أستاذتي الدكتورة سيرليَن ديلي
علي القاسمي: أستاذتي الدكتورة سيرليَن ديلي
وكاثرين مانسفيلد
في أواسط الستينيّات من القرن الماضي، التحقتُ طالباً بالجامعة الأمريكية في بيروت. وبعد أكثر من شهر بعد بداية الفصل الدراسي، أقام رئيس الجامعة، الدكتور صموئيل كيركوود، حفلاً للترحيب بالطلاب الجدد. لا بُدَّ أنه كان مشغولاً جداً في بداية الفصل. وفي الحقيقة، هو مشغولٌ دائماً، فلم يلبث في الحفل إلا أكثر من نصف ساعة بقليل.
حضرتُ الحفل في أوَّلِ دقيقةٍ فيه، كما لو كان درساً من الدروس. وهناك التقيتُ بعض زملائي في مادَّة اللغة الإنكليزية. وهيمن على لقائهم شكواهم من صعوبة أستاذة تلك المادة الدكتورة سيرليَن ديلي. فهي، في بداية كلِّ أسبوع من الأسابيع الأربعة المنصرمة، تدخل إلى غرفة الدرس، وتقول : Quiz وهذا يعني اختبار دقيق سريع. ولم نسمع هذه الكلمة من أيِّ أستاذ آخر غيرها. ويتكوَّن اختبارها من سؤال واحد تكون إجابته قصيرة جداً، بكلمة أو كلمتيْن ولا تتجاوز السطر الواحد على أيّة حال، ويتعلَّق بالمعلومات التي أدْلَت بها في الأسبوع المنصرم أو بالكتب التي أوصت بقراءتها خلال ذلك الأسبوع. وفي الدرس التالي تعيد الأوراق إلى الطلاب وعلى كل ورقة منها علامة (0) أي صفراً.
عندما تجمعنا حول الرئيس، للسلام عليه، أثار أحدُنا مشكلتنا مع أستاذتنا الدكتورة سيرليَن ديلي، واتَّهمها بأنَّها تعاملنا باستعلاء وعدوانية، وأنَّنا سنرسب جميعاً في هذه المادَّة بكلِّ تأكيد. وختمَ مرافعته برجاء رئيس الجامعة ليتكرَّم بالتوجيه لحلِّ المشكلة. ابتسم الرئيس ابتسامةً ودود، وتكلَّم بهدوءٍ، يجمع بين لطف الطبيب مع المريض ودبلوماسية السياسي مع الجماهير ( فالدكتور كيركوود طبيب بالمهنة شغل منصب عميد الكلية الطبية في تلك الجامعة سنوات طويلة، كما أنه ينتمي إلى أُسرة أمريكية عريقة في السياسة)، فقال:
ـ "إنَّ الأستاذة سيرليَن ديلي من أبرز أساتذة الإنكليزية في الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى أنها أديبةٌ ومترجمةٌ معروفة، وهي أستاذةٌ زائرة نالت منحة من "برنامج فولبرايت" لتدرِّسكم سنةً واحدةً فقط، وهذه المنح محدودة لا ينالها إلا الأساتذةُ المتميزون. إنَّكم محظوظون لتلقّي معرفتكم اللغوية منها."
في تلك اللحظة وصل رجلٌ، ووقف خلف الدكتور كيركوود، وهمس في أذنه بكلمة واحدة وانصرف. توقَّف الرئيس عن الكلام لحظة، ثمَّ وجَّه ابتسامته الودود ونظرته الحنون إلى كلِّ واحد منا لحظات، كأنه يلتقط صورةً لكلِّ واحدٍ بعينيْه النفّاذتيْن، ثمَّ استأنف كلامه قائلاً:
ـ "لم تُتح لي الفرصة بعدُ للتعرّف عليها شخصياً. لعلّها تشعر بنوعٍ من الغربة أو الوحدة، بعد مغادرتها بلادها وأهلها. كونوا ودودين معها واجتهدوا، وسترون أنّها سيّدة لطيفة وستبادلكم المحبّة والمودَّة.."
ثمَّ ودَّعنا بلطفٍ بالغ، وانصرف.
كان في الحفل كثيرٌ من أساتذتنا، وتحدَّثنا مع بعضهم، ولكن لم تلُح لنا الدكتورة سيرليَن ديلي.
وفي أوَّل درسٍ لها بعدَ ذلك الحفل، لم يبدُ أيُّ تبدُّل على طريقتها التدريسية أو سلوكها الشخصي؛ فأوَّل لفظٍ نطقتْ به لم يكُن تحية الصباح، بل تلك الكلمة المخيفة " Quiz". وكانت ملامحُ وجهها المتجهم تدلُّ على ضيقها وسأمها من جَهلِنا المكين. كانت في أواخر الثلاثينيات من عمرها، ولكنَّها تبدو لنا أكبر سنّاً بسبب صرامة تقاطيع وجهها الذي يخلو من أثرٍ لأي ابتسام. طولها متوسط، وجسمها رشيق، أقرب إلى النحافة. لا أمل لنا في أي تغيُّر يطرأ عليها. ولهذا التقينا ـ نحن الطلاب ـ بعد الدرس، لتبادل الرأي. وبعد مناقشة طويلة استقرّ الرأي على الأخذ بنصيحة الرئيس التي يمكن تلخيصها في كلمتين: "الاجتهاد" في قراءة ما تطلب هذه الأستاذة، وإظهار "مودتنا" لها. ولتحسيسها بمودتنا بطريقة ملموسة، رأينا أن يشتري أحدنا باقة ورد ويحملها عصراً إلى شقتها في الحيِّ الجامعيِّ ويقدِّمها إليها باسمِ جميعِ الطلاب. ولسببٍ أو لآخر، وقعَ اختيارهم عليَّ.
كان معظم الأساتذة يسكنون في شققٍ تضمُّها بنايةٌ مؤلَّفة من بضع طوابق، بالقرب من إقامة الرئيس الجميلة، التي تكمن في قلبِ الحدائق الغنّاء وأشجارها الباسقة، بين بنايات الإدارة والدراسة وبين الشارع الرئيس على البحر الأبيض.
وقفتُ أمامَ باب شقَّتها، وأنا أحمل باقةَ وردٍ أبيضَ مغلفةً بورقٍ زاهي الألوان، بيدي اليمنى بالقرب من صدري. ترددتُ قبل أن أطرق الباب. وأخيراً قلتُ في نفسي: لا بُدَّ مما ليس منه بُدٌّ، وطرقتُ الباب. بعد برهةٍ حسبتُها طويلة، وارَبَتِ الأستاذةُ البابَ، وألقتْ نظرةً فاحصةً عليَّ وهي تقول:
ــ "نعم؟!"
قلتُ:
ــ " مساء الخير، أستاذة. زملائي الطلاب يبعثون إليكِ بهذه الباقة من الورد، ترحيباً بك في بيروت."
وقدَّمتُ إليها باقةَ الوردِ الأبيض، الذي يرمز إلى الصداقة والمشاعر النقية.
قالت وهي تمدُّ يدها لتناول باقة الورد:
ــ " شكراً."
في تلك اللحظة، أخرجتُ يدي اليسرى التي كانت وراء ظهري وهي ممسكة بباقة زهور عصافير الجنّة الزرقاء التي ترمز إلى الفرحة والابتهاج والسعادة، وقلتُ:
ــ " وهذه منّي شخصياً."
فابتسمتِ الأستاذة ابتسامةً مقتضبة، ربّما بفعل المفاجأة، وقالت وهي تفتح الباب أكثر بقليل: " شكراً، تفضل أدخل."
أشارت إلى كرسيِّ في غرفة الجلوس، وسألتني:
ـ "هل تود تناول القهوة أو الكوكا كولا؟"
ـ "لا، شكراً. قلّما أشربهما."
جلستِ الأستاذة على كرسيٍّ مقابلي، فسألتها بأدب:
ـ " هل هذه أوَّل مرَّة تزورين فيها بيروت؟"
ـ " نعم. لم أزُر هذه المنطقة سابقاً."
ـ " اللبنانيّون في غاية اللطف والكرم. ولبنان بلدٌ جميلٌ جداً، يجمع بين البحر والجبل والطبيعة الغنّاء."
قالت:
ـ " هذا ما قرأتُه قبل قدومي."
ـ " هل جرّبتِ أطباق المطعم اللبناني؟ فمطعم الجامعة ليس لبنانياً في حقيقة الأمر."
" أحياناً أعدُّ وجباتي في الشقّة"
قلتُ:
" يُسعدني أن أدعوكِ في نهاية الأسبوع إلى مطعمٍ لبنانيٍّ للعشاء، ثم نشاهد فيلمَ " صوت الموسيقى" The Sound of Music، إذا لم تُتَح لك فرصةٌ لمشاهدته من قبل. وكلا المطعم ودار السينما على بعد أمتار من باب الجامعة."
أطرقتْ هنيهة وقالت:
ــ " شكراً. لا مانع".
لم تكُن جرأتي تلك في دعوة الأستاذة نتيجةَ اجتهادٍ وابتكار ولا تسرُّع وتهوُّر، بل من المحتمل أَنَّني تأثرتُ بما قرأت في كُتيّب وُزِّع على الطلبة الجدد عنوانه " قواعد السلوك في الجامعة الأمريكية في بيروت"، ويقع في أكثر من مئة صفحة من القطع الصغير، ويتناول جميع القواعد التي ينبغي مراعاتها مثل ضرورة سكن الطلاب والطالبات في الأقسام الداخلية في الحرم الجامعي خلال السنة الأولى مع إمكان سكناهم بعد ذلك خارج الحرم الجامعي في ضوء نتائج دراستهم. وضرورة العودة مساءً قبل الساعة العاشرة ليلاً إلى القسم الداخلي. وعلقتْ في ذهني منه أشياء كثيرة مثل: يجوز للطالب الالتقاء بأيٍّ من أساتذته خارج الحرم الجامعي.
ومن ذلك أنني كنتُ أتناول القهوة أحياناً في (مقهى فيصل) القريب من باب الجامعة الرئيس، مع الشاعر اللبناني المرموق الدكتور خليل حاوي أستاذ الأدب العربي في الجامعة، وأرجوه أن يقرأ بعض قصائده الجديدة. وكان هذا الشاعر الفذُّ قد نال شهادةَ الدكتوراه من جامعة كامبريدج في إنكلترة، ورحَّبت به الجامعة الأمريكية في بيروت أستاذاً فيها، بعد أن كان يكسب قوته في لبنان من الاشتغال عاملَ بِناءٍ يرصفُ الطرق بالحجارة.
وقد شعرتُ بعميقِ الحزن والأسى عندما قرأتُ فيما بعد نبأ انتحار الدكتور خليل حاوي بطلقٍ ناري بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982؛ فقد كان مصاباً بالإحباط والاكتئاب الشديد، ولم تحتمل أعصابه المنهكة تلك الإهانة الموجهة للعرب جميعاً.
وعلمتُ بعد دخولي الجامعة الأمريكية أنَّ كُتيّباً مماثلاً عن قواعد السلوك في الجامعة يُوزع على الأساتذة الجُدد ويجيز لهم الالتقاء مع طلابهم وطالباتهم خارج الحرم الجامعي، بشرط عدم إقامة علاقات جنسية معهم. وكنتُ وأنا القادم من بيئةٍ قروية، أنظر إلى أستاذتي بمثابة الأُمِّ، مع الاحترام الواجب للمعلِّم طبقاً لمقولة: " مَن علَّمك حرفاً ملككَ عبداً"، أو طبقاً لما ورد في قصيدة أحمد شوقي التي حفظناها في المدرسة الابتدائية:
قُمْ للمعلِّمِ وفِّهِ التبجيلا ... كادَ المعلمُ أنْ يكونَ رسولا
غادرتُ الشقة مودِّعاً أستاذتنا الدكتورة سيرليَن دَيلي. ولكنّي عدتُ إليها مساء يوم السبت كما اتفقنا، لاصطحاب الأستاذة لتناول طعام العشاء في مطعم مرّوش الواقع في شارع بلِس مقابل سور الجامعة. ودانيل بلِس هذا هو القس الذي انتدبته الكنيسة الأمريكية البروتستانتية لتأسيس "الكُلّية السورية البروتستانتية "، في بيروت سنة 1866 إبّان الحكم العثمانيِّ للشام. وأصبحَ رئيساً لها 36 عاماً، وبعد وفاته أصبح مساعده، ابنه هاورد بلِس، رئيسا للكُلّية مدَّة 16 عاماً استكمل خلالها تشييد الأبنية الرئيسية؛ وعند وفاته سنة 1920 تحوَّل اسمُها إلى "الجامعة الأمريكية في بيروت" أثناء الحرب العالمية الأولى.
وقع اختياري على "مطعم مَرُّوش"، لِقُربه، ولهدوئه، ولزينته الجميلة، والأهمُّ لمطبخه اللبناني الأصيل. والمطبخ اللبناني جزءُ من المطبخ الشامي المشهور عالمياً بمشويّاته ومُقبِّلاته المتنوِّعة. ففي المطاعم الكبيرة بمدينة بعلبك المطلّة على شلالاتها المشهورة، مثلاً، يقارب عدد المُقبِّلات والسلطات الباردة والساخنة مئة نوع. وروّاد هذه المطاعم عادةً ما يكتفون بالمقبِّلات ولا يطلبون الطبق الرئيس. ويُكثِر المطبخُ اللبنانيُّ من استعمال الموادِّ الصحيَّة مثل زيت الزيتون، والثوم، والليمون، والخضروات، وثمار البحر؛ ويجمع بين تقاليد المطبخ العربي، والمطبخ العثماني، ومطابخ البحر الأبيض المتوسط كالإيطالي والفرنسي واليوناني.
وفي مطعم مَرُّوش، قُدِّمت للدكتورة ديلي لائحة الطعام، فألقت عليها نظرة سريعة، وقالت:
ـ لا أعرف هذه الأكلات. أنتَ اختَر لنا من فضلك.
فاخترتُ المُقبّلات: حمص بطحينة، والفتوش، والتبولة، وبابا غنوج، والكبيبات الشامية؛ وكذلك الطبق الرئيس، شيش طاووق، المُؤَلَّف من قطع الدجاج المشويِّ بالمُتبّلات.
أقبلت الأستاذة على الطعام بشهية لا تدلُّ على رشاقتها الملحوظة، وقالت إنها لم تذُق تلك الأكلات من قبل، ولم تأكل بهذا الكمِّ. وأكَّدت: "إنَّها لذيذة".
أمّا أنا فكان اهتمامي منصرفاً إلى كلامِها باللغة الإنكليزية الأمريكية، لا لأتعلم معاني المفردات وقواعد نظم العبارات، بل لأكتسب طريقةَ نطقِ الألفاظ، وتنغيمِ الجُمل. وهما الجانب الأصعب في تعلُّم اللغة الأجنبية، لأنَّهما يتأثَّران سلباً بعادات نطق اللغة الأم وتنغيمها. ولم أَدْرِ آنذاك أنني سأدفع ثمن ذلك التعلُّم في نهاية الفصل، وليس في بداية الفصل كما تتقاضى الجامعات الأمريكية ثمنَ كلِّ درسٍ مقدَّماً عند التسجيل فيها.
وأثناء تناول الطعام، تحدّثتِ الأستاذةُ عن نشاطها في لقاءاتٍ نسائيةٍ جامعيةٍ أمريكية تناقش ضرورةَ مساواة المرأة بالرجل، ليس في الانتخاب والحقوق السياسية فحسب بل كذلك في الحقوق الاجتماعية والمالية. فقد كانت معظم الولايات الأمريكية تشترط، في قوانينها وأنظمتها، حصول الزوجة على موافقة زوجها المكتوبة لفتحِ حسابٍ في بنك أو الحصول على رخصةِ قيادةِ السيّارة. أضف إلى ذلك، أجور الإناث التي تقل عن أجور الذكور مقابل العمل نفسه. وقد تمخَّضت تلك اللقاءات النسوية الجامعية عمّا يُسمّى بـ "حركة تحرير المرأة" Women’s Liberation Movement التي اشتعلت من أواخر الستينيّات إلى منتصف الثمانينيّات. وعلى الرغم من إيمان الأستاذة ديلي بضرورة المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، فهي لم تعترض بتاتاً على دفعي الحساب في المطعم، لأن ذلك هو الطبيعي طبقاً للعادات والتقاليد الأمريكية، والعربية؛ على حين أن الفتاة النرويجية، مثلاً، تقبل دعوتكَ لتناول الطعام، ولكنَّها تدفع من جيبها الخاص مقابل ما تناولته. فالعادات الاجتماعية أقوى من القوانين، والأنظمة المسطرّة، والأفكار الحداثية.
واستمرَّت لقاءاتُنا، أنا والدكتورة دَيلي، طوال ذلك العام الدراسي، حتّى خلال الفصل الثاني الذي لم يكُن لي أيُّ درس مع الدكتورة دَيلي فيه. دأبتُ على الذهاب إلى شقَّتها مساءَ كلِّ يوم سبت، لاصطحابها إلى مطعم من المطاعم، خصوصاً تلك التي تقع على البحر في منطقة "الروشة" ببيروت. كنا نستمتع غاية الاستمتاع بلقاءاتنا الأسبوعية والمحادثات التي تتخلَّلها، وننتظرها بشوق. وتعلَّمتُ منها كثيراً لا سيَّما عن التقاليد الأكاديمية الأمريكية، وعن الأدب القصصي الإنكليزي؛ فقد كانت الدكتورة سيرليَن ديلي في ذلك الوقت تضع اللمسات الأخيرة على كتابها الذي صدرت طبعته الأولى في نيويورك سنة 1965 ، ويتناول الكاتبة النيوزيلندية البريطانية كاثلين مانسفيلد بوشامب (1888ـ1923)، التي نشرتْ قصائدَها وقصصَها باسم مستعار هو كاثرين مانسفيلد .
كانت سيرليَن دَيلي كثيراً ما تتحدّث في أثناء لقاءاتنا الأسبوعية عن كاثرين مانسفيلد بمحبَّةٍ كبيرة وأعجاب شديد، لم يقتصرا على قصائدها وقصصها القصيرة فحسب، بل شملا كذلك أُسرتَها الميسورةَ الحال ذات المكانة الاجتماعية والسياسية المرموقة. فأبوها كان مديَر مجلس إدارة بنك نيوزيلاند، وخالها تزوج ابنة ريتشارد سيدون رئيس الوزراء النيوزلندي، وابنة عمها، الروائية البريطانية ماري آنيت بوشامب، تحمل لقب "كونتيسة" وتزوجت فرانك رُسل، الأخ الأكبر للفيلسوف اللورد برتراند رسل، الحائز جائزة نوبل.
أمّا موهبة كاثرين مانسفيلد فهي مثيرة لإعجاب أستاذتي الناقدة، إذ ولدت كاثلين مانسفيلد بوشامب قاصَّةً حداثية مطبوعة، فنُشِرت لها قصَّةٌ قصيرةٌ في إحدى الصحف وعمرها عشر سنوات فقط، إضافة إلى قُدرتها على العزف على الكمنجة الكبيرة (الجلو/ الفيولونسيل). وفي تلك السنِّ المبكِّرة، كانت تكتب في يومياتها عن الإحباط الذي يصيبها بسبب اضطهاد " الماوريين " ، وهم أهل نيوزيلندا الأصليون، من طرف السلطات الاستعمارية البريطانية .
درست كاثرين مانسفيلد خلال المرحلة الثانوية من الدراسة، في مدرسةٍ داخليةٍ خاصَّة للبنات في لندن تسمى " كلية الملكة " وعادت إلى نيوزيلندا مدّةً قصيرة. وعندما بلغت سن التاسعة عشرة من عمرها، انتقلت نهائياً إلى لندن للتفرُّغ للكتابة. وخصَّها والدها بمنحة سنوية مقدارها مئة جنيه إسترليني طوال عمرها، تغنيها عن العمل وتوفِّر لها حياةً طيبة. وفي لندن ارتبطت بعلاقات صداقة مع الكاتبة المعروفة فيرجينا وولف والكاتب الشهير دي أج لورنس الذي صوّر شخصيتها في روايته " نساءٌ في الحب"..
ومثل معظم بنات الطبقة الأرستقراطية البريطانية آنذاك، تمتّعت كاثرين بالصداقات والحفلات والعلاقات الجنسية مع الفتيات والفتيان والعشاق. بيدَ أنَّ أستاذتي الدكتورة لم تتحدّث إلا عن خيبات كاثرين، والآلام التي عانتها، والصعوبات التي واجهتها، وأحزانها.
فعندما تزوجت كاثرين بالكاتب جون موري، رئيسِ تحريرِ مجلةٍ أدبية، سنة 1910، كانت علاقتهما غير مستقرة بسببِ حساسيةِ كاثرين وعواطفها المرهفة، فانفصلا واتصلا عدة مرات. وأثناء الحرب العالمية الأولى (1914ـ1918)، تمَّ تجنيدُ أخيها الوحيد، ليسلي بوشامب، في الجيش البريطاني، وقُتِل أثناء التدريب على تفجير القنابل بمعسكرٍ في بلجيكا. وقد حزنت كاثرين حزنا بالغاً عليه، وقضَّت مضجعَها الكوابيس. تقول في إحدى قصائدها:
" في مجرى الذكريات، وقفَ أخي
ينتظرني، ويداهُ مملوءتانِ بالتوت:
أختاه! هذه حبّاتُ جسدي، خُذيها وكُليها!"
انفصلت كاثرين عن زوجها سنة 1917، وعمرها 29 عاماً. وفي تلك السنة، دلَّ الفحصُ الطبيُّ على إصابتها بالسل (التدرُّن الرئوي). وكان هذا المرض، قبل اختراع البنسلين سنة ،1943 بمثابة السرطان الذي لا علاج له في زماننا هذا، ولا يمهل ضحيته أكثر من خمس سنوات. وتعذّبت كاثرين كثيراً في البحث عن علاج لها من أيِّ نوعٍ كان: الرياضات الروحية، السحر، الابتعاد عن برد شتاء إنجلترا والذهاب إلى إيطاليا أو الريفيرا الفرنسية، وأخيراً الاستقرار في سويسرة للحصول على علاج تجريبي ظهر هناك...وعندما أدركتْ كاثرين اقترابَ نهايتها، انكبَّت على الكتابة ما أمكنها الجهد، لعلَّ الأدب يهبها شيئاً من الخلود. فنشرت في "مجلة أثينيوم" التي أصبح زوجها رئيسَ تحريرها، أكثر من مئة مقالٍ في عَرْض الروايات ونقدها. كما كتبت في سويسرة أروعَ قصصها القصيرة مثل " بيت الدمى، و" في الخليج" و" حفلة الحديقة" و" فنجان شاي" وآخر قصصها " الكناري". وهكذا استطاعت سنة 1922 أن تنشر أوَّلَ مجموعةٍ قصصية لها بعنوان " حفلة الحديقة وقصص أخرى". وغادرت الدنيا سنة 1923 وعمرها 34 سنة فقط؛ وأعمارُ العباقرة قصارُ. وبعد وفاتها، عكفَ زوجها على إعداد تراثها الأدبي للنشر، فأصدر قصصها في مجموعتيْن " عُشُّ الحمامة" (1923) و" شيءٌ طفوليٌّ" (1924). كما نشر على شكل كتب: قصائدها، ورسائلها، ويوميّاتها.
في نهاية الفصل الأوّل الدراسي في الجامعة، تبيَّن لنا ـ نحن طلاب الدكتورة سيرليَن ديلي ـ أنّها ليست عدوانية ولا متسلطة، كما توهَّمنا، وإنّما كانت تلك طريقتها لتدفعنا إلى الاجتهاد والدراسة أكثر، وإلى قراءة كتب عديدة باللغة الإنكليزية، كتاباً كاملاً في الأسبوع على الأقل، كما هو الحال في الجامعات الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية. فعندما عُلِّقت قائمة النتائج، كانت الأغلبية الساحقة من الطلاب راضية بها. كنتُ الوحيد الذي شعر بالغَبْنِ. فقد نلتُ الدرجة الأولى A في جميع الدروس الأُخرى، ما عدا درس صديقتي الدكتورة سيرليَن، فقد كانت درجتي الثانية B، على حين نال عددٌ من زملائي الذين هم أقلُّ اجتهاداً مني، الدرجة الأولى A. أدرت وجهي من لائحة النتائج المعلَّقة، ولم أنظر في وجه أيٍّ من الزملاء، وسرتُ مطأطئَ الرأسِ، والشعور بالحيف والغضب يستعر في أعماقي، وأنا أردِّدُ بيتاً من لامية الطغرائي:
تقدّمتْني أناسٌ كانَ خطوهُمُ ... وراءَ خطوِيَ، لَوْ أمشي على مَهلِ
بيدَ أنّي في تلك الليلة، فكَّرتُ طويلاً في الموضوع، وأنا في سريري. وكما يقول المثل الفرنسي، " الليل يأتي بالنصيحة" La nuit porte conseil ، وتفهَّمتُ موقف الأستاذة ودوافعها، ولكلِّ فائدةٍ ثمن، وقد دفعتُ ثمنَ صحبتي المفيدة المتمِّيزة معها. ولم يبقَ أيُّ غضب في أعماق نفسي واختفى، كما يختفي ضبٌّ في جُحْرٍ بعيدِ الغور.
ومساء يوم السبت التالي، ذهبتُ إلى شقَّة الدكتورة سيرليَن كالعادة، لاصطحابها إلى العشاء في أحد مطاعم منطقة "الروشة" على البحر. وهناك ومع الابتسامات المتبادلة، سألتُها عن الأماكن اللبنانية أو السورية التي تودُّ زيارتَها أثناء أيام العطلة القصيرة بين الفصليْن.
***
بحاسوب: علي القاسمي
تعليقات (40)