الحسين بوخرطة، قراءة في كتاب د. طلال الطاهر قطبي بشير تحت عنوان "دراسات في أدب الدكتور علي القاسمي"
قراءة في كتاب
أدب العلامة وأضواء الأمل
قراءة في كتاب د. طلال الطاهر قطبي بشير تحت عنوان "دراسات في أدب الدكتور علي القاسمي"
هذا الكتاب الشيق صدر بطبعته الأولى سنة 2022 عن دار المصورات للنشر والطباعة والتوزيع بالخرطوم (السودان). الأديب قطبي هو اليوم أستاذ جامعي بجامعة الطائف بالمملكة العربية السعودية. خصص هذا الكتاب للحديث عن الحضور الوازن للنصوص الأدبية للدكتور علي القاسمي محليا وعربيا ودوليا. إبداعاته ترجمت لعدة لغات وأثرت الخزانة ومعارض الكتب العربية وعقول القراء بالفوائد الجمة.
لقد اغتبط د. قطبي بمعرفة القاسمي في أول سطور مقدمة كتابه. فعلا، وكما جاء على لسانه، كل من تعرف على هذا العلامة لا يمكن أن يعتبر نفسه إلا محظوظا. إنه الحظ القدري المستحق الذي يتمخض عنه دائما مسار صداقة حب إنسانية ومعرفية قل نظيرها. فأينما لامس القاسمي إرهاصات الإرادة الأدبية والفكرية تجده لا يدخر أي جهد تواصلي لتوثيق علاقة الصداقة الأخوية. إنه حريص على خلق وتوطيد قنوات تواصله مع القراء والمبتدئين والمبدعين مغاربيا وعربيا ودوليا لتسريع انتشار المعارف البناءة وامتدادها جغرافيا ما بين الأجيال. فكلمات قطبي في كتابه الراقي والمفيد تدفع كل من قرأه إلى إقرار حقيقة وثقي تتجلى في العبارة التالية : "كل من يتعرف على القاسمي يعتبره قدوة إنسانية وعلمية ومعدنا ثمينا بأفكاره النيرة وثقافته الواسعة ومشاريعه المجتمعية القابلة للتنفيذ".
الكتابة عن القاسمي يقول د. طلال هي مناسبة لا تتاح إلا للمحظوظين بحيث تفرض على المعنيين بها إجبارية الرفع من درجات حماسهم مشرئبين بأعينهم إلى أفق فرض النفس في العطاء في سلم الأدباء المنشغلين بزهو وارتقاء المعرفة عربيا ومغاربيا. إنه معدن معارف تراكمت لما يزيد عن ثمانية عقود. هو اليوم مفكر وأديب واسع التجربة وغزير العلم.
أثار طلال حب القاسمي للمغرب وافتخاره بدفء وكرم ناسه. دخل إليه حاملا شهادة الدكتوراه في المعجمية من جامعة تكساس بأوستن في الولايات المتحدة الأمريكية. تفوقه الفكري جعله ينخرط في المنظومة الأكاديمية المغربية مبكرا، بحيث درس في جامعة الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1972. إنه ينبوع معارف وصاحب فضاء علمي واسع شيده بحكمة وتبصر. هو مبدع في مختلف المجالات. نجح في تكسير الحدود التقليدية ما بين شعب المعارف والعلوم الإنسانية. في كتاباته يستشف القارئ المعاني والدروس من الفلسفة وعلم النفس والأدب والنقد ومقاربات التنمية البشرية وحقوق الإنسان. وبشكل أدق، يمكن تصنيفه كصاحب أودية فسيحة مغمورة بالمعارف. إنه الاعتبار الذي جعل قطبي يخشى التقصير في حقه. فإضافة إلى موسوعية تراكماته المعرفية يمتاز بصدقه ومحبته وإخلاصه لوطنه وللأمة العربية وبجمعه بين العلم والمتعة والفائدة.
انتقل قطبي بعد ذلك إلى الخاصيات المبهرة لكتابات القاسمي بدء من حضور الضوء وتجلياته في روايته الشيقة "مرافئ الحب السبعة". فإضافة إلى ربط تباعد أزمنة الكتابة بصدق الكاتب، تطرق قطبي إلى مسألة اعتماد القاسمي المبهر على الطبيعة الزاخرة بشتى الألوان والصنوف وخفاياها وأسرارها وأنوارها، وعلى السماء بكواكبها ومعجزاتها، وعلى الأرض وباطنها ونباتاتها وحيواناتها بما في ذلك الإنسان. في اهتمامه هذا يقدم القاسمي لجمهور القراء عربونا صادقا لحبه للحياة وزهوه بجمالها واخضرارها. جعل من الضوء عنوانا للسعادة، وجعل من خفوته أو المرور إلى الظلام فضاء للحزن والألم. فسليم، بطل روايته، متشبث بديمومة النور الساطع كتعبير عن الانفتاح والأمل في المستقبل، الشيء الذي يجعله ممتعضا من انطفائه أو خفوته وهو يعبر الحدود ويتحمل مشاق السفر المضني.
الضوء، يقول قطبي، يحمل إشارات هامة. فهو المزين للطبيعة بحيث يضفي التكامل والجمالية الجذابة على مكوناتها: سهول، هضاب، جبال، صحراء، واحات،..... كما أن جمالها مرتبط بخيراتها الباطنية من ماء ومعادن نفيسة وطاقة حيوية..... وبذلك، القاسمي يستغرب في تعبيراته من آفة التدهور التي أصابت الأرض العالية وتغييب التمثلات في شأنها في وجدان أفراد الأمة وروحها الجماعية. أمام هذه المعضلة، يقول طلال أن الكاتب يؤمن بالفرج والانفراج وبأمل التحرر والانعتاق من خلال بلورة مشروع نهضوي قابل للتنفيذ. باستثماره في الضوء، يدعو القاسمي أبناء الأمة إلى التأمل والبحث عن كنوز محيطهم الترابي. الأرض العالية، فضاء الديانات المقدسة التي ربطت بعقلانية الأرض والسماء، لها مكانة تاريخية تزخر بالحب والود والبهجة والمتعة العارمة. لذا يعتبر القاسمي الخفوت المصطنع آفة لا تحمل سمات الخلود. الشعوب العربية وارتباطاتها بالأرض لن تستحمل طويلا الحزن والتشاؤم والألم والمعاناة والخوف وآلام اغتراب أبنائها الأفذاذ. لقد جعل من الضوء وخفوته آلية للتعبير بصدق عن حرصه لتقريب الحدث والموضوع من القارئ وعن حسه المرهف وتشبثه بالارتباط الوثيق بين الضوء والفن والجمال. الضوء بدرجات التجريد، كخيوط نور روحانية، مرتبط بالعالم العلوي الموسوم بالسمو والقداسة. استحضر الماضي والحاضر لإبراز الحق في انبثاق مستقبل عقلاني بجذور نافعة. إنها الدوافع الرصينة التي جعلت القاسمي في روايته يقدم لنا لوحات طبيعية زاهية بصور داخلية وخارجية. قصة المرافئ السبع تعبر عن مسار نفساني تخلله اغتصاب غير طبيعي يسر ظهور آفات الاغتراب وجفاف المشاعر وأجج الحنين للعودة للأوطان في نفوس المغتربين طوعا وقسرا. التعبيرات النفسية المستاءة من الأوضاع ما هي إلا تجليات وصفية لأوضاع نفسية عامة شملت حياة الأفراد والجماعات في العالم العربي. عمق تفاقم الأزمات لا يمكن تفسيره إلا بتعمد مناوأة الفكر والفلسفة والعلم في الفضاء العام وفي منطق تنفيذ وظائف مؤسسات التنشئة. عودته إلى الوطن العربي واستقراره بالمغرب له رمزية كبرى عنوانها البارز المشاركة في نماء الأوطان القطرية في المنطقة.
أما بخصوص دلالات الحرية في الرواية، كما وقف عليها د. قطبي، فجسدها القاسمي في وضعية سالم الذي اغترب على إثر انقلاب عسكري قلب أوضاع بغداد. غادر مجروح القلب، كسيح الروح، وهو يبتعد عن مسقط رأسه متوغلا في فضاء الاغتراب القسري. اتخذ قرار الكدح المتعب. حصل على درجات العلم العالية، واستمر في تجسيد القولة "لا فائدة من أوقات الراحة إلا بعد تعب طويل ومنتج". في حقيقة الأمر، النفي في حالة القاسمي، يقول د. طلال، ما هو إلا هروب من حياة والعودة إلى أخرى أكثر حيوية كلاجئ يبرز باستحثاث داخل فضاء اختاره طواعية. لقد ضمن النصر للأمل على اليأس، وتحول إلى مُرَب للأجيال عربيا وإلى سفير للحرية والدعوة إلى التعلق بها. وهذا الأمر ليس بالغريب. سومر تعد أول من كتب عن الحرية عامة، والحرية الطبيعية كأبسط أنواعها في الكون. فاستلهام العبرة في دقة الكون وما يتيحه من حرية فطرية يعد دافعا أساسيا يجعل النضال من أجل حرية الفكر والثقافة زاد دسم للتنمية الترابية والرفع من تنافسية شعوب المنطقة إلى أعلى المستويات. سمات الحرية الطبيعية بخصوصيتها قادرة لوحدها على إضعاف أضدادها كالأسر والسجن والعدوان والكذب والظلم والاستبداد ..... القاسمي في هذا الشأن يمقت الوجه الاجتماعي والثقافي للقمع الذي يمتزج بتعودات الرعاية وعدم القدرة على تحمل المسؤولية. إنه استبداد من نوع خاص يتمخض عنه أنماط التواكل والتقوقع على هامش الأحداث قطريا وجهويا وكونيا. فمحاربة الخوف عند القاسمي، يقول د. طلال، هو السبيل الوحيد لاعتبار النضال والتراكمات الفكرية الثورية كوازع ومحفز قوي للتطلع إلى تحسين ظروف العيش الكريم.
بذلك، تعد كتابات القاسمي بمثابة تراكمات رحيق تجربة طويلة لكاتب تفاعل بقوة مع حضارات العالم غربا وشرقا وجنوبا. تناول مفهوم الحرية عربيا انطلاقا من واقع العراق أكثر من واقع العالم العربي. تم كبس أنفاس شعب بلاد الرافدين إلى أن اشتدت الآلام عليه. تكالبت على هذا البلد الحضاري قوى الغزو المباشر وغير المباشر وعانى من ديكتاتورية وتسلط داما لأمد طويل. أصيبت المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالكساد المولد للتخلف والرجعية.
ورد في هذا الكتاب كذلك أن القاسمي قدم في كتاباته البراهين الدامغة للعلاقة الجدلية بين وأد الحرية وتكميم الأفواه من جهة وتفشي الفقر والجهل في قُطْر مسقط رأسه من جهة ثانية. فالتخلف السياسي ما هو إلا نتيجة لجهل ولَّد الصمت والحياد السلبي وسيطرة فئة حاكمة هجينة على الخيرات والسياسة.
لقد تميزت نصوصه بالاحترافية في اللغة والسرد. رواية مرافئ الحب السبعة جسدت مبدأ "الفن إنما يكون في إخفاء الفن". استعمل فيها تراكيب لغوية مشحونة بالعواطف، واستثمر في أسلوبية تسريب الأثر الآسر إلى القارئ بسهولة ويسر رافعا مستوى انفعاله إلى أعلى المستويات. تقنيات سرده اعتمدت ضمير المتكلم وكثافة الشعر وتركيز وتكثيف المشاعر والأحداث. لغة السرد تجمع بين التلقائية والصقل واستخدام المنطق والاستعارات والتشبيهات الباذخة. ربط الأمكنة بالتعبير عن واقعية الأحداث.
كما عبر القاسمي في كتاب طرائف الذكريات على إبداع من نوع جديد يستمد مقوماته من الواقع بدروسه النافعة. لقد برهن أنه كاتب غير عادي المواهب، وشاعر في إحساسه بالحياة، وناقد في عرضه للمجتمع، وعالم نفس في تحليله للطبيعة البشرية. قصصه واقعية فيها الكثير من الحقيقة. إنه من القلائل الذين يدركون بعمق العلاقة الوثيقة بين القصة والتاريخ. عباراته توثيق للوقائع. حرصه الدائم على التحلي بالصدق في السرد يرتكز على اقتناعه كون استمرار الوقائع النافعة بين الناس مشروط بتحويلها إلى قصة. طرائف الذكريات بالنسبة له آلية ناجعة للرفع من مستوى العناية بالصقل والتهذيب وضمان التوازن في العبارات وتنسيق الجمل والابتعاد من الرتابة والإملال. القاسمي نجح في خلخلة الأجناس الأدبية وتكسير الحدود بين الشعب المعرفية في مجال علم الإنسان، معللا الحاجة إلى التمرد على بعض القواعد القديمة ودفع الأجيال طواعية للاستفادة من تجارب النخب بتراكماتهم الفكرية والعلمية في الماضي والحاضر.
خاصية القاسمي تتجلى في جمعه لحصيلة ثرية في مجالات اللغة والأساليب والتراكيب والمناهج. وظفها توظيفا فنيا أضفى على اللقطات القصصية رونقا وبهاء من خلال التصوير. بالنسبة له الأدب الجيد هو الذي يدور حول مواضيع ثلاث رئيسية هي الميلاد والحب والموت. نصوصه مغمورة بمشاعر الحب التي تتحول عربيا إلى حسرة جراء تجبر الأحزان بسبب الفقدان. الحب يحتل لديه مكانة عليا في فردوس الفن والآداب. وبذلك، فهو من عشاق قوة ارتباط الحياة بالأحلام والعواطف النبيلة. قلبه ينبض بالإنسانية ويسمو بها فنيا إلى عالم المثل. لقد صنع لنفسه أسلوبا مميزا ومُغْر ببساطته وخصائصه اللغوية وأسلوبه المتنوع. لقد طعم كتاباته بأحاديث في فنون التأليف. عبر من خلالها كونه كاتبا أصيلا صاحب فكر ورؤية ومنهج.
كما سبق أن أشرت إلى ذلك أعلاه، لقد احتل المغرب في حياة القاسمي مكانة كبيرة. لقد شكل وجهة له آمنة مكنته من انتقاء فضاءات رحبة بثوابت حقوقية وثقافية متميزة. بداخل فضاءاته الشاسعة كون فكرة متكاملة عن عمق السعادة عربيا. قدم أجمل ما عنده في اللقاءات والتظاهرات المتنوعة. تلذذ حفاوة أهل المغرب وكرمهم وحسن استقبالهم. لقد أحب الأمكنة وتحولاتها حبا جما، وتعلق بمحبة الناس وهو يعيش بينهم. آمن أن بالحب ينفعل الوجود، وهذا ما وجده القاسمي بالمغرب الأقصى. لقد تحدث عن النوابغ بإسهاب وبمشاعر جياشة. تحدث عن الرفاعي وعلي الكتاني وعبد الهادي التازي ومحمد أبو طالب ومحمد عابد الجابري والخطيبي .... تحدث عن الأزمنة والأمكنة واعتز بمدينة فكيك بواحاتها وقصورها.
لقد تفوق كذلك في الكتابة الانطباعية التفاعلية. أقنع القراء أن الانطباعات لا تأتي من فراغ، بل هي انعكاس للعمل الإبداعي في نفوس النقاد والكتاب. بالنسبة له الانطباعيون يرون العمل الأدبي نابع عن ذاتية الأديب ومن مشاعره تجاه الأشياء والأحداث ومدى انفعاله بها. الناقد يهتم بالأحاسيس والمشاعر التي يعكسها بفنية في ملامح نصوصه الإبداعية. إنه من المدافعين عن فكرة خلق عالم يمكن فيه تمييز الخير والشر بوضوح. إعطاء الحقوق لأصحابها أساس السعادة. ميوله للنقد المبني على الشخصية نابع من تأثره بالغربيين في تخليدهم لشخصياتهم بالكتابة عنهم.
القاسمي تعلق بالترجمة واللغة العربية. اهتم بترجمة أشهر الأجناس الأدبية إلى اللغة الأم. كتاباته مَدْرَسَة تُعلم القراء فنون التشويق الكامن الزاخرة بالملامح الإنسانية والمحبة والرضا عن النفس. أسلوبه وبلاغته تساعد النقاد على التحرر من النمطية والتقليدانية.
وأخير يمكن القول أن د. قطبي قد قدم للقراء كتابا جميلا ومفيدا. أهداه للقراء في هذه السنة مجسدا وزن حصيلة الدكتور علي القاسمي ومقاصد مجمل نصوصه ودلالاتها على المستويات العربية والدولية. ولكي لا أطيل عليك أخي القارئ أترك لك المجال لاكتشاف ثراء هذا المولود. أكتفي بهذا القدر كاشفا لك بدون تردد أن هذا الكتاب يستحق القراءة والتأمل وأن يتصدر واجهة مكتبتك المنزلية.
***