أصدقاء الدكتور علي القاسمي

قراءة في المجموعة القصصية: دوائر الاحزان لعلي القاسمي


قراءة في المجموعة القصصية: دوائر الاحزان لعلي القاسمي

نقف امام عمل ابداعي بحق . يحمل بصمات فكر ية وثقافية، متعددة الجوانب، من ميادين الحياة والواقع، بشكل واضح، لذا فأن المجموعة القصصية، تحمل نكهة ابداعية وخلفيات تقف وراءها، من الرؤية الثقافية والفكرية، في مميزات وسماتها الخصوصية، بأن تحمل موقف ورأي من القضايا الساخنة، التي تناولتها احداثيات المتن القصصي . وهي تغوص في اعماق هموم الواقع والانسان .وحاول الاديب القدير بابداع، ان يعطي اهمية في تناول اهم معضلات التي تجابهنا وتدغمنا في حقيقتها الظاهرية ، لذلك عمل ان يسكب قريحة المخزونة من المعارف بكل انواعها، وسكبها وصياغتها في قوالب قصصية، تبرز بشكل خاص مثبطات ومحبطات وخيبات واحزان الواقع الفعلي، او الوطن والاوطان، التي تعمل على تدمير الانسان داخلياً، في محاصرته بالاحباطات المتكررة، او في سيمات الواقع، في امتهان اساليب تعاطي، النفاق والزيف والغش والانتهازية الوصولية، او التباهي الفارغ والخاوي والمتهرئ، في واقعنا الاليم المحبط، الذي سلك سكة الانحرافوالزيف، في دوائر الاحزان التي تقع على رأس الانسان، في متاعب يتجرعها بصور شتى، هذه زبدة حصيلة الثيمات الحبكة الفنية، في محطاتها التعبيرية الدالة، والتي طرحتها بكل تداعياتها السلبية في المجموعة القصصية (دوائر الاحزان)، في اسلوبية تحمل مميزات خاصة، في البناء المعماري في المتن النص ، في توظيف التقنيات المتعددة بانواعها، التي استخدمت خاصية المحفزات في حكاياتها السردية، التي تحمل الاثارة والتشويق في جذب القارئ واغواءه في متعتها السردية الجميلة، ولكن رغم هذه الجمالية التبسيطية في لغتها الراقية ووضوح مسار سردها، في الحبكة الفنية الاحترافية بحق، لتجعل القارئ يبحث ما وراء النص، ويفتش عن الغاية والهدف والمقصود،لقد اعتنى بها الاديب القدير بشكل خاص في اظهارها، في سبيل تحديد هوية النص ودلالته الدالة، التي هي حصيلة انتاجية من مخاض الواقع بكل تجلياته . ان المتن السردي، مشحون بعدة وسائل تعبيرية وفنية بليغة الاداء، منها الانزياح في عقلية الموروثات، وكذلك الانزياح الى الاسطورة وتوظيفها في المضمون والمحتوى، في ابداع في فن القصة الذي يتجاوز الواقع المألوف في القصة الحديثة، فهي تعتمد على جملة اسس متينة في الاداء والتعبير والبلاغة، في التقنيات السردية التي اتجهت الابتكار المعاصر، في صوغ العبارة السردية، التي تحمل ممزات وخصوصية . في التركيز على الفعل الداخلي، وافرازه الى الظاهر بالكشف المنطقي، اي اننا امام عمل ابداعي مرتب بهندسية التنسيق و الانتظام والاختيار، حتى في العناوين المختارة، ومنها عنوان (دوائر الاحزان) . التي تحمل فعل استفهامي، قابل للتفسير والتأويل . . لابد ان نسجل بعض الملاحظات في خصوصيات وسمات المجموعة القصصية (دوائر الاحزان) .
1 - توظيف المتن السردي، لغاية وغرض بما يحمل في طياته معارف ثقافية وفكرية، في استغلال لغة جميلة مبسطة، في ارتكازات على المحفزات التشويقة، التي تعمل في تحفيز أثارة العقل، في مدخلات، لكشف مواضع الايحاء والترميز، ومعنى التعبيري المثار .
2 - استخدام الاسطورة والتناص في النص، في اسلوب التراجيدية الكوميدية، او السخرية الانتقادية، في ترجمة خيبات ومحبطات الواقع .
3 - اسلوب ابداعي في جر القارئ بالمغريات التشويقية السردية، في سبيل وضعه امام معضلات الواقع العام، الذي يسير بشكل اعوج في قضايا الملحة، الحرية والحقوق والتربية التعليمية، والعقلية السائدة، في الاستعلاء . في الجهل والتجهيل، في الزيف والغش والتزوير، وكذلك في الانتهازية الوصولية، التباهي الخاوي والفارغ، وكذلك خطل منهاج التعليمية، في انتاجيتها التي تخلق الانسان، الهزيل القابل للانهزام في اول خطوة في نشوب الاحداث الطارئة، لانه لايملك حصانة ومناعة الوعي بالعقل الناضج، الذي يكون مؤهل وقادر على مجابهة الاحداث الطارئة التي تمس حياته ووجوده .
4 - اعتمد على لغة عربية فصحى راقية وجميلة في اسلوب بناءها ومفرداتها، وغياب بشكل كامل استخدام او تطعيم النص باللهجات العامية والمحلية
5 - اعتقد من خلال مطالعتي على الكثير من القصص الاديب القدير (علي القاسمي) بأنه من انصار طهرانية النص القصصي، اي الابتعاد كلياً عن الاجواء الايروسية والايروتيكية، وعدم الاقتراب من حافاتها .
لنأخذ عينة من قصص المجموعة، رغم ان كل قصة تحمل جمالية الابداع، والرؤية الفكرية والمضمون المعبر .
1 - قصة (فطور الصباح): بحجة يأخذنا في جولة صباحية، لكي يرسم لنا الواقع الحياتي بكل تفاعلاته، ومثبطاته في الغش والسرقة والانتحال كأنها مظاهر يومية عادية وروتينية، وضجيج الكسل والبطالة والمقاهي بين مقهى ومقهى، مقهى، لتعج بالموظفين والعاطلين عن العمل، في واقع روتيني موبؤ بالزيف، ودس الاخباربالكم الهائل، في مظاهرها الدموية العاصفة، التي تجعل الانسان في حالة احباط وحيرة واستغراب وضياع من هذه المثبطات، التي تهجم عليه في اسراب غربانها السوداء
2 - قصة (الخطر): رمزية القصة وايحاءه البليغ، تؤكد بأن الانسان في واقعنا، غير مؤهل لمجابهة الطوارى، وفحص الحكايات والاشاعات والظواهر الطارئة فجأة ، لانه لايحمل الثقافة الواعية، التي تتحرى في فحص دقائق الاشياء الغرائبية بالتحليل المنطقي، بسبب عقليته المبنية على الهزيمة، والهروب في اول مجابهة الطوارئ المستفزة، يعني فشل ثقافة المجتمع، التي تعتمد على الجهل والتجهيل، وكذلك فشل مناهج التعليمة، التي تخلق الانسان اللامنتج، ليس له مناعة وحصانة في مجابهة الاحداث المستفزة الطارئة، ان انساننا العربي مدجن على روحية الانهزام، ورفع الر اية البيضاء، في هول الخوف وتعظيمه بالمبالغات الغرائبية، يعتمد على الجهل في تحليل ومجابهة الامور، وليس على تحليل العقل الواعي والناضج، ازاء مجابهة شتى الطوارئ بما فيها الاشاعات . وحكاية في بساطتها السردية، بأن ثلاثة من الطلبة المدرسة الابتدائية، شاهدوا شيء غريب يتحرك قرب ضفة النهر، فأثار في نفوسهم وروعهم الخوف والرعب والفزع، ونقلوا الخبر الى مدير المدرسة، وسرعان بث الخبر، الخوف والرعب في صفوف اهل القرية من تداوله وتأويله في الاضافات في المبالغات الغرائبية المفزعة، بعضهم رحل من القرية، قبل وقوع الخطر الجسيم القادم، وبعضهم اغميَ عليهم من الفزع ونقل الى المستشفى . وخلال انتشار الرعب والفزع، قرروا المفاوضة الاستسلامية ورفع الراية البيضاء لهذا المخلوق العجيب والغريب، وربما تقف وراءه مخلوقات من كواكب اخرى ارادت الانتقام من القرية، او لتثير الفزع والموت، وجعل القرية تعيش على كوابيس الموت، وفي النهاية، اتضح حقيقة هذا المخلوق الغريب، بأنه ذكر السلحفاة، تضعنا القصة في اسلوب الساخر بالانتقاد اللاذع لموجودات الواقع الهزيلة
3 - قصة (في الهواء الطلق): احداثيات السرد، تضرب عصفورين في حجر واحد، تجاه الواقع وعقليته وثقافته التربوية، الاب يهدي الى طفلته الناجحة في مدرستها، قفص ابيض فيه عصفورين (كناري) كهدية تسلية لطفلته، وتضعهما في غرفتها، لكنها تلاحظ سلوك غريب من العصفورين . بأنهما يرفضان الدخول الى القفص، في حالة احتجاج ورفض إلا بعد جهد متعب ومرهق، ثم تبيض احدى العصفورتين، بيضة صغيرة الحجم بصورة غريبة، يعني عدم التكيف للجو الذي يسلب حقوق حريتهما . ثم الشيء الغريب الاخر، حينما يسمعان الموسيقى، يصيبهما الهدوء والسكينة والاصغاء المتشوق، وهي تدل دلالة بالغة، بأن الموسيقى غذاء روحي، لا يمكن الاستغناء عنه، وتعبت الطفلة من السلوك الغريب من العصفورين، فأشار والدها، بأنهما لم يتعايشا مع الجو المحاصر والقفص السجن، اي سلب حريتهما، وحين فتحت باب القفص، حتى طارا العصفورين في الفضاء، بعيداً عن سجن القفص . ان الدلالة الرمزية، هي الخطل في اسلوب التربية في ثقافة الطفل وتنمية عقليته، كما يفعل بعض الاباء في خطأ فادح، في شراء الالعاب النارية والمسدسات، بحجة ادخال الفرح والسرور عند الاطفال، غير متبصرين العواقب الناتجة في السلوك والتصرف فيما بعد .
4 - قصة (الكاتب الكبير): احداثيات السرد، تحرث في المفاعل التعبيرية، للواقع المنخور بالثيمات، في الغش والزيف والتزوير والانتحال وسرقة جهد الاخرين، والتباهي الفارغ، التي تقود الواقع الى الخراب والتحطم، وانتهاج سلوكيات انتهازية، لضحك على الذقون، وهي تؤدي بالنتيجة خيانة المسؤولية . في تقمص زوراً دور المثقف العليم وكاتب الشهير والكبير، او صاحب الشهادة العلمية الرفيعة، هو في حقيقة الامر من هؤلاء المزيفين، الذين يشترون ألقابهم العلمية الرفيعة بالمال، او شراء جهد الاخرين بالمال، وانتسابه اليهم في جهدهم الكبير والرفيع، وهم لم يكتبوا حرفاً واحداً، ان ايحاءات هذه القصة في دلالتها البليغة، تنطبق تماماًِ على الواقع العراقي، اكثر من اي واقع اخر، في شراء الشهادات العلمية المزورة، او الرسالات الاديبة العلمية بالشراء المالي، وكم من اعضاء البرلمان العراقي، اشترى شهادته الموزرة، او زور شهادته الابتدائية او المتوسطة، بشهادات علمية رفيعة المستوى، مما خلق عندنا النائب الغبي والجاهل، وحتى لو كانت شهادته المزورة تحمل لقب الدكتورا، وهو اصلاً، خريج ابتدائية او متوسطة . هذا التزوير حطم الواقع العراقي بالخراب، ولكن المصيبة، يتم كل ذلك تحت سمع وبصر الحكومة والقضاء العراقي، مثل هذا الكاتب الكبير والخطير والشهير، وهو لا في العير ولا في النفير، وانما عنده القدرة على دفع المالي، ليسرق جهد الاخرين . وكم من الكم الهائل من حملة الشهادات المزورة، يتولون مناصب رفيعة وحساسة في الدولة
5 - قصة (التحقيق) وهي ترمز الى عقلية الاجهزة الامنية (الشرطة) التي تطبق الاوامر والتعليمات، بشكل جامد ومتحجر بالانغلاق التام،بذلك يتحول شعار . الشرطة في خدمة الشعب، الى شعار . الشرطة في معاناة الشعب وقهره واستلابه، في عدم سماع شكاوي المواطن، احترام المشاعر والحرية، هذه العقلية الجامدة، هي في واقع الحال تحطيم وثبط العزائم، وتلعب دوراً سلبياً في تخريب المواطن،عكس واجبه المعروف . وحكاية القصة في بساطتها الجميلة، ذات بلاغة تعبيرية بليغة . بأن فتى مكافح وطموح ( راجي ) عمل المستحيل في جهده المضني، في سبيل مواصلة دراسته، بان يحصل دائماً على الاولية في المدرسة، حتى وصل الى الحصول على الشهادة الثانوية، في ترتيب الاول في مدينته، مما ادرج اسمه ضمن اسماء البعثات الدراسية في الوزارة التي ترسل الى الخارج، ليحصلوا على الشهادات العلمية على نفقة الدولة، وبقى على موعد الاختبار والمقابلة، ربع ساعة فقط، لتبدأ رحلة الحلاوة المصير والمستقبل الزاهر، لكن سوء الحظ والقدر . استوقفه الشرطي بذريعة التعرف على الجاني، وساقه عنوة الى مركز الشرطة، رغم توسلاته، وذكر بأنه ينتظر مقابلة حاسمة تقرر مصيره، وطلب منه ان يتفهم الموقف الانساني، ان لايقف عقبة في طريق مستقبله بحرمانه من المقابلة المنتظرة بربع ساعة ، لكن كل توسلاته وتضرعاته، صبت في الفارع، وفي مركز الشرطة، بعد ساعتين من الاحتجاز اطلق سراحه، بعدما ذهب جهد السنين، والمكافحة المتوصلة، في تحقيق الطموح، تخلف عن موعد المقابلة، واختير اسماً اخر بدله ،وضاع حلمه بالحصول على شهادة علمية،، وعاد خائباً يلوك الدمعة والحسرة والحزن على سوء القدر، الذي وقف حجرة عثرة في مواصلة طريقه الدراسي .
6 - قصة (دوائر الاحزان): استلهام مبدع في استخدام الاسطورة، وتوظيفها، لكي تنطق بمخالب وثيمات واقعنا، المتحطم، الذي يقود الى ثبط العزائم بالهزائم والاحزان، بأن يصيبنا الانحراف والتيه والضياع، منذ الطوفان وسفينة نوح، عندما فرقت بين حبيب وحبيبته، وتأخذنا القصة في اسلوبها التراجيدية الكوميدية، لسخرية والانتقاد من واقعنا من التاريخ القديم ولحد الان، نبحث عن حبنا الضائع في تلاليف الزمن المضاد لنا، كأنه يرفضنا ولا يتقبلنا، وعوضنا بالاحزان والمعاناة، نلهث وراءها كالوهم والسراب، بأننا نبحث على حقيقتنا، الضائعة كحبنا الضائع، ولم نجد سوى العثرات والمرارة الحياتية، ولم نحصد سوى الخيبات والفشل والانهزام، وتراكم المحن والشدائد، والكوارث الدموية علينا من كل صوب وحدب، التي لم تنقطع فواجعها المدمرة منذ موت (دموزي . جلجامش . أنكيدو . أبراهيم . الحسين) هذه المصائب والمحن التي نتجرع لوعتها الحزينة، في شهر محرم، شهر الموت والنكبات، التي تلاحقنا في هزائمنا، تلاحققنا في تخبطنا في الفوضى والضياع، تلاحقنا في الخراب، كأننا مسلوبي الارادة، كأنه تسيرنا قوى خفية نحو حافات الهاوية، الى حافات الخيبة والاحزان، هذه ايحاءات القصة، يعني ضياع الحب والهوية، ولكن في اسلوب بارع في التعاطي الكوميدية ساخرة في لون تراجيديتها، التي تلاحقنا دون فكاك عنا

جمعة عبدالله

مقالات ذات صلة