسائله، ومساقاته حلوله بعبارات شفافة رقاقة ، لا تشويش فيها ، إلا ما كان من بعض التشقيقات الاصلاحية التي يصعب علي المرء مجاراتها ببادئ الرأي . استطاع أن يكتب بلغة فلسفية متصالحة مع ذاتها ومع واقعها التاريخي ؛ لغة منسجمة رقراقة قوية مبتكرة بعيدة عن الانغلاق ، ولكنها لا تفرط في مقتضيات الصناعة الفلسفية ، تخلت كتابته عن الطابع الدعوي ، وسلكت مسلك الاستنباط السلس والجدل السيال . يمتلك قدرة كبيرة علي تطويع المعجم العربي بمقتضيات قول فلسفي متجدد في مفاهيمه، ولغته، وآفاقه، ومشاكله، وآلياته ؛ قول لا عجمة فيه ولا حذلقة ولا رطانة . وما كان ليتأتى له ذلك لولا درايته العميقة بالنص العربي في ألوانه المختلفة، الفلسفية، والكلامية، والأدبية، والسياسية . كان همه الأول التبليغ ، وبهذا يمكن اعتباره مناضلاً معجمياً – بلاغياً يريد أن يوصل خطابه لا إلي الخواص من الفلاسفة ، بل إلي جمهور المثقفين من شتي المشارب . ولو تتبعنا المعجم الذي يستعمله لوجدنا فيه من الغني ما لا يستطيع بحث واحد أن يستوفيه . كان يؤمن بأن المرء لا يمكنه أن يتفلسف إلا داخل لغته الوطنية . وكانت تخريجاته الفلسفية نتيجة توغلاته اللغوية واشتقاقاتها الصرفية . من يريد أن يعرف الفرق بين القول الفلسفي والقول الأدبي فعليه أن يقرأ هذا الكتاب : علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية، والمعجمية العربية بين النظرية والتطبيق، وأيضاً صناعة المعجم التاريخي للغة العربية، وكذلك كتابه الترجمة وأدواتها: دراسات في النظرية والتطبيق.
ولد علي القاسمي في بلدة الحمزة الشرقي في محافظة القادسية في العراق في 31/5/1942، وهو مقيم في المملكة المغربية منذ سنة 1972، تلقى تعليمه العالي في جامعاتٍ في العراق (جامعة بغداد)، ولبنان (الجامعة الأمريكية في بيروت، وجامعة بيروت العربية)، وبريطانيا (جامعة أكسفورد)، وفرنسا (جامعة السوربون)، والولايات المتحدة الأمريكية (جامعة تكساس في أوستن). وحصل على بكالوريوس (مرتبة الشرف) في الآداب، وليسانس في الحقوق، وماجستير في التربية، ودكتوراه الفلسفة في علم اللغة التطبيقي . مارس التعليم العالي وعمل مديراً في المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بالرباط؛ ومديراً للأمانة العامة لاتحاد جامعات العالم الإسلامي. يعمل حالياً مستشاراً لمكتب تنسيق التعريب بالرباط، وهو عضو مراسل عن العراق في مجمع اللغة العربية بالقاهرة وفي مجمع اللغة العربية بدمشق، وعضو الهيئة الاستشارية للمركز الكوري للغة العربية والثقافة الإسلامية في سيول. يجيد الإنكليزية والفرنسية، ويلم بالإسبانية والألمانية.
وعلي القاسمي كما قلت باحث جامعي وكاتب ومثقف متعدد الاهتمامات، له أكثر من أربعين كتاباً نُشِرت في مختلف الأقطار العربية تتناول حقوق الإنسان، والتنمية ، والتعليم العالي،. كما أنه مبدع نشر عدداً من الأعمال السردية، لقيت اهتمام النقاد في المشرق والمغرب. ولعل أهم مؤلفاته هي: العراق في القلب: دراسات في حضارة العراق، والنور والعتمة: إشكالية الحرية في الأدب العربي، ومعجم الاستشهادات الموسّع، وعلم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية، والمعجمية العربية بين النظرية والتطبيق، والحب والإبداع والجنون: دراسات في طبيعة الكتابة الأدبية، ودوائر الأحزان، ومفاهيم العقل العربي، ومرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة، والجامعة والتنمية، والتقنيات التربوية في تعليم العربية لغير الناطقين بها، والمعجم العربي الأساسي، وعلم اللغة وصناعة المعجم، ومختبر اللغة .. وهلم جرا.
وفي تلك الكتابات والأبحاث كان "علي القاسمي" رائداً في منهجه وبحثه ، في درسه ومحاضراته ، فلم يقنع في بحوثه الأدبية بما درج عليه أصحاب التراجم في التعريف بالكتاب والشعراء من الوقوف عند حياتهم وذكر بعض مؤلفاتهم. وحرص " علي القاسمي" علي أن يربط هؤلاء الكتاب والشعراء ببيئتهم والظروف المحيطة بهم، وهذا ربط طبيعي ومنطقي ، لأن الحياة الأدبية في مجتمع ما وثيقة الصلة بالبيئة الطبيعة ، والحياة السياسية والفكرية في هذا المجتمع بوجه عام. وقد توسع في هذا الربط والتحليل توسعاً كبيراً. ولاحظ بحق أن بعض التراجم قد لا يتحرون الدقة فيما ينقلون ، وكثيراً ما يأخذ لاحقهم من سابقهم في غير تحقيق ولا تدقيق ، وأخذ نفسه بمبدأ الشك الديكارتي؛ مثل عميد الأدب العربي الدكتور "طه حسين" الذي كان معجباً به، وحاول ما وسعه أن يطبقه في كتاباته وبحوثه ، فكان يري " علي القاسمي" أن الآراء والأحكام قابلة للأخذ والرد ، والتحليل والمناقشة إلي أن يقوم الدليل علي صحتها . وكم فتح شكه هذا أفقاً كانت مغمرة وأذهانا كانت مغلقة.
أما محاضراته ففيها هي الأخرى ريادة جديدة ، فلم يقف بها عند الحرم الجامعي ، بل خرج بها إلي قاعة المحاضرات العامة في المغرب أو في أمريكا ، وأقبل عليها جمهور المثقفين من الجامعيين ، وفتح باباً فسيحاً للتعليق والملاحظة ، أو للنقد والمناقشة. وأحدثت نشاطاً فكرياً وثقافياً ما أحوجنا أن نستعيده. وهو البار بأستاذيته ؛ حيث جعل منها طاقة نور يهرع إليه من يود الاستفادة والاستزادة ، ونبعاً يفيض علماً وقلباً يتسع لكل مريد ، والبار بتلاميذه؛ حيث جعل من التلمذة شوقاً ذاتياً وسعياً من طالب المعرفة ، وهو الملاذ للرفاق عندما تضل بهم السبل ، وتتباين المصالح والرؤي ، والبار بمحافل العلم وتجمعاته ، فهو الموجود دائماً ، وأول الحضور، وآخر المنصرفين، وأول المستمعين وآخر المتحدثين.
علاوة علي أنه كان عاشقاً للغة بلا منازع ، وأمير من أمراء البلاغة والبيان ، فهو أديب فذ، وفنان عظيم ، وصاحب أسلوب طلي فريد، وهو أيضاً ناقد عالم بارع ، ومعلم قدير لا يباري.. لا يذكر يوماً لم يجلس فيه إلي كتاب ، حتي قيل عنه إن من يزور بيته يظن أنه في مكتبة تجتمع فيها الكتب من كل صنف ولون ، وتحمل بين دفتيها معارف وذكريات عزيزة لا تنتهي ، كثيراً ما حدث ضيفه عن بعضها إلي درجة تظن أنها جزء لا يتجزأ من حياته ووجدانه.
وعلي القاسمي مكافح كبير ، قضي حياته في كفاح متصل ، بدأه في طفولته وشبابه لكي يعد نفسه لما سيضطلع به من رسالة كبري في كهولته وشيخوخته ، كافح في العراق حين تلقى تعليمه العالي في جامعاتها، وفي لبنان حين تلقي تعليمه بالجامعة الأمريكية في بيروت، وجامعة بيروت العربية التي هي فرع من جامعة الإسكندرية بمصر ، وتابع الكفاح في فرنسا ، وما إن سافر إلي المغرب، واستقر في "مكناسة" (كما قيل لي) حتي اضطلع بكفاح طويل مرير ، تعددت ألوانه ، وتنوعت سبله، فشمل الصحافة والسياسة ، والأدب واللغة ، والعلم والتعليم ، استعان عليه بسحر الكلمة وسلطان العقل ، وبداهة المنطق ، وربما لجأ إلي قارعة أو قنبلة يلقيها ، فتهز المشاعر ، وتستلفت الأنظار ، ولا شك في أن كتاب "مختبر اللغة" ، الذي نشر سنة 1970 في الكويت من أولي القنابل ، ثم جاء كتابه "علم المصطلح : أسسه النظرية وتطبيقاته العملية"؛ والذي نشر في بيروت سنة 2008م في خاتمة المطاف (ولكن ليس آخرا) . وفي كفاحه هذا دروس ما أحوجنا إليها ، وما أجدرنا أن نستذكرها، فهو دون نزاع من أقوي الأصوات العراقية المعاصرة التي جهرت منذ منتصف عشرينيات القرن الماضي بضرورة فك الأغلال وتحطيم القيود الفكرية.. اعتد بحرية الرأي، وتحكيم العقل، واستنكر التسليم المطلق ، بل دعا إلي الشك والمعارضة، وهو (كما قلت من قبل ) كثيراً ما يذكرني بطه حسين الذي أدخل المنهج النقدي في ميادين لم يكن مسلماً بها من قبل أن يطبق فيها .
وعلي القاسمي كما قلت جامعي أصيل ، بدأ حياته الجامعية في العراق، ثم تايع السير في لبنان ومصر وإنجلترا، وفي جامعات فرنسا؛ وبخاصة السربون ؛ حيث تتلمذ لكبار أساتذتها المعاصرين ، وأفاد من درسهم وبحثهم ، وعول علي طرقهم ومناهجهم . وكان يؤمن إيماناً جازماً بالتقاليد الجامعية ، وحاول ما وسعه أن يثبت أقدامها في جامعة محمد الخامس بالمغرب الناشئة في عهده واستقلال الجامعة في رأيه مبدأ أساسي ، ولا حياة لجامعة ولا لتعليم جامعي بدونه.
لقد كان "علي القاسمي" ومازال من أولئك الذين شادوا صرحاً حضارياً عظيماً للبلاغـة العربية وللمصطلحات، ولمختلف الفنون؛ حيث ألّف أكثر من أربعين كتاباً في مجال البلاغة، والنقد، والأدب، والثقافة، والتعريب، والتراث والمصطلحات، وأنجز عدداً لافتاً من المعاجم، كما حقق العديد من كتب التراث ، ولا يزال يتدفق عطاء وينتج الكثير من البحوث والدراسات، وقد انتشرت كتبه ورسائله فـي العالم العربي، ونشر أكثر من خمسين بحثاً علمياً داخل العراق وخارجه، وقدم عدة ندوات في الإذاعة المرئية.
وأختم هذا المقال بما قاله العلامة الدكتور جميل صليبا في كتابه "مستقبل التربية في العالم العربي" : كلما كانت إحاطة العالم بمادته أوسع ، كان ميل تلاميذه اعظم ، فيحبونه ويعجبون به ، ويقبلون عليه لما يجدون عنده من غزارة المادة وحسن التصرف في أطراف . فإذا شئنا أن نكون معلمين صالحين وجب علينا أن نملأ عقولنا من الموضوع الذي نعلمه . وهذه قاعدة أولية من قواعد التعليم".. واعتقد أن هذا ينطبق علي "علي القاسمي".
وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ الاكاديمي حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الأديب والاكاديمي، فتحية طيبة للدكتور علي القاسمي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.
المشاركون في هذه المحادثة
تعليقات (44)