قراءة في المجموعة القصصية ( أوان الرحيل ) علي القاسمي
جمعة عبد الله
نقف باعجاب امام هذه المجموعة القصصية , امام سعة عوالمها من الابداع الواسع , التي تحتض المعارف المتنوعة الواسعة المختصة في شؤون الحياة والوجود , في خزينها المتوفر والغني الذي يملكه الاديب , في المجالات الثقافية والفكرية والفلسفية , لذا فأن قصص المجموعة . هي بكل بساطة تتخذ موقف ورؤية فلسفية ورؤية تأملية واضحة , لا غنى عنها , بما تمتلك من معارف وخبرة وتجربة طويلة , وعميقة في مجالات ابداعية متنوعة ومختلفة , لهذا فأن الاديب يملك ناصية القدرة الكبيرة على التوظيف في جمالية أبداعي في طيات ثنايا النص القصصي . لذلك يجد القارئ ضالته المنشودة , في عمق رؤية الابداع وتفاعله الحميم في مختلف العوامل والتأثيرات . وخاصة في قضايا ومعضلات حيوية وحساسة , تلتهب الواقع في نيرانها الناشبة , وفي جوانب متعددة ومتنوعة , لذلك تنعكس هذه المؤثرات على النص القصصي , من قيمة جمالية بشكل متفاعلة ومتحركة في تنمية نمو وتطور مسار الحدث , واخذه الى مديات واسعة من الرؤى , التي تستحق الاهتمام , ويقدمها في اسلوب بسيط عميق التصور والايحاء والرسم , في لغة السرد , التي ترتقي باسلوب الحكاية البسيطة , الى براعة الاسلوب الحديث والمتطور الجامع في تقنياته الحديثة , في الحبكة الفنية , التي تملك صيغة صفة التنوع في الفعل الحساس والمتأزم والمنفعل , الذي يأخذ ابعاد المتخيل , وجمعه مع الخيال والواقع , وفرز ايحاءتها ومغزاها ورموزها , من معين التجارب الحياتية ومعايشتها في مختلف المراحل , لذلك يأتي التعبير السردي , في كل تصوراته وتأملاته ومواقفه , ان تكون عملية المخاض , متكاملة من الرؤى والرؤية , التي تمتلك حرية التأويل , وحرية المطابقة والمقارنة , بين المتخيل ومضاجع الواقع الفعلية , لذلك يجد القارئ منهج اسلوبي متطور , في لغة السرد , تتعدى الاطر التقليدية , فهي متحركة في ديمومة الحركة, بأن تملك حرية الرؤية والموقف الحياتي والفلسفي , في القضايا الحساسة , التي تطرحها , بانسيابية ناضجة , وبشفافية تشويقية , بما يدور في عمق الذات الانساني ,من تفاعل وصراع المتداخل بالقلق المأزوم , في زوبعة الواقع المحسوس والفعلي . في طرحها هاجس الموت, الذي يشغل الهم والبال الاول , واولى قضايا الحياة والوجود وفي تصارع قائم , وفي علاقات متداخلة ومترابطة , لا يمكن فصلهما عن الموجودات الحياتية . ولا ننسى في ثنايا المجموعة القصصية , عامل الغربة الطويلة بكل تشعباتها , لها نصيب من التأثيرات المؤثرة في جوانب العمل الابداعي . لذلك نجد خاصية بارزة في اسلوبية التعامل مع اشكال السرد والحدث , في انماط مختلفة ومتنوعة , قد تتعدى المألوف في ثنايا المتن القص , ولكن الملفت للنظر في الاسلوبية القصصية للاديب , بأنه يأخذ فعل الحدث من الداخل , وبكل تأثيرته في المفاعيل الداخلية , في تطور الصراع وازمته , وانفعالاته في الفعل الدرامي , او في الانفعال الدرامي . لنجد ابعاد تحدد في العمق من فعل الازمة , لتخرج الى العالم الخارجي , لتسلط الضوء الكاشف عليها , بكل الابعاد النفسية , بصيغة مكاشفة الذات , واظهار فعل الرؤية للحدث ومساره , في مساحته الخارجية المسلطة عليه , اي اننا في المحصلة النهائية , بأن كل قصة من المجموعة , تحمل بعد داخلي وخارجي , لتكون المشهد العام , التصويري المرسوم في مسار الحدث , الذي يعطي النتيجة في المحصلة النهائية لمردودات الافعال الظاهرة , وهي تكشف عن روح التفاعل في طرح القضايا التي تشغل البال العام , في اسلوبية سردية منسقة بابداع وتمكن من الاحترافية , وفي حركتها الدؤوبة لشخوصها , في قيادة مسار الحدث المركزي لمتن للقصة , وقد تميزت المجموعة القصصية بتغلب ضمير المتكلم , بأن يكون الفاعل والمتفاعل , السارد والراوي , ولكن ضمن ضوابط محددة ومركزة , والذي اخذت مسئلة الحيز الاكبر , في قضية الموت , لذلك خلت النهايات لقصص المجموعة , من النهاية السعيدة , , والاديب ( علي القاسمي ) له ناصية متمكنة , في حشر القارئ ان يتفاعل مع مؤثرات الحدث القصصي , بشوق ولهفة , بأن يجعل القصة ناضجة كأنها خرجت من التنور , او من المشغل الرسمي التشكيلي . والمجموعة اشتملت على 14 قصو , اضفافة الى نصين , ( اقتربا من اسلوب السرد الفني للقصة الحديثة ) , لنأخذ بعض العينات , ونترك البقية لفترة قادمة .
1- قصة جزيرة الرشاقة : عنوان مغري في التأويل والاختيار , ولكنه يشير بدلالات عميقة الى موت حضارة في الاندثار , وموت حضارة اخرى في تخمة الشبع الذي يتعدى المعقول والمنطق , الموت الاول يخصنا نحن بعمق , هو اهمال حضارتنا ( البابلية ) حضارة عمرها اكثر من اربعة آلاف عام , ان يصيبها النسيان والاندثار , لكنها تظل مركز الاهتمام من اهالي جزيرة الرشاقة ( العالم الغربي ) بأن تكون قبلة السواح ومحط اهتمامهم , رغم انها اصابها الموت القسري ( لم يبق منها إلا اطلال وخرائب , انها بالاحرى اثار مدينة مندثرة , مجرد شوارع مهجورة , وقاعات بلا سقوف , واعمدة رخامية متصدعة , وجدران متهدمة ) , لكن في المقابل لجزيرة الرشاقة ( العالم الغربي ) في معجزة التطور التكنولوجي الهائل في كل مجالات ميادين الحياة , في الرفاه والرخاء الانساني الى حد التخمة المجنونة , التي تؤدي الى موته البطي , اي تحولت كل معجزة التطور العلمي , الى الاشباع في الاكل ( نعيش لنأكل ) حتى تصاب بالسمنة والترهل , الذي يؤدي الى العجز والشلل والكسل , وهذه الامراض , تؤدي شيئاً فشيئاً الى توقف العمل والانتاج والحياة نفسها , نحو الكساد والازمة الشاملة .
2 - قصة الكومة : يضعنا القاص امام مضلة ومشكلة حياتية وجيهة , التي تنخر واقعنا , في النظرية الموروثة في العقلية والثقافة , في مبدأ عدم المبالاة وعدم الاهتمام , في مبدأ ( اني شعلية . او لا يهمني ) وهو يمثل الثقافة الانهزامية , من حقائق ومعطيات الواقع , بالهروب من الفعل المضاد , والتقوقع في الانانية ( الانا ) بأن كل حطام الواقع تبدأ في عدم صد تياراته المخربة التي تقود الى الانحراف . و يدور حدث القصة , حول أمرأة عجوز فقيرة , تواجه معضلة العيش بالتسول وفي ظروف قاهرة , في اجواء باردة جليدية من الشتاء , تمد يدها لطلب العون والمساعدة , والرجل الرياضي , الذي اعتاد على الرياضة الصباحية , لاحت له في اليوم الاول , كومة من بعيد , فلم يعر اهمية , رغم الجو الشتائي القارص , وفي اليوم الثاني لاحت له حركة ندت من الكومة , فتجاوزها , واليوم الثالث تيقن بأن الكومة , ما هي إلا أمرة عجوز متلفعة بالعباءة السوداء تمد يدها للعون , وحين اخرج بعض النقود ليضعها في يدها , فسقطت المرأة العجوز جثة هامدة , يعني المساعدة جاءت في الوقت الضائع , او كما يقال ( بعد خراب البصرة ) , وكان من الممكن انقاذها في اليوم الاول انقاذها , ولكن مبدأ ( اني شعلية ) حال دون ذلك .
3 - قصة الكلب ليبر : تطرح مشكلة عويصة يعانيها اهل الغرب , هي مسألة الوحدة والانعزال الاجتماعي , هذه الوحشة الحياتية , بعدم وجود رفيق العمر , ان يشارك في تبديد الانطواء والانعزال الحياتي , ولتعويض عن هذه الخسارة , التشبث بأي شيء , في السلوكية والتصرف الحياتي , والقصة تدور بشكل غرائبي في أمرأة ارملة تتشبث في كلب يعاني الموت البطي , في الرعاية والاهتمام الى حد الجنون , بأن تقرن حياتها كلها بكلب سائر الى حتفه , هذا القلق الحياتي ( آه يا ألهي , ماذا سأفعل اذا فارقني ليبر ؟ ) ولم تستسلم لفكرة موته , سوى النحيب والتوجع بلوعة الفراق .
4 - قصة الخوف : مضمون القصة , هي فعل الادانة لبعض السلوكيات والتصرفات الخطيرة والضارة , في اخلاقيتها الهمجية , في عقلية الحرامي السارق , في استغلال ضعف ووهن المقابل , وهذه الاخلاق التي تمثل ضعاف النفوس والذمم , كما شاهدناها في الواقع العراقي , في استباحة ممتلكات الدولة في السرقة والنهب والحرق , وهذه الظاهرة الخطيرة , معشعشة في واقعنا بشكل خطير , والقصة تدور حول سائق في طريق زراعي , انحرفت سيارته واصطدمت باشجار الطريق , مما اصابها التحطم , وخرج السائق يصارع انفاسه الاخيرة بنزيف الدماء , وهو في بين الحياة والموت , ينتظر نجدة واستغاثة من احداً ما , حتى لا يموت , وحينما ادرك اقترب رجل , تنفس الصعداء , بأنه سيقدم له المساعدة والاسعافات الاولية المطلوبة , ويقول في داخله , لانه غير قادرة على الكلام والحركة ( افعل شيئاً ارجوك , اتوسل أليك ) لكن بدلاً ان يقدم المساعدة , يتركنا الاديب في مشهد تراجيدي مصور , بشكل ابداعي , بحيث يجعل القارئ ينتفض من مكانه فزعاً , ويصرخ باعلى صوته ( انه يسرقه يا للعار ) , هذا الابداع في لغة السرد , في فعلها الدرامي , ويقدمها لنا في اطار كوميدي تراجيدي في فعل السرقة ( يحس بالرجل يمرر يده على صدره , , تتعثر بجيب سترته , لابد ان يريد تمسيد قلبه لتنشيطه , وبعد قليل تتنقل أنامل الرجل الى معصم يده اليسرى , يضغط على المعصم قليلاً , لاشك انه يجس نبضه من معصمه , بعد امتنعت عليه دقات قلبه . لا . لا , انه يزيل ساعته من معصمه , ثم يسمع خطوات الرجل تبتعد عنه في اتجاه سيارته ) ص 75
5 - قصة المدينة الشبح : في رؤيتها التأملية الواقعية والفلسفية , التي تصب في المستقبل القادم الاسود والمظلم لبلدان البترول , حين تكون هناك مصادر طاقة اخرى متوفرة , بدون الحاجة الى البترول , عندها سيصيب الكساد اسعار البترول فتنزل من 80 دولاراً للبرميل الواحد , الى اقل من دولار واحد , عندها سيصاب الحياة بالشلل والموت البطيء , بالوحشة المخيفة , التي تهدد الوجود الحياتي , وهذا الحياة مرتبطة بوجود البترول كطاقة اولى في الاستهلاك والانتاج , وعندما يصيب هذه الطاقة بالكساد والبضاعة البائرة , يتحول مستقبل بلدان البترول , الى مستقبل مظلم وموحش بقتل الحياة العامة وهجرانها , والقصة تدور حول غريب اصابه الحنين الى الوطن او الى مدينته , ويأتي بسيارته الكهربائية مع زوجته الامريكية , لكن يجد مدينته مهجورة وموحشة هجرها اهاليها , هذا الحدث يدور في القرن الثاني والعشرين , اي بعد اقل من مئة عام , اي في عام 2081 , ولم يجد في بيته القديم سوى خرائب مهجورة , ويعثر على مذكرات جده , تدون الاحداث اليومية المفجعة , في موت المدينة والحياة في عام 2081 , ويقدم في مذكراته التفصيل الكلي لكساد الحياة , بتوقف نبضها وحركتها نحو الموت البطيء الموحش
6 - قصة الخوف : قصة الرعب الحقيقي الذي تقشعر له الابدان بالهلع والخوف , والقصة تتناول قضية خطيرة افرزها الواقع الفعلي , في عقلية وثقافة الدم والعنف , في عمليات القتل والذبح , وكذلك تتناول قضية الخوف , الذي يشل الفعل المضاد , بالشلل التام بالتفكير , والانطواء في غلاف الخوف والهلع , من الاجرام الوحشي , الذي يجري امام الانظار , الذين لا يفعلون شيئاً سوى الفرجة والارتجاف في الرعب والخوف , دون ان يحركوا ساكناً , امام فعل الجريمة وهي على مرمى منهم , يعني ان هذا الخوف والهلع , هو ايضاً شريك في الجرائم الوحشية , دون تقديم الفعل المضاد . ويتحدث الساري او الرواي , بأنه جالس على ربوة عالية , ويرى من بعيد اربعة رجال قادمين في اتجاه البحر , ثلاثة رجال يرتدون الزي الموحد الخاكي , والرجل الرابع يلبس ملابس مدنية , مقيد اليدين الى الخلف , وحين يقتربون اكثر , تتوضح ملامح الرجل المقيد الى الخلف , بأن ملامحه ليس غريبة منه , بل يعرفها ولكن لا يذكر اسمه , رغم انه شخصية محبوبة ومعروفة في المدينة , وحين يدنون من شاطئ البحر , يفتحون عنوة فم الرجل المقيد , ويستل احدهم خنجر , وينتزع لسانه ويقذفه الى ماء البحر , ثم محاولة تغطيسه الى اعماق الماء , , رغم محاولات بالمقامة الضعيفة , وتنتهي فعل الجريمة على احسن ما يرام , بأنتهاء المشهد المرعب , والراوي يكتفي في ارهاصات الخوف والهلع , دون ان يقدم شيئاً للعون , بالصراخ بالنجدة الى الفلاحين في الحقول , او الى عمال المصانع , او يصرخ في ايقاف فعل الجريمة , ويعود الى بيته , بروح انهزامية مندحرة , ويشعر بأنه انهزم , فلم يبدي منه اي عون , هذا هو حال واقعنا المرير , وهو الخوف الذي يشارك في فعل الجريمة , الخوف الذي يمنع العقل بالتفكير , وانما يصاب بالانهزام الكلي