علي القاسمي: دير ياسين
علي القاسمي: دير ياسين
فصلة من رواية "مرافئ الحب السبعة"
نقلا عن صحيفة المثقف
كانت الحافلة التي أقلت سليم وزكي من بغداد إلى بيروت تطوي الصحراء المترامية الأطراف طيّاًّ، والطريق تمتدُّ تحت أشعةِ القمر الفضيَّة امتدادَ البصر. لا شيءَ يحجب البصر أو يصدُّه في الصحراء، لا شيء سوى الرمال، رمال بِكر لم يطرقها طارق، ولم ينبت فيها نبت. تصرف عينَيكَ عنها إلى السماء لترى القمر مضيئاً ومحاطاً بالنجوم اللاهثة،فتشعر بعظمة الكون واتّساعه. وتعجب من امتداد الصحراء وشسوعها. ينطلق العقل من عقاله مبهوراً بين رمال الصحراء الذهبيَّة والنجوم الفضيّة اللامعة، وتقول في نفسكَ لا غرو أنَّ جميع الأديان السماويَّة الكبرى وُلدت في هذه البيداء، لأنّ أفكار السماء لا يتسع لها مكان إلا إذا كان باتساع هذه الصحراء.
نام معظم الركّاب في مقاعدهم، حتّى زكي الذي لم يفُه إلا بجملةٍ واحدةٍ بعد أن تحرّكت الحافة في بغداد:
- ها أنا ذا أغادر بغداد دون أن أودِّع حميدة وهي على بُعد خطواتٍ معدودةٍ مني!
على حين ظلَّ سليم ذاهلاً صامتاً، ولم يحطَّ على عينَيه طائرُ النوم.
إلى جانب سليم في الحافلة، جلس رجلٌ فلسطينيٌّ في الثلاثينيّات من عمره. بقي هذا الرجل يتطلَّع، مثل سليم، من النافذة إلى السماء والصحراء. التفتَ إلى جهة سليم فالتقت نظراتهما. قرأ سليم في عينَيه رغبةً في الكلام. كان يريد أن يتحدَّث إليه أو إلى أيّ إنسان، أو يحدّث نفسه بصوتٍ مسموع. قال له سليم:
ـ هل هيجتْ قريحتَكَ الصحراء؟
ـ ليست الصحراء، بل الاقتراب من الديار.
سأله سليم:
ـ من أيِّ بلدةٍ أنت؟
ـ دير ياسين، دير ياسين.
كان اسمها كافياً لفتح الجرح فاغراً في القلب. لم يقُل سليم شيئاً ولكنَّ عينَيه تضرَّعتا إلى الرجل أن يتحدَّث إليه، أن يزيد الحزن اشتعالاً، والجرح إيلاماً. قال الرجل:
" كنت نائماً مع أُمّي وأخي الكبير وأختي الصغيرة. أفقنا بعد منتصف الليل على صوت المدافع، ولعلعة الرصاص، من جميع الجهات. كان عمري تسعة أعوام. لن أنسى ذلك اليوم. خرج أخي الكبير ليستطلع الأمر. عاد بعد قليل بسرعةٍ: اليهود يهاجمون القرية. كانت دير ياسين بلدةً صغيرةً جميلةً على ربوةٍ عالية. وكانت بيوتها المبنيَّة من الحجر الأبيض تنتشر على السفوح بشكل متناسق جميل، وقد أحاطت بها أشجار الصنوبر والأشجار المثمرة. لم يكُن أبي معنا تلك الليلة، كان يقوم بالحراسة مع عمّي وخالي. عمّي كان مسؤولاً عن المدفع الرشاش المنصوب على أحد مدخلي القرية. أخذَنا أخي الكبير إلى طريق عين كارم، وأعطاني أُختي الصغيرة أحملها على ظهري، لأواصل السير مع عدد من الأطفال الآخرين وبعض النساء، ودَّعنا على عجلٍ وعاد. مررنا على مدرستي الصغيرة. كان الرصاص يمرّ فوق رؤوسنا مثل المطر. كانت دير ياسين مثالاً للتسامح والتآخي. حتّى اسمها مركّب من ديرٍ بناه راهبٌ مسيحيٌّ منذ قرون واسم مسجد القرية الذي بناه الشيخ ياسين. عند انبلاجِ الفجر كنا منهكين مذعورين. توقّفنا على ربوة في الطريق تطلُّ على سفح القرية. رأينا من بعيد اليهودَ يقتحمون بيوت القرية، يجمعون النساء والأطفال والشيوخ، يجعلونهم يقفون أمام جدار ويطلقون النار عليهم. كان بيتنا في منطقة الجلجال ليس بعيداً عن الجملونة أو الخربة. كان أهالي القرية لا يتجرأون على دخولها ظنّاً منهم أنَّ القبور بداخلها مسكونة. لم أرَ والدي ولا أخي ولا أُمّي بعد ذلك اليوم. أُمّي بقيت تساعد الجرحى. قتل اليهود أكثر من 250 شخصاً في يومٍ واحد. إنّها مجزرة. مجزرة..."
ثمَّ أطرق زيدان قليلاً، ورفع رأسه وأضاف:
ــــ إنَّ الصهاينة يستلهمون تراثهم الحربيّ كما ورد في الأسفار التي كتبها أحبارهم، وهي مليئةٌ بالحقد والكراهية. ففي سِفر يشوع 16:22: "وحرِّموا كلَّ ما في المدينة من رجلٍ وامرأة، من طفل وشيخ حتّى البقر والغنم والحمير بحدِّ السيف." وفي سِفر صموئيل15:3:" فالآن اذهب واضرب عماليق وحرِّموا كلَّ ما له، ولا تعفُ عنهم، بل اقتلْ رجلاً وامرأةً وطفلاً ورضيعاً وبقراً وغنماً وجملاً و حماراً". فتراثهم لا يشتمل بالمقابل على وصيةٍ مثل وصية الخليفة أبي بكر الصديق إلى يزيد بن أبي سفيان، قائدِ أحد الجيوش المتوجِّهة إلى الشام لتحرير أهلها من قبضة الرومان: " إنّي موصيكم بعشر كلماتٍ فاحفظوهن: لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً صغيراً، ولا امرأةً، ولا تهدموا بيتاً أو بيعةً، ولا تقطعوا شجراً مثمراً، ولا تعقروا بهيمةً إلا لأكل، ولا تحرقوا نخلاً ولا تغرقوه..."، وهي وصية نعلّمها لأبنائنا في المدارس، وقد سبقت مفهوم الغرب لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بأكثر من ألف وأربع مئة سنة.
كان اسمه زيدان. وكان عائداً من بغداد في طريقه إلى لبنان، ليلتحق بالفدائيِّين الفلسطينيِّين. وكانحعلي القاسمي
.........................
* علي القاسمي. مرافئ الحب السبعة ـــ رواية ـــ ط1 (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2012)، وللرواية عدَّة طبعات؛ وهي متوافرة على الشابكة للقراءة والتحميل في موقع "أصدقاء الدكتور علي القاسمي".
المشاركون في هذه المحادثة
تعليقات (32)