أصدقاء الدكتور علي القاسمي

الحسين بوخرطة: تحرش برائحة الموت.. قراءة في القصة القصيرة "المشاكسة" للدكتور العلامة علي القاسمي

 

 تحرش برائحة الموت.. قراءة في القصة القصيرة "المشاكسة" للدكتور العلامة علي القاسمي

الحسين بوخرطة

نقلا عن صحيفة المثقف

بأبنيته السردية الجذابة، أبدع القاسمي هذه المرة نصا قصيرا في حجمه، لكنه راق برسائله وعبره الإنسانية. إنها قصة قصيرة بحبكة سردية لا يمكن أن لا تدفع الذات القارئة إلى مساءلة وجودها والتأمل في هويتها الثقافية والسلوكية من جديد. بصوغ لغوي مبهر، تناول هذه المرة ظاهرة اجتماعية فتاكة، ظاهرة "التحرش"، بأسلوب بلاغي دق من خلاله ناقوس خطر تفاقم أزمة القيم في المجتمعات العربية والإسلامية.

إنها قصة رائعة بعباراتها وصورها التوثيقية. تم بناء جملها وفقراتها بشكل يجعل القارئ مشدودا لكلماتها من أولها إلى آخرها، متنقلا عبر فقراتها من صورة إبداعية إلى أخرى.

لقد حذرت القصة مبكرا من حدة الصدمات المتتالية التي شهدتها وتشهدها المجتمعات العربية خلال السنوات الأخيرة. لقد شكلت في تاريخ كتابتها ونشرها صرخة مدوية ومحذرة لخطورة هذه الآفة. إن تفشي الاغتصاب والتحرش بالفتيات والأطفال وانتهاك الأعراض وقتل الضحايا وتشويه الأجساد تحول إلى كابوس مؤرق للأسر العربية. إنه استفحال وضع نفسي وسلوكي مركب ومعقد يتطلب تدخلا سريعا، أولا في مجال الوقاية والمعالجة بالتربية والتعليم ومؤسسات إعادة التربية ومواجهة الانحراف، وثانيا ربح الوقت لتحقيق أهداف المعالجة المعرفية بالسيطرة عليها بتشديد مستوى العقوبات إلى أعلى المستويات. القصة كذلك تحذر من اختلالات خطيرة في منظومة التنشئة، ودعوة إلى تعميق التأمل والدراسة في علاقة الآباء بالأبناء من جهة، وعلاقة الذكور والإناث من جهة أخرى.

لقد فضحت هذه القصة خطورة هذه الآفة وعواقبها الوخيمة على الروح الجماعية ومقومات العيش المشترك. وجدت فاطمة، التلميذة المجتهدة المتصدرة لنتائج تلامذة فصلها، نفسها منجذبة بجمالية شوارع مدينتها، فقررت التخلي عن امتطاء حافلة النقل المدرسي المعتادة، والمشي على الأقدام لمدة لا تفوق عشرين دقيقة في اتجاه منزل الأسرة. هي تعرف مسبقا دوافع أولياء أمور التلاميذ لتحمل مصاريف مضنية لضمان خدمة تنقل أبنائهم، وما يشكله ذلك من عبء مادي يثقل كاهل الأسر المتوسطة في بلادها. يتم اللجوء إلى هذه الخدمة حماية لفلذات الأكباد، خصوصا الفتيات، من براثن الانحراف والتحرش. لقد جذبتها حاسة البصر واستسلمت بصيرتها لهاجس التمتع بمناظر الشارع المؤدي إلى دارتها، بدون أن تفكر في أي خطورة مفترضة.

مزهوة بموقعها الاعتباري بين زميلاتها، ومعتزة بشموخها، لم يدر في خلدها سوى اللحظة التي ستزف من خلالها خبر تفوقها لأفراد أسرتها بصوت شجي ومترنم، خبر يحول الحياة الأسرية إلى محفل احتفال يزلزل نفوس الجيران غبطة، ويدفعهم للركض متوافدين على منزلها، مفتخرين بهذا الظفر الميمون لفتاة حيهم.

تعتبر فاطمة بالنسبة للكاتب نموذج تمثل راق، وهدف سام تسعى كل أسرة عربية لتحقيقه. فتربية الأطفال وتعليمهم يتطلب، إضافة إلى التمكن من مواد التخصص التعليمية، تكوين خبرة ورصيد مصطلحي غني في اللغات الحية الكونية، وعلى رأسها اللغة العربية وقاموسها التاريخي.

وفاطمة تفكر في مستقبلها وحاجتها لتقوية رصيدها اللغوي وتعلمها اللغة الإسبانية، قررت، بدافع انشغالها الدائم بتدبير وقتها التعليمي والتكويني، بتسجيل نفسها في معهد اللغة الإسبانيّة في وسط المدينة. أتمت إجراءات التسجيل بسرعة، خرجت منبهرة بجاذبية الفضاء العام. أحست بالمتعة وقررت الرجوع سيرا على الأقدام إلى حال سبيلها "الجوُّ رائقٌ، والسماء صافيةٌ، في ذلك اليوم الربيعيّ المُشرِق. النسيم المنعش يلامس وجهها فيتورّد خدّاها بنضارة الشباب".

انقض على عالمها الجميل منحرف في الشارع العام "شوارع المدينة زاخرةً بالناس والحركة والحياة. واجهاتُ المحلات التجاريّة مملوءةٌ بالمعروضات المُتنوّعة من الألبسة الأنيقة، والمأكولات الشهيّة"، يسرع ليسير إلى جانبها، مخاطبا وداعيا إياها إلى مرافقته لقضاء وقتٍ جميلٍ معاً.

اقتحم هذا المعتدي، الضحية في نفس الوقت لمنظومة تربوية فاشلة، عالمها بدون استئذان، كدر أجواء فرحها الدائم بشبابها واجتهادها، وعاث بهدوئها وسكينتها. قد يكون مهمشا ضحية هدر تربوي أو مدرسي، أو شابا بدون أفق مستقبلي، أو مريضا مذمن التهوين عن معاناته وعقده بامتداح ومضايقة الفتيات. تربص الفرصة، التصق بها بشدة، ولاحقها أينما راحت وارتحلت، وهي صامتة ملتزمة بوصية أمها. لازم خطواتها مكررا على مسامعها عبارات مكبوتاته الجنسية. اشتد الخوف والهلع بها، تكدرت نفسيتها، وامتقع لون محياها. حاولت التفلت منه، فغيرت الطريق مرارا كلما سد اتجاها في وجهها. استمرت مقاومة ارتباكها محاولة أن تذيد عن نفسها بالهروب منه. لم تستطع التحكم في أعصابها. باغثته فجأة بعبور الطريق إلى الرصيف المقابل. غادر التركيز بصيرتها ووجدانها بسبب الخوف، فدهستها سيارة في وسط الطريق، فتحولت إلى ضحية حادثة سير مميتة. تمددت المسكينة أرضا وجسدها ينزف دماء، بمخيلة يراودها حلمها الذي لا يفارق مخيلتها، حلم بناء مستقبل واعد يشرف مكانتها المجتمعية ويفرح أسرتها الصغيرة والكبيرة.

المثير في القصة كذلك، إضافة إلى خطورة الظاهرة، هو كون مضايقتها والتحرش بها في الشارع العام شكلا لوحة تعبيرية عادية لدى المارة والتجار، وكأن الأمر لا يهمهم ما دامت الفتاة المتحرش بها لا تربطها بهم أية علاقة قرابة. فالأمر عادي بالنسبة لهم. وقعت الحادثة، ولم يثر أحد السبب. أما الجاني، الذي دفع الضحية إلى معانقة مخاطر حتفها، فواصل سيره من غير أن يلتفت. لا أحد فكر في حالة أسرتها التي تحملت العناء اليومي لبناء مستقبل فلذة كبدها، ولا أحد انتابته حجم المعاناة المادية والمعنوية التي تكبدتها وتحملتها أسرتها لتنشئتها وإعدادها للتنافس المعرفي خدمة لذاتها ووطنها.

 

الحسين بوخرطة

.............................

المشاكسة بقلم د. علي القاسمي

تستقلُّ فاطمة حافلة مدرستها الثانويّة عائدةً إلى منزلها، وهي تشعر بسرور واعتزاز. فقد وزَّعت إدارة المدرسة نتائج الفصل الدراسيّ.جاء ترتيبها الأوَّل بين زميلاتها. تتصوّر في مخيَّلتها فرحة أهلها بالنتيجة الباهرة. تتردَّد في ذهنها عبارات التشجيع التي سيغدقونها عليها. ترتسم بسمةُ المسرَّة على شفتيْها.

تراودها رغبةُ الذهاب إلى معهد اللغة الإسبانيّة في وسط المدينة قبل أن تعود إلى المنزل، لتنخرط في دروس تعلّم اللغة الإسبانيّة، فقد شجعتها نتيجتها الجيّدة على ادّخار بعض الوقت لتعلّم لغة إضافيّة. تنزل من الحافلة بالقرب من المعهد. سرعان ما تتمّ إجراءات التسجيل.تغادر المعهد وعلامات الرضا باديةٌ على تقاطيع وجهها الجميل المفعم بالحيويّة.

المسافة بين المعهد ومنزلها لا تستغرق أكثر من عشرين دقيقة سيراً على الأقدام.  الجوُّ رائقٌ، والسماء صافيةٌ، في ذلك اليوم الربيعيّ المُشرِق. النسيم المنعش يلامس وجهها فيتورّد خدّاها بنضارة الشباب. تبدو لها شوارع المدينة زاخرةً بالناس والحركة والحياة. واجهاتُ المحلات التجاريّة مملوءةٌ بالمعروضات المُتنوّعة من الألبسة الأنيقة، والمأكولات الشهيّة.تشعر بسعادةٍ غامرة.يخطر في بالها أنّ حافلة المدرسة تحرمها من متعة المشي في المدينة.

فجأةً تحسُّ أنّ شخصاً ما يسير خلفها، يتبعها. يتبادر إلى ذهنها أنّ ذلك لا يعدو أن يكون محض مصادفة. لا يستغرق الأمر طويلَ وقتٍ ليتأكَّد إحساسها، إذ يسرع ذلك الشخص ليسير إلى جانبها، يخاطبها، يدعوها إلى مرافقته لقضاء وقتٍ جميلٍ معاً.

لا تدري  كيف تجيب على كلامه. تتذكّر أنّ أُمّها نصحتْها بعدم الإجابة في مثل تلك الحالات، لئلا يجرّ الرفض إلى ردِّ فعلٍ سيئ. تستمرُّ في سيرها، لا تلتفت ولا تتكلّم. تتظاهر بأنّها لم تسمع شيئاً.يواصل هو توجيه كلامه إليها. تسرع في مشيتها أملاً في التخلّص من ذلك الغريب المشاكس. لكنَّه هو الأخر يسرع في مشيته. يسبقها ويقف في وجهها سادّاً عليها الطريق. يقول شيئاً غاضباً بصوتٍ عالٍ لا تفهمه، بسبب الخوف الذي يستحوذ عليها.

دون أن تتفوّه بكلمةٍ،تجد نفسها تستدير بصورةٍ مفاجئةٍ، وتندفع من الرصيف في اتجاه الجانب الآخر من الشارع، لتتخلَّص من هذا الشخص المشاكس. في تلك اللحظة تصلُ سيّارةٌ مسرعة، تدهسها وسط الشارع.

تسقط فاطمة أرضاً مضرّجةً بدمائها. أمّا هو فيواصل سيره من غير أن يلتفت.

 

الحسين بوخرطة

 

    تعليقات (3)

    أخي العزيز الكاتب السياسي الناقد الأديب الأستاذ سيدي الحسين بوخرطة حفظه الله ورعاه,
    تحية حارة لك بمناسبة هذه القراءة النقدية الاجتماعية النفسية لقصتي القصيرة " المشاكسة".
    يبدو لي أن كتابة القصة لم تكتمل. فثمة مسألة الجريمة والعقاب. يطيب لنا عادة القول: لا جريمة بلا عقاب. ولكنني قبل يومين كنتُ أزاول القراءة والكتابة في مقهى يطل على شارع رئيس. أوقف أحدهم سيارته في الصف الثاني ليقضي شغلاً ويعود إليها، وهكذا تسبب هذا السائق بحادثة سير خطيرة بين سيارتين في الصف المتبقي من الشارع. أسرع صاحب تلك السيارة إليها وقادها بعيداً عن مكان الحادث. وهكذا اقترف هذه الرجل جريمة ولم يخضع لعقاب.
    لا يمكن تخصيص شرطي مرور لك سيارة. يكمن الحل في التربية. التعليم الجيد هو الذي ينتج مواطناً صالحاً.
    أكرر شكري الجزيل لك أخي سيدي الحسين، مقروناً بأطيب تمنياتي لك بالصحة والخير والعمل والإبداع.
    معزّكم: علي القاسمي

    العلامة الدكتور سيدي علي أكرم الله جهودكم ووجودكم بالعز والتألق.
    الإرادة لمواجهة الأمراض الإنحرافية المجتمعية، بتعقيداتها النفسية والإجتماعية، تتطلب كما جاء في القراءة استثمارا عاجلا في التربية والتعليم والتكوين. ومن أجل ربح الوقت واستغلاله في حماية الأسر والمجتمع، يتطلب الأمر مواكبة تنفيذ البرامج العمومية السالفة الذكر بتشديد مؤسساتي للرقابة القانونية (العقوبات)، وكذا تقوية الروح الجماعية المجتمعية التضامنية، لتتجاوز الخضوع لضغط الخوف وبالتالي الاكتفاء بلعب دور المتفرجين. لقد عرفت المجتمعات العربية مراقبة اجتماعية رادعة للإنحراف. إن المس بحقوق الفرد كان ولا زال مرادفا للمس بحقوق المجتمع والأمن العام. فإذا عم الخلل هذه المنظومة الطبيعية، تنتهك حرمة الفرد والمجتمع والأمن العام في واضحة النهار ووسط جماهير متفرجة عاجزة وخائفة، يختزل دورها في حماية النفس بأنانية فردانية قاتلة للروح الجماعية.
    حفظكم الله ورعاكم
    أخوكم الحسين بوخرطة

    قصتكم سيدي علي القاسمي، الدكتور العلامة، أعزكم الله ورعاكم، دقت ناقوس خطر مزعزع لهدوء وطمأنينة الأنفس. إنها تطرح إشكالا معقدا للغاية يجعل سؤال "من أين نبدأ لنؤمن مستقبل أجيال الأمة العربية؟" يخالج الجميع أفرادا وجماعات ومؤسسات.
    مجتمعاتنا العربية تحتاج إلى تذوق لذة طبيعة الوجود الإنساني على سطح هذه الأرض الغبراء، وتنجح في تهميش الدور الأمني المؤسساتي بقوة الرقابة المجتمعية بروحها الجماعية الراعية والحامية لوجودها القومي، وتفرض وجودها في الإسهام في سبر أغوار أسرار كينونة بني آدم في المجموعة الشمسية.
    نعم، تحتاج مجتمعاتنا اليوم إلى آليات تربحها بعض الوقت، كالرادع القانوني والزجر الرسمي (العقوبات). بالطبع لا يمكن التسليم، كما جاء في تعقيبكم، بفكرة تخصيص لكل مواطن شرطي أو مراقب أمني. في نفس الوقت، ربح رهان ارتقاء المنظومات التربوية والتعليمية والتكوينية لا يمكن أن يتحقق ومقومات العيش المشترك بالنسبة للراشدين والمسؤولين في تدهور مستمر. فمسؤولية الكبار في ترصيص الصفوف وتقوية الروح الجماعية المجتمعية الرقابية هام للغاية.
    لقد كانت الروح الرقابية لمجتمعات الحضارة العربية في مراحل مختلفة من التاريخ حاضرة بقوة وباستمرار، الأمر الذي جعل الناس أكثر حرية وأمان، وتفرغت النخبة للعلم والبحث والإبداع الأدبي والفني، وقلصت الميزانيات المخصصة لحفظ الأمن العام، وارتفعت الاعتمادات المالية في مجالي التربية والتكوين والتعليم.
    إن ترسيخ الطمأنينة والسلام والأمن في ذوات الأمم، تتيح الفرصة لكل الفاعلين بالتفرغ للأهم وبناء المستقبل بثقة كبرى تختلج بشكل دائم وجدان الأفراد والجماعات.
    حفظكم الله ورعاكم وسدد خطاكم سيدي علي.
    أخوكم ومعزكم الحسين بوخرطة.


    مقالات ذات صلة