أصدقاء الدكتور علي القاسمي

الحسين بوخرطة، قراءة نقدية للقصة القصيرة "أصابعُ جدّي" للدكتور العلامة علي القاسمي

 


قراءة نقدية للقصة القصيرة "أصابعُ جدّي" للدكتور العلامة علي القاسمي


الحسين بوخرطة

نقلا عن موقع أفاق معرفية 

تعتبر هذه القصة من روائع القصص الذي رتبها بحنكة بالغة الدكتور العلامة علي القاسمي في مجموعته القصصية "أوان الرحيل". إن كلماته الإبداعية، التي يتشرب منها القارئ بتلذذ دفئ حيوات الأفراد والأسر والجماعات في منطقتنا العربية (حرص جماعي للحفاظ على الرعاية والعناية عائليا وقبائليا)، سرعان ما تبحر به في عوالم تمتزج فيها المعاناة والمآسي والآمال عندما يتم استحضار التغطية السياسية للأحداث والسياقات الاجتماعية والاقتصادية. إنها قصص تحمل المتأمل بعباراتها إلى الغوص مجددا في التاريخ الحديث لتطور المجتمعات العربية وأنظمتها السياسية، التاريخ الذي كان علي القاسمي في عمق تذبذباته ونبضاته وتفاصيله منذ صباه.


إن الغزل المتقون إبداعيا لعبارات ومصطلحات قصص القاسمي، بعناوينها قوية الدلالة، ومضمونها الثري بالرسائل والعبر، وترتيبها الحصيف، ينقل الناقد رغما عنه إلى مستويات أخرى من التفكير الراقي، تفكير يدفعه لتجديد العزائم والمناهج والغوص في البحث عن سبل وخيارات موضوعية وواعدة، قابلة للتفعيل وللانتقال إلى منطق ثقافي وسياسي لحضارة كان لها الفضل تاريخيا في تطور الحضارات العالمية. بسرده وفنونه القولية في بعديها الفردي والجماعي، بالرغم مما تجسده من متاعب الواقع وآلامه، يدفعنا الكاتب إلى سبر أغوار زاخرة بالتفاؤل مبرزا الاعتزاز الذي يجب أن يوليه العربي لخصوصية حضارته، وإمكانياتها الكامنة، وقدرتها على فتح آفاق الأمل في تحقيق غد أفضل.


من خلال ملاحظة العنوان "أصابع جدي"، وبداية النص المعبرة عن مآسي موت الأحبة العظماء (الجد) الساهرين عن قرب عن دوام النبل العاطفي العائلي في التربية والرعاية، ونهايته الحزينة التي ختمت أحداث القصة بعبارة بالغة الأهمية ومحورية "جدي لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يتحسر على عدم تمكنه من جمع أصابع يديه المنفرجة، ولهذا أومأ إلينا بعينيه فقط (خاتما حياته برسائل تفاؤل بلغة العينين تنم بإمكانيات ضخمة، مناهضة للموت، وداعية لإعادة تجميع الأصابع وترصيصها)"، وبعض المشيرات الهادفة التي تخللت فقرات القصة من أولها إلى آخرها "...كانت آخر حركة له قبل أن يغمض عينيه نظرة وانية إلى كفه اليمنى وأخرى إلى اليسرى ... كان قد ألم بجدي ألم غريب، بدا أول الأمر هينا ثم استفحل خطره ... خنصر يده اليسرى فقدت القدرة على الحركة ... قد جزع لذلك جزعا شديدا... عندما تفقد جميع أصابع اليد قدرتها على الإحساس والحركة، فإن الذراع برمتها ستكون معرضة للخطر. سيصيب الداء أصابع اليد الأخرى، ثم أصابع القدمين واحدة واحدة. وبعد أن تصاب الأصابع كلها بالشلل يموت الإنسان .... لكن أي من أعمامي لم يتمكن من إقناع جدي بخطأ نظريته .... استيقظ (جدي) ذات يوم وهو يردد أن البنصر التي بجانبها قد توقفت عن الحركة ... وهذا ما أكد نظريته ... كان يدهشنا حين يقول أن الأصابع أهم من اللسان والعين .... لا أدري كيف كان جدي يستطيع إقحام الأصابع في أي موضوع نناقشه ... كان جدي يؤمن بأن قوة الإنسان وصحته وإنسانيته تتجلى في أصابعه، بشرط أن تكون الأصابع مجتمعة متراصة"، يتضح أن قصة القاسمي تعالج قضية رموز مجتمعية، قضية حضارة لا مناص من العمل على نهضتها مجددا، قضية يتخللها النفسي بتجلياته الثقافية والاقتصادية والسياسية.


فخصائص القصة، من حيث رموزها المجتمعية وأبعادها النفسية وطموحها الحضاري، تزكيها بقوة دلالة المكان (العراق بلاد الكاتب)، والزمان (ليلة تسليم الجد لروحه لملك الموت)، والشخصيات برمزيتها الكبيرة (السارد كشخصية رئيس، الجد بين شل خنصره واحتضاره، الأم والأعمام والأطفال (أما نحن الأطفال (أجيال المستقبل) فقد كنا فريسة الحيرة والأسى).


أما المقاصد والرسائل التي انتابتني، وأنا أقرأ بتأن سطور القصة جملة جملة، وقطع متواليات السرد الهامة والمزخرفة بإبداع أدبي سلس قل نظيره، تتجلى في نظري في قيمة التضامن والتعاون في صناعة الوحدة والخصوصية الحضارية وبناء مستقبل الشعوب العربية. قد تكون رسائل القصة موجهة إلى أفراد أسر صغيرة أو إلى شعب قطر عربي شقيق أو إلى شعوب المنطقة بكاملها، رسالة تعتبر كل عربي أصبع حيوي (فاعل) في جسم بكفين وقدمين (تراب الأوطان العربية الشاسع). في نفس الوقت يمكن اعتبار أن مردودية الجسم وحيويته الدائمة، بكفي اليدين مصدر قوة السواعد، ومسار أرجل بخطوات ثابتة، تبقى إلى حد بعيد مرتبطة بمستوى الحرص على بقاء وديمومة الأصابع متلاصقة ومتراصة ومتناغمة بمنطق يضمن ثبات الخطى والحكمة والتبصر في المسار.


وباستحضار دور الزعامات في بناء الثورات التقدمية وقيادة التغيير الديمقراطي التنموي، وقيمة التكتل والوحدة الإقليمية والجهوية، يكمن اعتبار أن المعنيين بالرسالة كذلك هم البروفيلات الجديدة من رجالات الأنظمة والمجتمعات العربية وكل فرد عربي غيور على حضارته، باعتبارهم على سبيل التشبيه بمثابة أصابع الجد (الحضارة)، ليبقى التماسك ما بين المؤسسات والتراب على أساس الوحدة والتضامن والغيرة على السيادة، بروافدها السياسية والثقافية، رهينا بصلابة الأسس الديمقراطية الحقيقة المنظمة للعلاقات الحقوقية، والتي تتقوى من خلالها الروابط العادلة ما بين الحاكم والمحكوم.


من خلال استثمار الكاتب لخطاطته السردية بإبداع لافت كالعادة، مركزا على تسريد الأمل في النهضة قطريا وعربيا بمعاني ثقيلة الوزن، يتضح أن الأفق المعبر عنه إقليميا، بإمكانياته الهائلة، يتجاوز بكثير مظاهر الواقع وفرامله وكوابحه غير الطبيعية. الكاتب بحبكته السردية ومستواه الأكاديمي الدولي لم يتوقف عند الحلول الجزئية، بل تجاوزها ليفتح أبوابا مبتكرة لمداخل ومنطلقات جديدة للعمل النهضوي الإقليمي.


فعكس القصص المعتادة التي تبتدئ بالحالات العادية النفسية أو الاجتماعية، البداية في هذه القصة كانت حزينة جدا ومعبرة عن الواقع العربي (أفرادا وأسرا وجماعات وشعوبا قطرية وأمة إقليمية). إنها ليلة أسلم فيها الجد (حضارة الأرض العالية المقدسة) روحه الأصيلة إلى العلي القدير. لكن البراعة ستزداد ارتقاء في منعطف أحداث الوضعية الوسطية المخلة، فالشخصية الرئيس (السارد) سيدخلنا إلى حوار شيق ومثير بين الجد والآباء والأعمام، يتشبث من خلالها الجد بنظريته في شأن حيوية الأصابع المجتمعة والمتراصة، مبرزا مآسي تفرقها (فقدان القوة والصلابة)، في حين يواجهه الأعمام بالتشكيك والتهوين، متيقنين أن ما يحس به أمر طارئ وستعود الخنصر إلى سابق عهدها عما قريب. إنها وضعية انجذاب اصطفى وامتثل من خلالها وجدان السارد شاهدا على قضية شائكة ستنتصر من خلالها نظرية الجد (الحضارة)، الذات المريضة الواعية بحدة الأذى الذي أصابعها، بحيث انتشرت العدوى من الأصبع الصغير (الخنصر) لتشمل باقي الأصابع بالتوالي (انفصال الأصابع عن الكف هو تعبير عن انفصال الشعوب عن الأنظمة العسكراتية الفاسدة والمتغطرسة). أما في وضعية الانفراج، فقد تعرضت الذراع برمتها للخطر، زهقت روح الجد بعدما شلت كل أصابعه.


الحضارة لا تموت، وقد تنبعث من تراب كلما اشتدت العزائم لتجميع الأصابع والحرص على تلاصقها والحفاظ عليها متراصة وناعمة ونظيفة كما عودتنا الأعرابية ببهائها وجمالها، وكما عودنا الأهالي على العيش سويا يقتسمون أرزاقهم وطعامهم. إن الجسد الذي يصون بعناية علمية قصوى غذاءه ونفسيته لا يستسلم لأي داء حتى ولو كان وبيلا. وما على الأجيال إلا يتخذوا الجد ونظريته قدوة. فعلا، هذا الكبير في السن والحكمة، لم يعش إلى الأبد كما توهم الآباء والأعمام، وثبت للكل أنه ينظر إلى الأمور بطريقة مختلفة. إنه يرى أن نبض الأصابع متصلة بالقلب، وعصبها يمتد رأسا إلى الدماغ، ليذكر المحيطين به برمزية تباين أهمية الخطوط ما بين الكف والأصابع، وأن قوة الإنسان وصحته وإنسانيته تتجلى في أصابعه. الديمقراطية كإسمنت يرصص ويمتن العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي الملاذ الوحيد لتقوية أدوار الأصابع المحورية في تحقيق المساواة والاستحقاق والعيش الكريم. وهنا يقول الجد لأفراد أسرته: "وفيما عدا ذلك فأنتم عندي متساوون في المحبة مثل أصابعي، لا فرق بين أصبع وأخرى".

مقالات ذات صلة