قصة قصيرة / دوائر الأحزان
لا بُدَّ أن أحكي قصَّتي لأحدٍ ما، ليدوِّنها ويحفظها، قبل أَنْ يقضوا عليَّ، فإنَّهم يحاصرونني الآن من كلِّ جانب، يُشعلون الحرائق حولي، يسلبون هوائي، يترصَّدونني، يتربَّصون بي الدوائر، يتحينون الفرصة للإيقاع بي، للانقضاض عليَّ، لتقطيع أَوْصالي، ووضع حدٍّ لحياتي، وإلغاء وجودي. ولا أريد أنْ أرحل قبل أن أروي قصَّتي، ليست كلَّها طبعاً ولا بتفاصيلها، فهي طويلة لا يتَّسع لها كتاب، ولم يبقَ لي من الوقت ما يسمح لي بسردها كاملة. سأقتصر في قصَّتي على المعالِم الرئيسة في حياتي، مجرَّد ومضات في ليل الزمن:
شاركتُ نوحاً في بناء السفينة، وعندما فاضت الأنهار، وتفتَّقت السماء بالأمطار، وحلَّ الطُّوفان في شهر محرم الحرام، ركبتُ السفينة معه، وظلّتْ حبيبتي واقفةً على ربوةٍ عاليةٍ، تنظر إليَّ وتلوِّح بيدَيها. ناديتُها فلم تُجِب، أشرتُ إليها أَنْ أسرعي فلم تتحرَّك، وبقيتْ واقفةً هناك، ورحلتِ السفينةُ بدونها. وعندها جلستُ وحيداً، وطأطأتُ رأسي، وغطَّيتُ وجهي بيدَيّ، وانحدرتْ دمعةٌ صامتةٌ من عيني. ومرَّتْ قطَّةٌ أمامي، وتوقَّفتْ عندي، وماءتْ بحنان، ومسّدتْ جسدها وذيلها بساقَيّ العاريتَين.
وفي الهزيع الأخير من الحنين، دخلتُ مدينةَ الورقاء حاسرَ الرأس حافياً، وولجتُ معبد عشتار أبحثُ عن حبيبتي فلم أجدها بين البغايا، فتناولتُ مسماراً ونقشت على حجر: " أُحبُّكِ إلى الأبد."، وعلّقتُ الحجر على باب المعبد، علّها تَرِده يوماً ما فتراه. وشربتُ خيبتي كالإبر وانصرفتُ. وفي الشارع الكبير في المدينة، شاهدتُ مواكب الحُزن والعزاء وهي تنتظم صبايا المدينة الجميلات، باكياتٍ نائحاتٍ على إله الرعي دِموزي، الذي أوقعوا به في شهر محرم الحرام وعذَّبوه وقتلوه ظلماً وعدواناً. وتفحَّصتُ الجميلات الباكيات النائحات باحثاً عن حبيبتي بينهنَّ فلم أجدها، فعانقتني تباريح الوجد حتّى خنقتني، وانخرطتُ في موكب العزاء وأخذتُ أبكي، ولم أَدرِ ساعتئذٍ هل كنتُ أبكي على دِموزي أم على حبيبتي.
وصحبتُ جلجامش وأنكيدو في غزواتهما إلى بلاد الأرز وبحر الظلمات، بحثاً عن عُشْبَةِ الحياة، عن حبيبتي. ورأيتُ أنكيدو الشجاع الشهم ينازل العفريتَ في الغابة ويغلبه، ويصارع الثور الوحشيَّ في ساحات المدينة ويصرعه، ولكنَّه...ولكنَّه يلفظ أنفاسه الأخيرة في حجرةٍ موصدةٍ، فيمضي جلجامش حزيناً وحيداً في بحثه عن عُشبة الحياة. ويغوص في أعماق البحر ويصطادها، ولكنَّ الحية تأتيه وهو نائم فتسرق العُشبة منه وتنسلّ مختفيةً في غارها. وبكى جلجامش بحرقةٍ، وبكيتُ معه بصمتٍ. ولم أدرِ وقتذاك هل كنتُ أبكي على جلجامش أم على حبيبتي. وشربتُ دمعي، وعدتُ إلى خيمتي البالية في الصحراء، وألقيت بسيفي المثلوم في العراء.
ودخلتُ مدينة أور في بلاد سومر باحثاً عن حبيبتي. ورأيتُهم يتجمهرون مستمعين إلى إبراهيم فتجمهرتُ معهم. وباغتنا رجال النمرود وقبضوا عليَّ وأحرقوني مع إبراهيم، فتطاير الرماد من جسدي المحروق، وتصاعد إلى أعالي السماء، ومرَّ على وجنة القمر فانكسفتْ، ولامسَ عينَ الشمسِ فانخسفتً، وتجمعتْ ذرّاتُه في الذرى والتحمتْ ، وتذكرتْ آثارَ أقدامي على الرمال فانحدرتْ.
سخّروني مع الآخرين لتشييد جنائن بابل المعلّقة. وفي المساء كنتُ أستحمُّ في ماء الفرات، أفتِّش فيه بين عرائس النهر عن حبيبتي، عن لُقمة أسدُّ بها رمقي. وانسابتْ موجاتُ النهر جنبي مسرعة وهي محمّلة بالإوز والسمك وبقيت جائعاً، وقهقهتْ عرائس النهر مني، وانصرف الجميع، وظللتُ وحدي أفتّش عنها في أحلامي. وعندما غاص قرص الشمس في أطراف السماء وأفل القمر، انهارَ برج بابل، فرحلتُ مع الراحلين مُيمماً وجهي شَطْرَ آشور، مستنطقاً في مسيرتي الأشجارَ والأحجارَ عن حبيبتي. ومررتُ بمهاجع الغجر، فاستعرضتُ خيامهم، ولمحتُ نساءَهم يرقصن مع الذئاب ويُغنِّين مع البوم، ولكنِّي لم أُكحِّل عينيَّ بمرأى حبيبتي بينهنَّ. وفي المساء كنتُ أبكي بحرقة، ولم أعرف ليلتئذٍ هل كنتُ أبكي على برج بابل أم على حبيبتي.
هلّلتُ لهم عندما أبصرتُ بهم مقبلينَ مغيرينَ على صهواتِ جيادهم، وسيوفهم مسلولة، ومثار الغبار يمتدُّ خلفهم حتّى قلب الصحراء. فالتقطتُ سيفي المثلوم والتحقتُ بهم. ووقفتُ معهم أمام إيوان كسرى وهدمتُه حجراً على حجر، وبنيتُ بأحجاره أسوار مدينة مدوَّرة عامرة بالقصور الفارهة والحدائق الغنّاء والساحات الواسعة، وعندما اكتمل بناءُ المدينة، دخل السلطان وأبناؤه وأعوانه فامتلكوا القصور، وتركوني ورفاقي في أرباض خارج السور. ووقفتُ على باب السور أتملّى الجميلات يفِدن إلى المدينة المدوَّرة من أنحاء الدنيا، ولم تكُن حبيبتي بينهن، فتحدّرتْ دمعةٌ وحيدةٌ صامتةٌ من عيني على غير إرادة منِّي. ولم أدرِ هل كنت أبكي على أحلامي المجهضة أم على حبيبتي.
ودخلتُ مدينةَ بغداد، فرأيتُ الناس في المقاهي ضاحكين لاهين، واشتغلتُ في أحد المراصد. وذات يوم، رصدتُ، من الشرفة، جحافلَ المغول قادمةً على خيولٍ صغيرةٍ ذميمةٍ، فحاصروا المدينة حتّى نفدَ الزاد والعتاد؛ وفي شهر محرم الحرام، والشمس في كبد السماء، اجتاحوا الأسوار، وأعملوا السيوف في الرقاب، فذبحوا الشيوخ والأطفال، وبقروا بطون الحوامل، وأحرقوا الكتب، وهدّموا المنائر، وسال الدم والحبر في النهر حتّى اصطبغت مياهُه بهما. ووقفتُ وحدي على ضفة النهر باكياً، ولم أدرِ يومها هل كنتُ أبكي على بغداد أم على حبيبتي.
وشربت كبريائي كالعلقم، ورجعتُ منهوكاً إلى خيمتي البالية في الصحراء، وألقيتُ رحلي فيها، أعاقر ذكرياتي الأليمة، وكلّما لاح لي سراب، سللتُ سيفي المثلوم وهمزتُ جوادي المُنهك وجريتُ خلفه لعلَّه سراب حبيبتي، بَيْد أنَّي أعود دوماً مضرجاً بالخيبة والحسرة.*
ـــــــــــــــــــــــــــــ
•· من مجموعة قصصية عنوانها "دوائر الأحزان" صدرت طبعتها الثانية عن دار الثقافة في الدار البيضاء 2009. وكانت طبعتها الأولى قد صدرت عن دار ميريت بالقاهرة.