قصي الشيخ عسكر، استلهام التراث في قصة الآنسة جميلة للدكتور علي القاسمي
استلهام التراث في قصة الآنسة جميلة للدكتور علي القاسمي
عن صحيفة المثقف
يعنى الدكتور علي القاسمي في مؤلفاته الأدبية وقصصه بخاصة قصة السيرة بالتراث العربي سواء عصر ما قبل الإسلام أو العصور التي تلت الحقبة ولا عجب في ذلك فالقاسمي رجل معجمي صرف جل وقته في تأليف معجم مهم في الأدب العربي لكن عنايته بالتراث في قصصه لا تبدو مفتعلة أو غير منسجمة مع النص الأدبي في قصص السيرة ومنها قصة (الآنسة جميلة ) التي تحدثنا عنها في مقال نشرناه من قبل في صحيفة المثقف الغراء.
إن التراث في تلك القصة المذكورة أعلاه يندرج ضمن حالات متباينة أغنت مسار القصة منها:
انقلاب الكلمة التراثية
الاستشهاد بالشعر بصفته مظهرا جماليا أو السرد الذي يغني المعنى من خلال الشعر
الاستناد إلى الحكمة القديمة
تعزيز الوصف وتنميقه من خلال الفكر الصوفي
التسجيل التاريخي القديم والمعاصر
انقلاب الكلمة وثباتها في الوقت نفسه وحمل العنوان التناقض الإيجابي
الآن نعود للقصة مرة أخرى وأول شئ يستوقفنا فيها موضوع التسمية
في مسألة انقلاب الكلمة التراثية نجد القاسمي الكاتب القاص يختار عنوانه بدقة تامة من خلال كلمتين هما آنسة بالتعريف وجميلة اسم بطلة القصة. في كتابي المخطوط (المنقلب والمتحوّل من الكلمات) قلت إنّ كلمة آنسة كانت تعني في عصر ماقبل الإسلام وبعده المرأة التي يُستأنس لحديثها وهي طيبة النَفَس تأنس إليك
يقول الشاعر عنترة:
دار لآنسة غضيض طرفها عند العناق لذيذة المتبسم
ولا تعني كلمة آنسة في العصرين الأموي والعباسي قضيّة الزواج والعذرية
أما بمفهومنا المعاصر فإن الكلمة تعني الفتاة البكر غير المتزوجة,لقد اختار الكاتب عنوان قصته بأسلوب ذكي فكان يمكن أن يلجأ إلى كلمة جميلة فقط وهو اسم البطلة أو يختار كلمة شائعة على لسان المغاربة هي (للا) التي يطلقونها على المرأة البكر والمتزوجة أيضا غير أن القاسمي الكاتب وليس المعجمي هنا في هذا الموضع يبدو متمكنا من أداته اللغوية التي تعينة في اختياره الدقيق للمفردة التراثية إذ جعل كلمة آنسة عنوانا لقصته فنجد أن الفتاة نفسها البطلة تزوجت فيما بعد أي بعد زمن من اللقاء الأول في حفلة الموسيقى الأندلسية ثم طُلِّقت لقد سارت الحالة الثانية الزواج والطلاق بموازاة كلمة آنسة ليقول لنا الكاتب إن الجيل النقي البرئ يصطدم بالحياة وعقباتها فتتغيّر حاله مثلما تتغيّر في أذهاننا الكلمات من زمن إلى آخر أما الكلمة التي ترمز إلى النقاء (آنسة) فلن تزول وستظل تلتصق بالبطلة وإن تزوجت وأنجبت
السرد الذي يغني المعنى من خلال الشعر
في قصة الآنسة جميلة يستشهد الكاتب القاسمي بقول أبي تمام :
وتذكَّرتَ قولَ أبي تمام:ِ
قدْ قَصَرْنا دونكِ الأبـْـ .... ـصارَ خوفاً أن تَذوبا
كلَّما زدناكِ لحظـــــاً .... زِدتنا حُسناً وطِيــبــا
ويستشهد أيضا ببيتن للشاعر المعاصر أحمد شوقي:
صوني جمالَكِ عنا إنّنا بشرٌ .... من التُرابِ، وهذا الحسنُ روحاني
...إذا تبسَّم أبدى الكونُ زينتَهُ .... وإنْ تنسَّــــمَ َأهدى أيَّ ريحــــانِ
في حالة موازنة بينهما فهو يختار موضوعا واحدا أي الغزل ولعله الغزل العذري ويستشهد لكل شاعر ببيتين فالشاعر أبو تمام عاش في العصر العباسي وهو من شعراء التجديد وزعيم مدرسة شعرية نقلت الشعر العربي إلى مرتبة راقية وأحمد شوقي أيضا راس مدرسة عربية معاصرة نقلت الشعر العربي الحديث إلى مرتبة جديدة بعد أن كان قد مرّ بفترة انحدار،والباحثة نعرف فيما بعد أنها تود أن تدرس الموسيقى لتحصل على درجة الدكتوراه فيها وتخصصها هو الموسيقى الروحانية الأندلسية فهي تقابل شوقي المعاصر المجدد بموسيقى ظهرت في زمن ماض يقابل أيضا زمن المجدد الكبير أبي تمّام
الاستناد إلى الحكمة القديمة
وهذا ماوجدناه من حكمة اقتبسها في الحوار التالي:
وكانت تتكلّم بانفعالٍ واضح. قلت لها محاولاً تهدئتها:
ـ "إنَّ أولادنا خُلقوا لزمان غير زماننا، ومقاييسهم غير مقاييسنا. وهم أذكى منّا عندما كنا في مثل أعمارهم. أضيفي إلى ذلك، عندما نرسل أولادَنا إلى أوربا أو أمريكا، لا تبقى لدينا
القدرة على توجيههم في قراراتهم، لاسيّما فيما يتعلّق بزواجهم."
إنّ كلمة أولادنا خلقوا لزمان غير زماننا هي حكمة قديمة نسبها المؤرخون القدامى إلى سقراط وبعضهم إلى الإمام علي بل تصرف بها المؤلف لتوليف الحوار وتعزيزه وما ذلك إلا لتنبيه ذاكرة القارئ وتحفيزها مرة بالشعر ومرة بمأثور الكلام أو الكلام القديم الشائع على الألسن.
ويستخدم الكاتب الحكمة الأجنبية أو المثل الأجنبي ومايقابله من حكمة عربية (أو كما يقول المثل اللاتيني: " الحقيقة في النبيذ" ويقابله المثل العربي " الكأس تتكلّم عني"
التسجيل التاريخي:
مادام المؤلف يكتب قصة سيرة وقد قلنا إنها سيرة فنية فلابدّ من أن يطرد الملل عن القارئ وذلك شئ مهم التفت إليه المؤلف فهو يلجأ إلى تحفيز ذاكرة القارئ بالحوادث التاريخية التي لها علاقة خاصة وفاعلة بموضوع القصة(فمدينة شفشاون التي تُلقَّب بـ "الجوهرة الزرقاء" لروعة طبيعتها الجبلية الخلابة، تأسَّست سنة 1472 لإيواء مسلمي الأندلس الذين طردهم الإسبان، فحملوا شيئاً من ثقافتهم الأندلسية معهم إلى البلدان المغاربية التي لجأوا إليها. ولم يكُن أولئك اللاجئون من أصول مغاربية إسلامية فحسب، بل تعود أصول معظمهم كذلك إلى جميع أصقاع الإمبراطورية الرومانية النصرانية القديمة. وقد أسلموا إبّان الحكم الإسلامي المتسامح لإسبانيا الذي دام ما يقرب من ثمانية قرون.) لو كان الكاتب يكتب قصة ليست بقصة سيرة لاستغنى ربما عن هذا السّرد التاريخي لكنه يلجأ إليه لا عبثا ولا عجزا أو نقصا في الموضوع مثلما يتحدث عن سيرته وسيرة الآنسة جميلة فإنّه يتحدث عن بعض من سيرة مدينة شفشاون التي آوت الهاربين القدامى من محاكم التفتيش وكأنّ ماساة الآنسة جميلة هي العودة من أوروبا في حال حزن بعد الطلاق تشبه حال هؤلاء المغضوب عليهم العائدين إلى المغرب فهناك موازاة بين السرد التاريخي القديم وسيرة البطلة.
ومن هدف السرد التاريخي أيضا التعليل وكشف السبب (والمغاربة يضعون كلمة "سيدي" قبل كل مَن اسمه "محمد"، إكراماً للرسول (ص)، وكلمة "مولاي" قبل كل مَن اسمه إدريس، إكراماً لمؤسِّس دولة الأدارسة في المغرب سنة 788م، الإمام إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب، رضوان الله عليهم) أضف إلى ذلك الهدف التعليمي الذي نجده في المقطع أعلاه.
وقد يكون التفصيل التاريخي مهما في غير التشويق وتحفيز الذاكرة كأن يكون نقدا لوضع قانوني أو سياسي كما في السرد الذي يُعنى بالمعاصرة ،التاريخ الحديث الذي يجهل بعضه الكثير من المتلقّين،وهو نقد لسياسة الدول العظمى التي تنظر للعالم بعين المتكبر(وكان الاتحاد الدولي للنقل الجوي (الإياتا) الذي تأسَّس بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945، بهدف توفيرِ نقلٍ جوي آمن، واتَّخذ من مدينة مونتريال في كندا مقرّاً له، ويضمُّ حالياً في عضويته أكثر من 290 شركة خطوط في 120 قطراً، قد راعى مصالح الدول الأوربية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية التي أسسته وشركاتها الجوية. فعند تنظيم خطوط النقل الجوي، جعلت (إياتا) معظمَ الرحلات بين الشمال والجنوب، وليس بين الجنوب والجنوب. فإذا كنتَ في تونس مثلا، وعزمتَ على السفر إلى فريتاون أو كوناكري أو جاكارتا، فمن الأيسر والأسرع والأرخص لك أن تسافر إلى لندن أو باريس أو أمستردام أوَّلاً، ومن هناك تستقلُّ طائرةً متجهة مباشرة إلى المدينة التي تقصد؛ إذ لا تتوافر رحلات جوية مباشرة كثيرة بين تونس وتلك المدن التي تقصدها. ولهذا كانت مطاراتُ باريس محطةَ تغييرِ الطائرة في معظم رحلاتي) لقد أعطانا الدكتور القاسمي معلومة مهمة قيمة عبر أسطر قليلة دخلت في سرد قصة السيرة لتضفي على قصته إشراقة فنية فلو انتزعنا من القصة نفسها السرد التاريخي لبدت غير متماسكة غير أنها ازدادت تألّقا ورشاقة بجمعها فنونا عديدة منها الشعر والحكمة والتاريخ القديم والمعاصر.
الفكر الصوفي وطرقه ومنها الغناء والرقص الروحاني
الطريقة التراثية الأخرى التي يتبعها الدكتور القاسمي هي التعبير الصوفي أو المعاناة الروحية الداخليّة التي لولاها لما كان للتوازن أن يحدث في حياتنا.إن المظهر الخارجي يقودنا إلى التأمّل العميق مثلما يجعلنا النظر إلى شجرة ما أو نجم ما في حالة ما نتأمّل أعماقنا ونفوسنا كالتعبير الآتي(لم تكمن مشكلتي في تلك اللحظة في حُسن تلك الصبية القتّال الواقفة وحيدة في أقصى الجُنينة، بل في الإحساس الذي داخلني. إحساسٌ شديدُ الوطأة على نفسي ووجداني وجميع كياني. أحسَّستُ أنني قد رأيتُها من قبل. وتحدثّنا معاً عدّة مرّات، وفي مناسبات عديدة. ولكن أين؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟) تلك تساؤلات فلسفية وجودية دفعنا جمال تلك الفتاة إليها فنحن مشغولون بعد النظر إليها في شئ مجهول.سرّ مخفي فيها وفي جمالها المميز،وحالة كونية عامّة تندرج ضمن أسئلة وجودية هي أين ..متى .. كيف..لماذا.. ولو رجعنا إلى القرآن الكريم نجد أن كلمة أين ترد في سبعة مواضع في خمس منها يتمّ التساؤل عن مكان الشريك،وفي موضعين هما القيامة والتكوير يتمّ التساؤل من قبل الإنسان بصيغة المخاطب أين المفر ..أين تذهبون وكلّها مواضع شدّة وحيرة من قبل المعاندين والعصاة أما الكاتب فيستوحي المعنى القرآني لينطلق منه أي من التساؤل فيه إلى الخير فالفتاة الجميلة المنعزلة عن العالم هي شريك لا يعنى بالسؤال عن شركائه لأنها منسجمة مع خصوصيتها والبطل يتساءل عن الشريك من خلال وصف ذي دلالة روحية أكثر مما هي دلالة مادية وهي – الفناة- قائمة أمامه لكنه يتساءل أين رآها!
فهي شريك ولا شريك.
وفي متى يحاول الكاتب أن يستلهم المعنى القرآني فقد ورد قوله تعالى متى هذا الوعد في عدة آيات وهي للتهديد،وفي موضع بشرى للرسول ومن معه يتم التساؤل بمتى عن النصر(حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله)فإذا كان الرسول وصحبه يسألون عن المستقبل الموعود فإن الكاتب استلهم المعنى القرآني ليبحث عن الطمأنينة الموعودة من خلال الماضي أو بالعودة إلى الماضي.
والحق هذا بعض من طرق تعامل الدكتور المبدع علي القاسمي في تعامله مع التراث والفكر العربيين وقبل أن أختم هذا المقال أودّ الامله مع التراث والفكر العربيين وقبل أن أختم هذا المقال أودّ الإشارة إلى أنّ الباحث والكاتب د عليّ القاسمي كتب أيضا القصص القصيرة غير قصة السيرة وآمل أن يتسع لي الوقت لأدرس بعض قصصه تلك لأنّ الكاتب أستطاع فعلا وهذا ماسنثبته إن شاء الله الاستفادة في أعماله الأدبيّة من ثقافته العربيّة المعاصرة والتراث ومن ثقافته الأوروبية الواسعة لا سيما أنه درس اللغة الإنكليزية واستوعبها وحصل على شهادته العليا فيها واستفاد من الثقافة الأوروبية بشكل عام.
د. قصي الشيخ عسكر
....................
راجع لسان العرب مادة أنس
الأنعام ،النحل،القصص،فصلت،القيامة،والتكوير
الأنبياء،النمل،السجدة،سبأ.يس.الملك