اكتئاب الكاتب
علي القاسمي: اكتئاب الكاتب
(إلى الصديق الكاتب ع. ع. بمناسبة عيد ميلاده)
غداً، تحتفلُ بعيد ميلادكَ الخمسين. تذرف دمعةً لتُطفئ شمعةً. تغمض عينيْكَ النديَّتيْن عن عَتَمَة السنوات المحتضرة، وتتطلَّع من جديد إلى مَشرِق القلم؛ تستلُّه من غمد الغيوم الهاربة، وتشهره على جدب الإنسانيَّة وتصحُّر العواطف. تحلُم بالخضرة والربيع حُلْمَ الحمقى والمجانين في غربتهم. تحسب أنَّكَ بما تنشره من مقالاتٍ لا يطالعُ بعض القراء إلا عناوينها ولا يتمُّ بعضُهم الآخر قراءَتها، ستخفِّف من سرعة انطلاق الكرة الأرضيَّة، أو تُقرِّبها من نجوم أَلْمع وأقمارٍ أشدّ بريقًا. تتوهَّم أنَّ نفح عباراتكَ سيغيِّر من وجهة الريح، فينزل الغيث الملّون على البيداء والحقول المجدبة، مُحمَّلاً بالمَنِّ والسلوى. تظنُّ أنَّ كلماتِكَ الكسيحة العارية ستقلِّم أظافرَ النسر، فتركبه اليمامةُ بساطَ ريح؛ وأنَّ حروفكَ العرجاء ستشذِّب مخالبَ الأسد، ويعتمرها الغزال طاقيَّة إخفاء. وتأمُل أن تخلع ألفاظُكَ المهلهلةُ بُردةَ جمالٍ ونقاءٍ، على أكوامِ التعاسة والشقاء.
تريدُ أن تمتطي صهوةَ الكتابة في الخمسين من عمرك، وتحملَ رايةَ المجد في يسراكَ، ورمحَ الحرِّيَّة في يمناكَ، مثل دون كيشوت. وأنتَ تُدرِكُ أنَّ تاريخ السخريَّة لا يتّسع لدون كيشوت آخر. وهَبْ أنَّكَ ستكتب، فهل عندكَ حقًّا ما تقول؟ رامبو قال كلَّ شيء شعرًا، قبل أن يبلغ سنَّ الحُلْم، فبهر العالَم، ورحل وحيدًا يبحث عن مثواه الأخير بين ذُرى جبال اليمَن وأغوار خلجان جاوا، بعيدًا عن صَخَب النقَّاد وتنظيراتهم لشعره. وشيلي مات وعمره ثلاثون عامًا، بعد أنْ حرَّر بروميثوس طليقًا، وحفر اسمه بريشته على صخرة المشاهير في جزيرة الخلود. فماذا كنتَ تنتظر كلَّ هذه السنين، يا سيدي؟
بلى، بدأتَ الكتابة في العشرين من عُمركَ، ولكنَّك سرعان ما كسرتَ يراعكَ، وألقيتَ به وراءَكَ، لأنَّك لم تحتمل نيران التجربة وحريق المعاناة. كانت الفكرة تحلّ صغيرةً ناعمةً في ذهنكَ، وتكبر شيئًا فشيئًا، حتَّى تملأَ رأسكَ كلَّه، وتتسرَّب منه رويدًا رويدًا إلى قلبكَ وضميركَ، فتسطو على أحاسيسك ومشاعرك، بحيث تملكُ عليكَ كيانَك أجمع. يُصبِح في أُذنيكَ طنين لا تسمع معه ما يقوله لكَ الآخرون. ويتكاثف في عينيْكَ ضبابٌ لا تُبصِر معه ما ينبغي أن ترى. فتثير هَزْءَ الآخرين وضحكَهم، في حين تهطل عَبَراتُ الألمِ في داخلك. وترغبُ في الخلاص مما يعتمل في أعماقكَ، فلا تستطيع فكاكاً قبل أن يحين المخاض. وتداهمك ساعة الوضع بعد أن يشيخ الدُّجى، ويهرم القمر، ويجافيكَ النوم.
تأْرقُ، تسهرُ اللَّيل بطوله، تمارسُ سحرًا أبيضَ، تغرز قَلَمًا في دفتر. تيمِّم وجهَكَ شطر بابل ونيبور. تستجدي منهما معنى حُرًّا، وكلماتٍ لم تُستعبَد. تتوه في خمائل اللغة الملتفَّة الأغصان. تبحث كالأعمى بين الوديان عن زهرة برية نادرة، في جنينة الحروف التي تضرب جذورها في كَبِد التاريخ. تقترب مبهورًا من لغةٍ تيَّمتْ بحُبِّها ملايين العُشّاق من أرباب الشِّعر وسادة القلم، فقالوا كلَّ ما يمكن أن يُقال، حتّى لم يبقَ ما يُقال، فماذا تقول؟ وَلِمَ تقول ما تقول؟ قُلْ لي، بربِّك، لماذا تريد أن تكتب؟
كنتَ في العشرين من عُمركَ تكتب كي ترى اسمك بازغًا مِن على صفحات الجرائد، فترمقه عيون أقرانكَ ومعارفكَ، ويشيرون بأصابعهم إليكَ، أو يُزجون كلمات الثناء وعبارات الإعجاب إليكَ، فتمتلئ أعطافُك زهواً، وتبتسم لنفسك في خلوتك. غير أنَّكً سرعان ما اكتشفتَ أنَّكَ بكتابتكَ تلك، تُلحِق الأذى بكثيرين منهم. يشعرون بالغَيْرة منك، فيكوي قلوبَهم لهيبُ الحسد. ورحتَ تتساءل عمّا إذا كان ظهور اسمكَ في بعض الصحف التي لا تَعْبُر النهر إلى الضفة الأخرى، يستحقُّ كلَّ ذلك الألم: ألم المعاناة الذي يصيبكَ حين تكتب، وألم الغَيْرة والحسد الذي يلحق بالآخرين حين يرون اسمكَ منشورًا.
لعلَّ الألم الذي كان ينتابكَ أنتَ من جَرّاء فعل الكتابة، هو الذي حدا بكَ إلى ترويض نفسكَ على التملُّص من هذا العشق. فناجيت قلبكَ قائلاً: لِمَ نتعذب، أنا وأنت، يا قلبي، من أجل الآخرين؟ ومَن طلب منّا ذلك؟ ولماذا نُمضي الساعات الطوال في غرفةٍ مغلقةٍ لنكتب عن الحياة والحبِّ والموت، بدلاً من أن نفكَّ وثاقنا، ونغادر هذا السجن، لنمارس الحياة والحبَّ قبل أن يفجعنا الموت؟
كنتَ قد أُعْجِبتَ بتعريف جسترتن للجنون، حينما ذهب إلى أنَّ الجنون هو التعلُّق بالرمز والخيال بدل الحقيقة والواقع. فالأُمُّ، التي تلازم صورةَ وحيدها الذي مات وتظلُّ تخاطبها كأنَّها هو، مجنونة. والبخيل، الذي يفضّل ادِّخار النقود على إنفاقها في اقتناء ما تمثِّله من سلع وخدمات تجعل الحياة أكثر إمتاعًا، مجنون. وأضفتَ أنتَ على هامش مقال ذلك الكاتب الإنجليزيّ: "والكاتب، الذي يحبس نفسه ليكتب عن الحياة ولا يتمتع بالحياة، مجنونٌ كذلك." وأنتَ تأنف من الجنون كأنه عار، ولا تريد أن تضيف إلى غربتك الفكريّة غربةَ الجنون. ولهذا ارتأيتَ أن تهجر الكتابة. ولماذا تُعطي الغيرَ متعةَ القراءة، إنْ كانت في كتاباتكَ متعة، وتحرم نفسك منها؟ فأنتَ تفضّل الأخذ على العطاء. ونويت أن تُخلِص لهوى القراءة وتهجر الكتابة، على الرغم من أنَّ وصال الأولى قد يؤجِّج نار الشوق إلى الثانية.
وتساءلتَ، بعد هذا وذاك، عن فائدة ما تكتب. ما نفع عباراتٍ منمَّقة عن سماءٍ زرقاءَ تكفِّنها الغيوم، أو قمرٍ تشيِّعه النجوم. أو بطَّةٍ سابحةٍ في النهر، أو موجةٍ تائهةٍ في البحر؟ وانتهى بكَ التفكير إلى ضرورة أن يتبنَّى قلمُك قضيةَ الإنسان. تتشكَّل حروفُه حِرابًا تذود عن المحروم والضعيف. ويتحوَّل مدادُه طُوفانًا يكتسح الطغيان. بَيْدَ أنَّك خشيتَ الأفاعي وخفتَ العقارب. فأنتَ لا تحتمل اللدغ، ولا تُطيق الحمّى، وتكره ملازمة السرير. خُلِقتَ شغوفًاً بالنسيم وسريانه، مولعًا بماء النبع وجريانه. وقلتَ في نفسكَ: "لماذا يكون الأديب، دون غيره، شهيدَ الحقِّ، ما دامت شهادة الحقِّ فرض كفاية؟" وهذا تلاعب باللفظ، ومنطق أعوج لا يقوى على ستر أنانيَّتكَ، ولا على تمويه حبِّكَ لذاتكَ. وأصممتَ أُذنيكَ، وأغمضتَ عينيكَ، وأبحرتَ بعيدًا عن شواطئ الكتابة ومرافئ القلم. وأشحتَ بوجهكَ عن جُزُر الشوق، وقطعتَ شرايين الحنين. وشيئًا فشيئًا أدمنتَ على أفيون النسيان.
واليوم، بعد كلِّ هذه السنين، يعاودك الحنين إلى الكتابة. تحسُّ بحاجتك إليها حاجةَ الرضيع إلى دفءِ الحضن. فتُسوِّد في الليل آلافَ الصفحات، تقرأُها قبيل الفجر، تمزِّقها عند الصبح. لا تصلح للنشر. فأنتَ تكتب بأبجديّةٍ معروفةٍ ترتدي الكوفية والعقال منذ أيام السومريِّين؛ ألِفها أليف، وباؤها بيت، وجيمها جمل، ودالها دلو. وموضةُ الكتابة اليوم زيُّ اللامعقول الذي يستعصي على الفهم، ويكتسب معناه من اللامعنى، وينبثق نظامه من فوضى الدال والمدلول، شعرًا منثورًا كان أم نثرًا مشعورًا، يحملق فيه القارئ مشدوهًا، فلا يستوعب منه شيئًا، فيعتصم بصمت أبي الهول، خشيةَ أن يُرمى بِتُهمة الجهل أو تلصق به سُبّة التخلُّف. فهو يرى أن رفاق الكاتب من النقّاد يفلسفون ما يهذي به، معلِّلين غموضه المطبق بتجذُّرات اللفظ في تسامياته العليا، وهلاميَّة الفكرة الغارقة في البنية العميقة، ودليلهم على ذلك أنَّ نصوصه جزءٌ من الحركة الفنيّة الحديثة التي تتجلَّى كذلك في روعة تلك اللوحات الفنيَّة التي تمَّ رسمها بإراقةِ الألوان كيفما اتَّفق، وإضافة الفنّان إليها متكرِّماً بعض الخطوط الاعتباطيَّة وهو مُغمض العينَين. إنّها العبقرية ذاتها مؤطَّرة بإطارٍ ثمينٍ، ومعلَّقةً في صالةِ عرضٍ فاخرة. وما على المشاهد اللبيب إلا أن يُطلق العنان لتجلِّيات اللاشعور، على الخطوط والألوان والمنظور.
لماذا تكتب، إذن، إذا كنت تمزِّق ما تكتب؟ بصراحة، بكلِّ صراحة، لا بُدَّ أنَّكَ تجد في الكتابة ملاذًا عن غربتكَ، ومهربًا من وحدتكَ. غريبًا كنتَ في وطنكَ وفي منفاك. وحيدًا كنت وأنتَ محاطٌ بالأهل والخلان. والآن، تخنق أنفاسَكَ الغربةُ، فتلجأ إلى الكتابة تعانق كلماتُها روحَك، مثل صديقٍ عائدٍ، وتمسح حروفُها عينَيك المرهقتَين، مثل أُمٍّ حنون. تفتح لكَ اللغةُ دروبًا في جنانها السِّرِّيَّة. تُحسُّ برعشة الإبداع. تذرف الدمع، وتشعر بالارتياح، وتغادر واقعكَ المظلم الكئيب إلى عالَم النور والكمال والأمل. عيد ميلاد سعيد، يا صديقي!*
***
د. علي القاسمي
......................
*القصة من مجموعة "دوائر الأحزان" ط1(القاهرة: دار ميريت، 2007)، ط3 (الدار البيضاء: دار الثقافة، 2015) المتوافرة في موقع "أصدقاء الدكتور علي القاسمي" على الشابكة.
......................
قصة "اكتئاب الكاتب" لعلي القاسمي
بقلم: الدكتور محمد صابر عبيد
الغالي أبا حيدر
تناولتُ هذا الصباح قصة (اكتئاب الكاتب) بدلاً من فنجان القهوة واستمتعت بها، إذ كانت حوارية درامية مع الذات والآخر، مشحونة بالأسئلة، ومكتظّة بالتأمُّل الغزير، وكأن الحكاية السردية التي كانت تجري بين يديك، كالماء في قصص أخرى، تحوّلت إلى حكاية رؤيا تصرخ في أعماق القاسمي المنفصل رمزياً عنك، قبل أن تصرخ في أعماقنا جميعاً، وتهدِّد على نحو ما إنسانيتنا وجدوى مثولنا بين يدي حياة لا ترحم. فعتبة الإهداء (إلى ع .ع في عيده ميلاده الخمسين) تمثل دالاً حاشداً يعبر قارةَ القاسمي لتتحوّل إلى إشكالية حياة فلسفية مثخنة بالأسئلة المُرّة، لذا فإن لغة القصة ولوحتها السردية حفلت بلغة تعبير تقصّدت الارتفاع في سلّم البلاغة والبيان من أجل أن لا تكون مجرد حكاية للاستمتاع وتزجية الوقت، بل لمداهمة أكثر الزوايا حجباً وظلاماً والتباساً في أعماقنا وأرواحنا اللائبة. لغة أنيقة كثيفة ثرة ممتلئة، تسعى في سياق من سياقاتها إلى إرجاع بهاء الجملة العربية الصافية والنقية والباهرة والأصيلة إلى مائدة القصة القصيرة، وهي تحتفل بعيد ميلادها الخمسين حيث تنجدل الخبرة واليأس، الاكتئاب والوعي، التجربة والتعب، في قارورة واحدة تغري وتصدّ على حدّ سواء.
محبتي لك دائماً.
محمد صابر عبيد