أصدقاء الدكتور علي القاسمي

اللغز- قصة قصيرة للدكتور علي القاسمي



اللغز!

ali alqasimiأربعون عاماً مرَّت على الحادثة التي سأرويها، ولم أستطِع نسيانها، ولم أتمكَّن من حلِّ اللُّغز الذي حيّرني طوال عمري.
بين آونةٍ وأخرى، تطرُق ذاكرتي في وحدتي، تحاصرني في الأماكن الموحشة، تقضُّ فراشي عندما آوي إليه وحيداً: أظلُّ أقلِّب الأمر على جميع وجوهه: الممكنة والمحتملة والمستحيلة؛ لعلَّني أعثر على جوابٍ معقولٍ، أو أجد تفسيراً منطقياً مقبولاً لما وقع، يضع حدّاً لتساؤلاتي المتناسلة المحيِّرة. لم يخْبُ وهج هذه الحادثة بمرور السنوات الطوال، ولم يسلبها الزمن بريقها، كما فعل مع غيرها من الحوادث الأكثر أهمِّيَّة، والأبعد مغزى، والأقوى تأثيراً في مسيرتي.
كنتُ شاباً يافعاً في أوائل العشرينيّات من عمري، أدرس في الجامعة الأمريكية في بيروت؛ المعرفة هي منيتي، واكتساب العلم هو همّي ومطلبي؛ متفائلاً ، كبقية أبناء جيلي في الجامعة، يملأ أعطافنا الأملُ في أنَّنا سنستنزل من أعالي السماء عنقاء الوحدة العربية في القريب العاجل، وهي تحمل على جناحيْها التنمية والديمقراطية والرفاهية، ونحرِّر فلسطين السليبة؛ وأزهار بيروت، آنذاك في أواسط الستينيّات، في عمرها الذهبي، لم تُقطَف بعد، وهي على أغصانها الميّاسة، تعبق بالشذى، وتفوح بالعطر والحبِّ والفنّ والحرِّيّة.
ذات يوم، قرأتُ إعلاناً في لوحة إعلانات الجامعة عن منحةٍ دراسيةٍ تقدِّمها جامعة أوسلو في النرويج لواحدٍ من الطلاب العرب، للمشاركة في دورةٍ صيفيةٍ مُدَّتها ستة أسابيع، ولا يتحمّل الفائز بالمنحة سوى نفقات السفر. بعثتُ بترشيحي إلى جامعة أوسلو، غير مصدِّق أنَّ الحظَّ سينعطف إلى دربي هذه المرّة، لِعِلمي بوجود جامعاتٍ كثيرة في وطننا العربي تضمّ آلاف الطلاب الذين هم أفضل مني.
كانت مفاجأةً سارةً لي عندما حطّتْ في صندوق بريدي الصغير رسالةُ القبول من جامعة أوسلو. ومع أنَّ امتحانات آخر العام كانت على أبواب المدرَّجات، فقد أخذتُ أضع الخطط لهذه الرحلة، مستعجلاً حلول العطلة الصيفية لاكتشاف أوسلو وجامعتها. فالأماكن الجديدة تمارس سحراً عليَّ: انجذب إليها، أتلهف إلى الارتماء في ربوعها، تنشأ علاقة حبٍّ عارمٍ بيني وبينها، منذ أن كنتُ طفلاً صغيراً في السنوات الأولى من المدرسة الابتدائية، حينما أهدى إليّ أخي الكبير أطلساً ملوّناً. كانت النرويج بالذات تثير حبَّ الاستطلاع لدي، لأنّها في أقصى الشمال. كنتُ أتخيّل بَردها الذي يتجمَّد معه شعر الرأس، وجبالها المكلَّلة بالثلوج التي لا تذوب، والخضرة التي لا تذبل، والشمس التي لا تغيب، في عزِّ الصيف؛ وأتصوَّر أهلها الفايكنغ  طوال القامة، شقر الوجوه، زرق العيون، كثّ الشعر، وهم يحملون فؤوسهم في أيديهم، ويركبون سفنهم العملاقة لغزو البحار. لعلَّ هذه الصورة التي هيمنت على مخيلتي هي نتيجةً للقصة التي رواها لي أبي عن سفير عربي اسمه ابن فضلان ابتعثه الخليفة المقتدر العباسي إلى ملك الصقالبة قبل حوالي ألف عام، فاختطفه رجال الفايكنغ بالقرب من نهر الدانوب في أوربا، وظلّ أسيراً لديهم أربع سنين كاملة، حتّى استطاع أن يفلت منهم، ويعود إلى بغداد، ويقدِّم تقريره إلى الخليفة العباسي عن أسباب تأخُره.
أسرعتُ إلى السفارة النرويجية في بيروت للحصول على تأشيرة الدخول. وعندما ولجتُ مكتب القنصل، ألفيتُ شابةً طويلة القوام، ذات وجهٍ جميلٍ صبوحٍ بشوش. رحَّبتْ بي كثيراً بلغتها الدبلوماسيّة الأنيقة، فأشعرتني بالمودّة، وختمتْ جواز سفري وأهدتْ لي كُتُباً وأدلةً عن النرويج.
اغتنمتُ مقابلتها ورحابة صدرها لأسألها عن أرخص الطرق للسفر إلى النرويج. قالتْ لي إنَّ ثمن تذكرة السفر بالطائرة إلى أوسلو ذهاباً وإياباً أغلى من ثمن سيّارةٍ مستعملةٍ في حالةٍ جيدةٍ في ألمانيا. واقترحتْ عليّ أن أسافر بالطائرة إلى اسطنبول ثم أستقل قطار الشرق إلى أقرب مدينة ألمانية، ميونيخ، وهناك أشتري سيّارةً أواصل السفر بها إلى أوسلو، وأعود إلى بيروت، وأبيعها بربحٍ، أو أحتفظ بها إنْ شئتُ. وأضافتْْ قائلةً:
ـ  " إنَّ الربح الحقيقي يكمن في الخبرة والمتعة اللَّتيْن تجنيهما من التجوُّل بسيَّارةٍ في أوربا."
قلتُ في نفسي: إنَّهم يستخدمون دماغهم في التفكير والتدبير؛ وأخذتُ بنصيحتها.
هبطتُ من الطائرة في مطار إسطنبول، وتوجّهت حالاً إلى محطَّة القطار. وعندما جلستُ في إحدى مقصورات القطار العريق الأنيق الذي أدمن الترحال منذ سنة 1883، جال في خاطري جميع الأدباء الذين أنتجوا بعض أدبهم في هذا القطار: گراهام گرين الذي أبدع رواية عنوانها " قطار الشرق السريع"، والشاعر الفرنسي أپولونير الذي نظم بعض قصائده فيه. وبعد أن تحرّك القطار وأخذتِ المشاهد الطبيعية تجري مُقبِلةً عليَّ بسرعةٍ متزايدةٍ خاطفةٍ، وراح القطار يدخل في بعض الأنفاق الطويلة المظلمة المخيفة، خطرتْ ببالي رواية أگاثا كريستي البوليسية " جريمة قتل في قطار الشرق السريع"، وداخلني شيءٌ من التوجُّس، حتّى إنني، عندما أطلَّ على مقصورتي رجلٌ له وجهٌ ثعلبيٌّ وشاربان معقوفان إلى الأعلى ونظراتٌ زائغةٌ، ظننتُه، مسيو بوارو، مفتش البوليس السري، يبحث عن القاتل بيننا. وبعد وقتٍ قصيرٍ، أخذتِ المشاهد تخبو شيئاً فشيئاً وغلب النعاس جفوني. وعندما أفقتُ من غفوتي بدأت قصَّتي.
فتحتُ عينَيّ فوقع نظري على وجه فتاةٍ تجلس أمامي. وجهٌ بهرني وأسكرني في آنٍ، وجهٌ ملائكيٌّ اجتمع فيه الحسنُ كلُّه: عينان نرجسيتان، خدّان ورديان، شفتان زَنبقيتان؛ سلّةُ زهورٍ ربيعيةٍ تتوِّج غصناً أهيف، يميل نحوي، فتنبعث الفرحة عارمةً في القلب والروح والوجدان. لم تكُن هناك عندما ركبتُ القطار وقبل أن يغلبني النوم.
في الوقت الذي كنتُ أفتح فيه عينَيّ، انفرجتْ شفتاها المكتنزتان عن ابتسامةٍ حلوةٍ متناغمةٍ مع تفتُّح عينَيّ، كما لو كانت تنتظر صحوتي منذ مدّةٍ ليست بالقصيرة، كما لو كنا نعرف بعضنا منذ الأزل وقد التقينا الآن بعد فراقٍ طويل، كما لو كانت روحانا روحاً واحدة قبل أن تنفتق السماء، وتولد الكواكب، وتبزغ النجوم.
كان لقاءُ عينَيْنا مثيراً. لم يكُن مثل لقاء قطارَيْن في محطةٍ واحدةٍ وهما على سكَّتَيْن متوازيتَيْن في اتِّجاهَيْن مختلفَيْن، وإنَّما كان لقاءَ بحيرتَيْن في وادٍ واحدٍ حيث تنساب كلُّ منهما في أحضان الأُخرى، تندمج فيها، وتتماها معها، وتتوحَّد بها، فتغدو مياههما مياهاً واحدةً ذات لون واحدٍ، وطعمٍ واحدٍ، وتموُّجٍ واحدٍ. مَن قال إنَّ الماء لا طعم له ولا لون؟! كلُّ شيءٍ في الوجود له لونٌ ومذاقٌ ورائحة؛ تماماً مثل لقائنا الذي كان بلون قوس قزح، ومذاق الشَّهْد بالزُّبْد، ورائحة الخُزامى.
لم أكن أؤمن بالحبِّ من النظرة الأولى. فذلك بالنسبةِ إليَّ ضربٌ من الخرافة، أو نوعٌ من الخيال. كنتُ أرى الوجوه حولي، فأستحسن بعضها، وأرتاح إلى بعضها الآخر، وأُسعَد برؤية نوع منها؛ ولكن لم يحدث أبداً أنَّ وجهاً من الوجوه بعث في أوصالي رعشةً عنيفة، اقتلعني من الأعماق، حلَّق بي في سماوات الفرح، بَرْعَمَ الرغبةَ الشديدة فيَّ لألمسه بيدي، وأقرِّبه من وجهي، وأُشبعه لثماً وعناقاً، كما فعل بي ذلك الوجه الملائكي. كان الشعور نفسه يفيض من ملامح تلك الفتاة، ويغمر كلَّ ما حولها ومَن حولها بالنشوة والنشاط والهناء.
مال جسمها اللَّدِن الرشيق نحوي، ومال جسدي نحوها، مثلما يميل غصنان من شجرتيْن متقابلتيْن بفعل نسيمٍ سحريٍّ غير مرئي. اقترب وجهانا، وقد تجمعتِ الكلمات على الشفاه. وتساءلتُ في نفسي مَن الذي سيتكلَّم أوَّلاً. وبدون أن أدري، سمعتني أقول بصوتٍ واهنٍ متردِّد وأنا بين النوم واليقظة:
ـ أأنا في حُلم؟
ازدادت ابتسامتها إشراقاً، وانساب صوتها الدافئ إلى قلبي دون المرور على أُذنيّ، وهي تجيب:
ـ أنتَ في واقع الحياة.
قلتُ :
ـ ولكنّها حياةٌ كالحُلم، جميلةٌ كلحنِ قصيدة، حلوةٌ كموسيقى موزارت.
وأضفتُ في قرارة نفسي قائلاً : أنتِ الحياة، أنتِ الدنيا.
همستْ قائلة:
ـ اسمي جسيكا، وما اسمكَ؟
قلتُ:
ـ انتشيتُ بلقائكِ. اسمي نبيل.
قالت:
ـ إلى أين أنتَ مسافر؟
قلتُ:
ـ إلى أوسلو.
قالت:
ـ ظننتكَ مسافراً إلى سالزبورغ.
قلتُ:
ـ لماذا سالزبورغ؟
قالت:
ـ لأنَّ مهرجان سالزبورغ سيبدأ قريباً، وكثيرٌ من الناس يؤمُّون المدينة، خاصّةً أولئك الذين يحبُّون موزارت، ابن مدينة سالزبورغ.
ثمَّ صمتتْ وهلة، وغضّتْ من بصرها، وأضافتْ قائلةً بابتسامةٍ حييَّةٍ وبصوتٍ خفيض:
ـ ولأنَّني من سالزبورغ. وأتمنى أن تأتي معي.
لم أرَ سالزبورغ ولا أيَّة مدينةٍ أوربيةٍ أُخرى من قبل، بيدَ أنَّ سالزبورغ نالت شهرة واسعة ذلك العام، بفضل فيلم غنائي رائع اسمه " صوت الموسيقى" يُعدُّ ثالث أشهر الأفلام الأمريكية بعد فيلم " ذهبَ مع الريح" وفيلم " حرب الكواكب". وهو من بطولة جولي أندروز، الممثلة المسرحية السينمائية المغنِّية الكاتبة البريطانية ذات الحُسن الأخّاذ. لقد جرى تصوير ذلك الفيلم في مدينة سالزبورغ، فأظهر جمال المدينة وبحيرتها الخلابة، المحاطة بالتلال، المكسوة بالأشجار الغافية في ظلال جبال الألب.
ويدور الفيلم حول قبطانٍ عسكريٍّ نمساويٍّ من النبلاء توفّيت زوجته المحبوبة مخلّفةً له سبعة أطفال، وكان صارماً في تربيتهم، فحرّم سماع الموسيقى والغناء في القصر، لئلا يتذكّر زوجته الراحلة فيزداد حزناً. وعندما استعان بمربيةٍ شابة، لم يدرِ أنّها مولعةٌ بالموسيقى والغناء، فعلّمتِ الأطفال أحلى الأغاني والألحان. وعندما وقع في غرامها أخذ هو نفسه يشاركهم الغناء، وقرّروا تقديم أُغنية في إحدى أمسيات مهرجان سالزبورغ. وفي تلك الأثناء، ضمَّ النازيون الألمان النمسا إلى ألمانيا، واستدعوه إلى الجيش مرَّةً أُخرى، على حين أنَّه معارضٌ لهم، فقرَّر الهرب مع عائلته إلى سويسرة عبر جبال الألب ، وتمَّ له ذلك بعد أن أدَّوا أغنيتهم في المهرجان ليلاً.
نظرتُ في عينَيّ جسيكا العسليتيْن، وقلتُ لها:
ـ أنا ذاهب إلى النرويج للدراسة في جامعة أوسلو مدَّة ستة أسابيع. وإذا كنتِ ترغبين في مجيئي، فإنَّني سأعود إلى سالزبورغ بعد ذلك. هل يمكنك الانتظار؟
قالت بنبرةٍ جازمة:
ـ سأنتظركَ حتّى ست سنوات، سأنتظرك العمر كلَّه.
لم أجِد ما أقوله، فصمتُّ. وراحت عيوننا تتواصل ونحن سكوت. لم نكُن نحتاج إلى كلمات، الكلمات تفسد صفاء الهناء المنساب من العينيْن بصمت. وكنتُ في غاية الهناء والفرح، كمن وجد ضالته بعد بحثٍ وعناءٍ طويليْن. لم أقُلْ شيئاً، فقد أوصاني أبي ذات مرّة قائلاً: إذا كنتَ في غاية الرضا والسرور أو في منتهى الغضب والسخط، فلا تتكلَّم، فالكلام أحياناً يضرُّ أكثر مما ينفع.
لم أصدِّق أنَّني عثرتُ على السعادة الكاملة بهذه البساطة. أغمضتُ عينَيَّ وهلةً ثمَّ فتحتُهما، لأتأكَّد أنَّني في كامل وعيي، فألفيتُها واقفةً تحمل حقيبةً صغيرةً بيدها اليسرى. نهضتُ واقفاً بدوري، وجهي الدهشة وعيناي التساؤل. قالت:
ـ يقترب القطار من محطَّة سالزبورغ. اكتب لي عنوانك .
وناولتني دفتراً صغيراً أخرجتْه من حقيبتها. أخذتُ الدفتر، وعدتُ ثانية إلى مقعدي لأكتب العنوان بيدٍ مرتجفةٍ على نضد المقصورة. وقفتُ مرَّةً أخرى لأعطيها الدفتر، فإذا بها تلقي الحقيبة من يدها وبحركةٍ مفاجئة تطوّقني بذراعيْها، وتضع رأسها على كتفي دون أن تنطق بحرف. ثمَّ تستدير إلى الخلف وتغادر المقصورة مسرعةً.
توقّفَ القطار. فتحتُ النافذة. مددتُ عنقي عبرها. وجدتها واقفة على الرصيف. رأتني. لوّحتْ بيدها إليّ. الدموع تنهمر من عينيْها العسليتيْن، وابتسامتها لم تفارق شفتيْها. لم تُثِر دموعها استغرابي، فقد كانت الدموع تترقرق في مآقي عينَيّ، أنا الآخر، وأنا أحبسها بصعوبة، كما لو كنتُ أصارع غولاً بأجفاني، ويداي مقيَّدتان. وظلّت عيناي مصوَّبتان إليها. وما إنْ تحرّك القطار وغابت عن ناظري حتى طلعتْ متوهجةً في فؤادي.
شعرتُ بندمٍ شديدٍ يجتاح أعماقي وروحي ووجداني كعاصفةٍ هوجاء تكتسح كلَّ شيءٍ في طريقها. لِمَ لَمْ أغادر القطار وأنزل مع جيسيكا في محطة الجمال والحبّ والفرح؟ ألمْ أفوّتُ فرصةً فريدةً قد لا تتكرّر، مثل مياه النهر التي تمرّ علينا ولا تعود بتاتاً. ولمتُ نفسي لبطئي في اتّخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. كان والدي كثيراً ما يقول لي: " يكمن الفرق بين الرجال في تمكُّن بعضهم من التفكير بسرعة واتخاذ الموقف المناسب، وهذا ما يسمونه بسرعة البديهة، وما الرجل إلا موقف." كان لدي الوقت الكافي لأفكِّر بعد أن دعتني جيسكا لمرافقتها إلى سالزبورغ، ولكن عقلي تجمَّد ولم اتّخذ القرار. هل تغلّبَ حبّي للمعرفة على حبّي لجيسكا؟ أليس الحبُّ أساس المعرفة؟ أم أنَّ العكس هو الصحيح؟
انتشلتني من لجّة الأفكار المتلاطمة صفّارةُ القطار وهو يغادر المحطة. نهضتُ من مكاني، أسرعتُ مهرولاً نحو باب العربة. الباب موصد. لمحتها من زجاج النافذة وهي تهرول في اتجاه باب العربة، وكأنّها هي الأخرى اتخذت قراراً في اللحظة الأخيرة، أو بعد فوات الأوان. تزايدت سرعة القطار. طفقتُ أهرول نحو العربة الجنوبية الأخيرة. وصلتُها. بابها الذي يطلُّ على السكّة كان موصداً كذلك. لمحتُها عبر زجاج نافذة الباب وهي تجري بسرعة وراء القطار. خُيِّل إليّ أنَّها هي الأخرى لمحتْني. بَيدَ أنَّ سرعة القطار قد تفاقمت، وغابت جيسيكا عن ناظري خلف المنحنى. فعدتُ إلى مقصورتي أجرُّ ساقيَّ، مثقلاً بالخيبة، مثخناً بالحسرة.
من تلك اللحظة، أخذتُ استعجل الأشياء والزمن. رحتُ أتمنّى لو أنَّ القطار سار بسرعةٍ أكبر، كي أعود إلى سالزبورغ وجيسيكا بسرعة كذلك. كنتُ أريد أن يمرّ كلُّ شيءٍ بسرعة: شراء السيارة، الرحلة إلى أوسلو، الدورة الصيفية في جامعة أوسلو، رحلة العودة إلى سالزيورغ. صارت السرعة هي الشعار المهيمن على فكري وأقوالي وأفعالي. ففي ميونيخ، مثلاً، تذمَّرت من بطءِ إجراءاتِ شراءِ السيّارة واستخراج الوثائق اللازمة، على الرغم من أنَّ ذلك لم يستغرق أكثر من 24 ساعة فقط. ونسيتُ أنَّ دورة الزمن ثابتة وقياس الزمن على الأرض ثابت، فالأسابيع الستة التي سأمضيها في جامعة أوسلو هي ستة أسابيع لا أكثرَ ولا أقلَّ، وأنَّ السرعة قضيةٌ نسبيةٌ تتعلَّق بذات الإنسان، وأحواله، وحاجاته، وأحاسيسه؛ وتتعلّق بسرعة المعيار الذي نقيس ما هو متحرِّك بالمقارنة بهِ.
في ميناء كوبنهاكن، مثلاً، وقفتُ أراقب العبّارة التي ستقلّني وسيّارتي إلى الأراضي النرويجية وهي قادمةٌ من بعيد. فبدتْ لي ثابتةً في وسط البحر لا تتحرّك. ألتفتُ إلى رجلٍ دنماركيٍّ يقف إلى جانبي، شكوتُ له بطء العبّارة. قال لي بابتسامةٍ حسبتها ساخرة:
ـ " هل شاهدتَ حوريَّة البحر في الميناء؟"
قلتُ:
ـ " لا. "
قال:
ـ " أنصحك أن تغتنم هذه الفرصة لمشاهدتها، لأنَّ ركوبنا العبّارة سيستغرق ساعة ونصف. عليهم إفراغ حمولتها وتنظيفها قبل أن نستقلَّها."، وأشار بيده في اتّجاه المكان الذي تستلقي فيه حوريِّة البحر.
توجَّهتُ إلى حوريَّة البحر. نظرتُ إليها. بدتْ لي جيسيكا مستلقيةً على صخرةٍ في البحر، وقد تحوّل ساقاها الرشيقتان إلى زعانف سمكةٍ جميلةٍ. فمنذ أنْ غادرتْ جيسيكا القطار في محطَّة سالزبورغ، التصقتْ صورتها الحلوة في بؤبؤ العين وعلى شغاف القلب: أراها حيث نظرتُ، وإذا أغمضتُ عينيَّ في الفراش، واصل قلبي رؤيتها، وتمثَّلتْ لي في أحلامي التي لا تنقطع. باختصار، صرتُ أرى الأشياء من خلال صورتها، وأسمع صوتها في كلِّ ما يصل إلى مسمعي.
كانت أوسلو عروس أوربا المدلَّلة، تغسل قدميها خلجانُ بحر الشمال بمياهها الباردة المنعشة، وتتوارى بنايات جامعتها خلف أشجار غابة كثيفة، وهي تتسربل شجيرات اللبلاب، لا تغيب الشمس عنها في الليل ولا في النهار، بل تبقى معلَّقةً في سمائها الوردية طوال الليل، كعاشقة شاحبة الطلعة تسهر الليل في انتظار الصباح، وعندها يتحوَّل شحوبها تورُّداً فاحمراراً.
ما إن أكملتِ الكاتبة في إدارة جامعة أوسلو تسجيل اسمي، وسلَّمتني بعض المطبوعات عن البرنامج الصيفيِّ ولائحة المراجع، ومفاتيح غرفتي، حتّى قالتْ لي:
ـ "هناك ثلاث رسائل تنتظرك."
وناولتني إياها.
خفق فؤادي. ألقيتُ نظرة عليها. لاحظتُ أنَّ أختام البريد تحمل تاريخاً واحداً.  يا إلهي، إنَّها كَتبتْ هذه الرسائل في يومٍ واحد. ما أشدَّ لهفتها وما أشدَّ لهفتي!
أسرعتُ إلى غرفتي. رميتُ حقيبتي الصغيرة، ورحتُ أفضُّ ظروف الرسائل الثلاثة.
بأيِّ رسالةٍ أبداً؟ أخذتُ ألتهم الحروف والكلمات والعبارات. وعندما أنهيتُ قراءة الرسالة الثالثة عدتُ إلى الأولى أُعيد تلاوتها، فالثانية فالثالثة؛ وكرَّةً أُخرى راجعاً لتلاوة الرسالة الأولى. تخيّلتُ جيسيكا وهي جالسة إلى منضدتها، ممسكة قلمها بأناملها الرقيقة، تحرِّر تلك الرسائل، البسمة على شفتيْها، والدمعة في عينيْها.
في رسالتها الأولى، أعلنتْ لي فرحتها الطاغية بلقائي، أو على حدِّ قولها كيف التقت روحها بنصفها الذي كانت تبحث عنه منذ أنْ وُجِدت على هذه الأرض. واستشهدتْ بقصيدة عاطفية متأججة من ديوان " آنيت " لشاعر ألمانيا العظيم غوته.
وفي رسالتها الثانية، حدّثتْني قليلاً عن نفسها، فهي طالبةٌ في الصباح، تدرس المسرح في جامعة سالزبورغ، وقد تمتهن التمثيل المسرحيَّ أو السينمائيَّ بعد تخرجها. وبعد الظهر تعمل عدَّة ساعاتٍ في مكتبة المدينة الكائنة  في حديقة ماربيلا.
وفي رسالتها الثالثة، وصفتْ لي بعض المعالم الخلابة في مدينة سالزبورغ وما حولها، وكيف أعدَّت لي برنامجاً حافلاً لزيارتي التي تريدها أن تدوم أطول وقتٍ مُمكن ، وأن تكون أمتع ما يُمكن. ستأخذني في جولةٍ في أحياء سالزبورغ التاريخيَّة في اليوم الأوَّل، وفي اليوم الثاني ستصطحبني لزيارة بعض أشهر متاحف المدينة، وفي اليوم الرابع سنقوم بجولة في بحيرة سالزبورغ الشهيرة في قاربٍ بخاريٍّ صغيرٍ مزوَّد بمجافيْن، وفي، وفي. في كلِّ ليلةٍ، سنشاهد إحدى فعاليات مهرجان سالزبورغ الموسيقيَّة أو الغنائيَّة أو المسرحيَّة أو الراقصة، خاصَّةً المسرحيَّة منها، لأنَّها تعشق التمثيل... وستبدأ بانتقاءِ هذه المسرحيات، والعروض الأخرى، واقتناء تذاكرها، ابتداءً من الغد، لتضمن أفضل المقاعد، فالإقبال شديد على المهرجان.
وقبل أن أفتح حقيبتي الصغيرة لوضع حاجياتي الضرورية في الحمَّام، وقبل أن ألقي نظرة على مطبوعات الجامعة وبرنامجها، وجدتني أجلس إلى المنضدة لأحرّر رسالةً إلى جيسكا، أبثُّها ضيقي وبَرَمي بأوسلو وجامعتها، وهيامي بسالزبورغ ومسارحها.
ثمَّ عدتُ إلى قراءة رسائلها قراءةً جهريّة، فيعلق بلساني وشفتَيَّ طعمٌ حلو ألذّ من الرطب العمراني المنصِّف الذي أدمنتُ على أكله منذ أن كان جدي يطعمني إياه مع اللبن الرائب في طفولتي كلَّ صباح، اعتقاداً منه بأنَّ التمر والحليب هو أنفع الأغذية لنمو الأطفال، وتقوية أجسامهم الغضَّة.
كانت لذّة رسائل جيسيكا، هي الأخرى، يوميَّة حتّى أدمنتُ عليها؛ فقد كانت تصلني منها رسالة على الأقلّ كلَّ يوم. وأدمنتُ على كتابة الإجابات عليها كذلك.
عليَّ أن أعترف اليوم بخجلٍ شديدٍ، وأسفٍ وندمٍ أشدّ، أنَّني لم أتابع دراستي الصيفيَّة في جامعة أوسلو، بما تستحقّ من اهتمامٍ وتركيزٍ ومراجعةٍ وإعدادِ مذكرات، واستعدادٍ للاختبارات الأسبوعية، وللامتحان النهائي في آخر الدورة الصيفية. كان ذهني يشرد من غرفة الدرس، محلِّقاً إلى سالزبورغ التي رسمتُ لها صورة متخيَّلة في ذهني: مدينة مبنيَّة من ذهبٍ خالص ، تجري في وديانها مياه من عسجد، وأهلها ملائكةٌ من نور، يطيرون في شوارعها وطرقاتها، بأجنحةٍ ملوَّنة شفّافة مثل أجنحة الفراشة، ويحيّي بعضهم بعضاً بلمس أطراف الأجنحة لمساً خفيفاً طفيفاً، كما يُسلِّم أعمامنا البدو بعضهم على بعض بتلامس أرنبات الأنوف عند اللقاء.
وإذا لم يهرب ذهني من قاعة الدرس طائراً إلى سالزبورغ، فإنَّني أستلُّ قلمي وورقةً من دفتر الرسائل الملوَّنِ الأوراق الموشَّى بالورد والزنبق والياسمين، لأدبّج رسالةً غراميةً إلى جيسيكا، أغتالُ بكتابتها الوقتَ الذي تطاول، حتى أصبح عملاقاً يفوق عوج بن عنق طولاً.
عليّ أن أعترف اليومَ بخجلٍ شديد، وبندمٍ وأسفٍ أشدّ، أنَّ حصيلتي من الدراسة في جامعة أوسلو لم تكُن مشرِّفة ولا يُعتَّد بها. ولهذا، فإنَّني عندما أحرِّر خلاصةَ سيرتي العلمية، أتحرَّج من ذكر جامعة أوسلو بين الجامعات التي تلقّيتُ فيها دراساتي العليا. فحتّى ترجمتي لمسرحية " يبه الساكن على التل" لأبي المسرح الإسكندنافي لودفيغ هولبرغ، لم تكُن بفضل المحاضرة القيمة التي ألقاها أستاذ الأدب الإسكندنافي، الدكتور داغ غندرسون، حول هذه المسرحية ونقده إياها، وإنَّما كان نتيجة قراءتي تلك المسرحية بعد عودتي إلى بغداد وإعجابي بها، خاصَّةً أنَّ مؤلِّفها اقتبس فكرتها من حكاية ملِكٍ ليوم وليلة التي وردت في كتاب " ألف ليلة وليلة".
عليّ أن أعترف بخجلٍ شديدٍ، وبأسفٍ وندمٍ أشدّ، أنَّ المعرفة كانت دانية القطوف في جامعة أوسلو، وكنتُ سأجنيها بمجرَّد أن أمدّ فكري، وأفتح عقلي، وأملأه بألذِّ المعلومات وأشهاها. ولكنَّني، ببساطةٍ، وبكلِّ بلاهةٍ وبلادةٍ، تقاعستُ، تخاذلتُ، تكاسلتُ. كنتُ مثل كسولٍ حدَّثتني عنه أُمّي في صغري، وهي تحثّني على الدرس والجدّ. فقد كان ذلك الكسول الذي أسمتْه (تمبل) وينتمي إلى قبيلة من الكسالى يسمَّون بالتنابلة، يُمضي النهار كلَّه ممدَّداً تحت شجرة تفاحٍ في بستان، وعندما يمضُّ به الجوع، لا يمدُّ يده إلى التفّاحات الناضجة الشهية التي سقطت من الشجرة بالقرب منه، بل ينتظر أن يمرَّ به أحدهم، ليرجوه رمزاً أن يضع إحدى تلك التفّاحات في فمه الذي لا يفتحه إلا بمقدار. يا للعار! يا للشنار!
كانت رسائل جيسيكا تصلني يوميّاً، ليس بمعدَّل رسالة في اليوم بل رسالتيْن  وأحياناً ثلاثة رسائل. ولم تكُن الرسالة الواحدة تتألَّف من صفحةٍ واحدة فقط بل من بضع صفحات. ولم أتساءل في نفسي أبداً كيف يتسنّى لها أن تكتب جميع تلك الرسائل إذا كانت تدرس صباحاً في الجامعة وتعمل مساءً في المكتبة. لا بدَّ أنَّ وظيفتها في المكتبة، لا تتطلَّب منها القيام بعملٍ معيَّن. وتبادرَ إلى ذهني أنَّها تجلس في مكتبٍ ما في المكتبة، ولا تفعل شيئاً سوى كتابة الرسائل لي.
استغرق الردّ على رسائلها معظم وقتي، بعد مغادرة قاعة الدرس. وإذا كنتُ أتحرّى الدقَّة فإنَّني لم أكُن منهمكاً بقراءة رسائلها فحسب، بل كذلك بقراءة المطبوعات التي تبعث بها رفقة رسائلها، معظمها مطبوعات سياحية تتحدَّث عن تاريخ مدينة سالزبورغ ومتاحفها التي سنزورها معاً طبعاً، وحدائقها التي سنتجوَّل فيها أو نخترقها، معاً طبعاً، ونحن في طريقنا إلى مقاهيها الجميلة، ومسارحها الرائعة التي سنشاهد فيها العروض، معاً طبعاً، وبحيراتها الخلابة التي سنقف على ضفافها لمشاهدة غروب الشمس، معاً طبعاً. باختصار، لم تكُن إقامتي في جامعة أوسلو لدراسة الأدب الإسكندنافي والنظام التربوي النرويجي، كما كان مقرَّراً، بل لقراءة رسائل جيسيكا، وكتابة الإجابات.
لا أتذكر تماماً كيف مرّت الأسابيع الستة التي استغرقتها الدورة الصيفيّة في جامعة أوسلو سنة 1965. فغبار السنين الطويلة يعفي على جميع الأقوال والأفعال، بل يغطي زجاج الذاكرة ذاتها، فلا تستطيع أن تتبيّن ما فيها بسهولة. كلُّ ما في وسعي أن أتذكَّره الآن بصورة شبه أكيدة، أنَّني كنتُ أواظب على حضور الدروس، ولكنّي لم أستوعب شيئاً يُذكَر منها، لأنَّ أداة الاستيعاب، وأعني بها الفكر، كان منشغلاً أو ممتلئاً بشيءٍ آخر، أعني صورة جيسكا الكبيرة المتحرِّكة الراقصة على مساحة الذاكرة كلِّها.
أذكر أنَّنا كنا نتناول وجباتنا في مطعم الجامعة. وكانت بعض الطالبات النرويجيات يعملن فيه نادلات خلال عطلتهنَّ الصيفيَّة. وراحت إحداهن، واسمها الأوّل متّى، توليني عنايةً خاصَّةً، فتقترب مني أحياناً لتشرح لي مكوِّنات بعض الأُكلات النرويجية، ثمَّ أخذت تدريجياً تلاطفني وتداعبني بكلماتٍ رقيقة. بيدَ أَنّي، كما تتوقع، لم أبادلها المودّة، لأنَّ قلبي، ببساطة، لم يكُن معي، فقد غادرني، بلا إرادة مني، ونزل في محطة سالزبورغ.
أتذكَّر كذلك أنَّني كنتُ أتنزَّه مع بعض الطلبة في الغابة المحيطة بالجامعة ليلاً، ونظرتُ إلى ساعتي فوجدتها تشير إلى منتصف الليل، ولكنَّ الشمس كانت معلَّقة في كبد السماء صفراءَ باهتةَ اللون دون أن تغيب. وأنني لا استطيع النوم في غرفتي ما لم أسدل الستائر السوداء السميكة لحجب ضياء الشمس.
أذكر كذلك أنَّ إدارة الجامعة رتَّبت لنا رحلاتٍ إلى بعض المناطق النرويجية أثناء عطل نهاية الأسبوع، وأنني شاركتُ في جميع تلك الرحلات، ولكنّي لا أذكر منها الآن سوى رحلتنا إلى مدينة برغن، حيث استضافنا عمدة المدينة في منزله المطل على البحر وأشبعنا في وجبة الغداء من السمك السومون والجمبري الملكي العملاق.
أذكر أيضاً أن الطالب الذي تفوَّق علينا جميعاً كان رجلاً كنديّاً متقاعداً يربو عمره على الخامسة والستين. كان ضعيف البنية، ضعيف البصر، ولكنه قوي العزيمة شديد الرغبة في التعلُّم.
واللغة النرويجية التي علّمونا شيئاً منها في مختبر اللغة، لم أعُد أتذكّر منها سوى عبارتين هما: " فوردن ستور ده تيل؟ " أي كيف حالك؟، و " تك تك بور ماتن" أي شكراً للطعام.
أمّا غير هذه النتف القليلة الباهتة من الذكريات، فأنا لا أستحضر شيئاً. لو سألتني عن المحاضرات التي أُلقيت علينا أو المعارف التي اكتسبتها، فإنَّ وجهي سيتحوَّل إلى صفحةٍ صفراءَ خاليةً من أيِّ أثرٍ، أو إلى علامة استفهام فارغة.
وأخيراً، حان موعد الانصراف من أوسلو، وهو موعد ترقَّبتُه بلهفةٍ طوال الأيام الأربعة والأربعين السابقة التي بدت لي دهراً سرمديّاً. لم ينتابني شعورٌ بالأسى، وهو شعور يجتاحني بعد مغادرة الأماكن التي استقرُّ فيها مدَّة من الزمن، إذ أُحسُّ بأنَّني أخلِّف شيئاً من ذاتي ورائي، أو أنَّ شيئاً من تلك الأماكن يعلق بي ولا يفارقني إلى الأبد. فقد خُلِق قلبي ألوفاً حنوناً.
كنتُ قد أعددتُ خرائط العودة، ورتبتُ جداول السفر، محدِّداً ساعات الانطلاق، وساعات التوقُّف للراحة وتناول الوجبات، وأوقات النوم، مع حساب الوقت الضائع المحتمل بسبب اختناقات المرور أو غير ذلك، بحيث أصل إلى حديقة ميرابلا في سالزبورغ حيث تعمل جيسيكا في مكتبتها، حوالي الساعة الخامسة والنصف من بعد ظهر اليوم الثامن عشر من شهر آب/أغسطس، ولم يتبقَ لنهاية عمل جيسيكا في المكتبة سوى نصف ساعة فتنصرف، وأنا بصحبتها طبعاً لنستمتع بليل سالزبوغ.
انطلقتُ بسيّارتي، ولم أحمل فيها شيئاً من أوسلو. كلُّ شيء مؤجَّل حتى سالزبورغ. كلا، وضعتُ على المقعد الخلفي علبة حريرية جمعتُ فيها كلّ رسائل جيسيكا الغرامية إليّ. وكنتُ في أوقات الاستراحة من القيادة أو تناول الطعام، استلُّ إحدى تلك الرسائل، أعيد قراءتها، فتبعث فيّ شيئاً من النشاط، كما لو كانت إكسيراً للفرح أو فنجاناً من البُنِّ المركِّز القادم من بلدة موخا في اليمن.
وصلتُ مدينة سالزبورغ فعلاً في الخامسة والنصف من مساء اليوم الموعود، بيدَ أنّي أضعتُ بعض الوقت للاهتداء إلى حديقة ميرابلا في وسط المدينة، وهدرتُ دقائقَ لإيقاف السيّارة بالقرب من المكتبة. توجّهُت إلى مدخلِ المكتبة وأنا أنظر إلى الساعة الجداريَّة الكبيرة المنصوبة في برج المكتبة، وكانت تشير إلى الدقيقة الخامسة بعد السادسة، وكلّي ثقة بأنّ جيسيكا ستكون واقفةً هناك في المدخل، تنتظر وصولي بلهفةٍ، وذراعاها متأهبتان لعناقي.
لم تكُن جيسيكا في مدخل المكتبة. لا بُدَّ أنّها هناك في باب مكتبها، أو في مكان ما تنتظرني على أحرّ من الجمر. لم أرَ جيسكا في بهو الاستقبال الفسيح. كانت هناك فتيات غيرها، ولكن ليس لهنَّ حسنها وبريقها. توجَّهتُ إلى موظَّفةِ الاستقبال، وسألتُها بلطفٍ عن جيسيكا، جيسيكا باومان.
قالت الموظَّفة بابتسامة:
ـ غادرت المكتبة عند انتهاء عملها قبل دقائق؟
قلتُ وقد دهمتني الدهشة العارمة:
ـ قبل دقائق؟! قبل دقائق فقط ولم تنتظِرني؟! أنا على موعد معها وقد أتيتُ من أوسلو لأجلها.
لا شكَّ في أنَّ موظَّفة الاستقبال قد لاحظت الصدمة التي أصابتني، وشعرتْ بالعطف على هذا الشابِّ غريب الوجه غريب الكلام. قالت بدافعٍ من روح المساعدة التي تتحلّى بها لمساعدة قراء المكتبة وإرشادهم إلى ما يبتغون من مطبوعات:
ـ إنّها تذهب عادةً إلى منزلها بعد العمل، وقد تجدها هناك.
في تلك اللحظة، انتبهتُ إلى أنَّني لم أكُن أتوفّر على عنوان منزلها، فقد كانت جميع مراسلاتها تحمل عنوان مكتبة ميرابلا. فقلتُ بنوعٍ من الانكسار:
ـ ولكنَّي لا أعرف عنوان منزلها.
دوَّنت موظَّفة الاستقبال العنوان على ورقة، وناولتني إياها وهي تزوِّدني ببعض الشروح لمساعدتي في الوصول إلى المنزل بِيُسر. ومع ذلك فقد أضعتُ الطريق أكثر من مرّة، لأنَّني لم أستطِع أن أركِّز فكري ولا نظري على الطريق.
لا أذكر ما إذا كنتُ قد شكرت الموظَّفة، فقد كان الذهول يسيطر عليَّ. لا مراء في أنَّ خطأً ما قد حصل، وإلا كيف تستطيع جيسيكا أن تغادر المكتبة في هذا اليوم بالذات، ولا تنتظرني لدقائقَ معدودات؟؟ شيءٌ غير معقول مطلقاً.
قرعتُ جرس باب المنزل، مرّةً، ومرَّتين. وأنا أسمع الجرس. لحظاتُ انتظارٍ عصيبةٌ بدت لي طويلة. انفتح الباب. ظهرت فتاةٌ أُخرى. ليست جيسيكا، ولا تشبهها.
قلتُ بلهفة دون أن ألقي التحية:
ـ أنا نبيل، صديق جيسيكا؟ هل جيسيكا موجودة؟
بدتِ الفتاة كأنَّها لم تسمع باسمي من قبل. قالت:
ـ لا، ذهبتْ إلى النادي. أنا أختها لينا.
ـ ذهبتْ إلى النادي؟ كيف؟ أنا على موعدٍ معها. أتيتُ أقود سيّارتي من أوسلو لأصل في الموعد. هي تعلم ذلك.
لم تقُل الفتاة شيئاً، كأنَّ الأمر لا يهمّها من قريب أو بعيد. لذلك أضفتُ قائلاً بلهجةِ انكسار ورجاء:
ـ أرجوك أن ترشديني إلى النادي.
قالت:
ـ طيّب، سأصطحبك إليه.
جلستْ إلى جانبي في السيَّارة. تحرَّكتُ  في الاتجاه الذي أشارت إليه. سألتُها:
ـ كيف ذهبتْ إلى النادي؟
ـ بالدرّاجة.
داهمتْ فكري الظنون. لعلَّ جيسيكا التقت شخصاً أحبّته حبّاً كبيراً، فنسيتْ أمري. ولكن هذا مستحيل، فآخر رسالة منها كانت قبل أربعة أيام فقط. ومع ذلك سألتُ أُختها:
ـ هل ذهبتْ جيسيكا مع صديقها؟
أجابت بلهجةٍ باردة:
ـ لا صديق لها.
وصلنا النادي ودخلنا فيه. عند المدخل، هناك بعض المقاعد. طلبتْ مني أُختُها أن أنتظر هناك. وسارت نحو المسبح الذي يقع على بُعد خمسين متراً تقريباً. بعد دقائق، لمحتُ جيسيكا تخرج من الماء وهي بلباس السباحة،  تقف تحت الدُّش، ثم تتناول منشفةً لتنشف جسمها، وتدخل غرفة الملابس.
وأخيراً أقبلتْ عليّ وحدها. تقدّمتُ نحوها مادّاً ذراعَيَّ، وهي على بُعد خطوات عديدة مني وأنا أقول بلهفة:
ـ جيسيكا، وأخيراً أسعد باللقاء، يا إلهي، كم ...
غير أن جيسيكا مدّت إليّ يدها اليمنى فقط لتصافحني، دون أن تظهر على وجهها أيَّةُ ابتسامةٍ من أيِّ نوعٍ، كما لو كنا نلتقي أوَّل مرّة. كان وجهها جامداً خالياً من أيِّ تعبيرٍ. صافحتني بطريقةٍ رسميةٍ وهي صامتة، لم تنطق كلمةً ولا حرفاً واحداً. وكانت يدها أشدّ برودةً من وجهها.
وخطر لي أنّها حزينةٌ لأمرٍ ما، وحسبتُ أننا إذا جلسنا في المقهى، وأمضينا بعض الوقت، قبل الذهاب إلى مطعمٍ من المطاعم حين يحين وقت العشاء، فإنَّها ستخبرني بما هناك. قلتُ لها بحماسة بادية:
ـ هل تودّين أن نذهب إلى إحدى المقاهي؟
هزّت رأسها موافقة، وقالتْ لأختها أن تعود إلى المنزل بدراجتها. فتحتُ لها باب السيّارة. ركبتْ إلى جانبي. عدتُ إلى وسط المدينة العتيقة. كانت المقاهي منتشرة في الهواء الطلق تحت أقواس البنايات التاريخية وأروقتها. جلسنا في أحد المقاهي. طلبتْ فنجان قهوة، فطلبتُ مثلها. لم تفُه بشيء. قلتُ لها:
ـ هل حدث ما يحزنك؟ هل هناك ما يزعجك؟
ضمَّتْ شفتيها. لم تقُل شيئاً، بل هزّت رأسها بالنفي.
لم أدرِ ما أقول. وغرقتُ في لجةٍ من الأفكار والظنون. لم أهتدِ إلى تفسير.
مرَّ وقتٌ ونحن صامتان. الهواء ثقيل، والسكون يرين، برغم الموسيقى الكلاسيكية المنبعثة من داخل المقهى.  أردتُ أن أشيع شيئاً من البهجة، فقلتُ بابتسامةٍ مضيفاً شيئاً من المرح إلى صوتي:
ـ والآن أين تودّين أن نذهب؟
قالت بلهجةٍ حازمةٍ وصوتٍ خفيضٍ:
ـ إلى المنزل.
ـ وبعد ذلك؟
قالت بلهجة قاطعة:
ـ لا أستطيع الخروج مساءً.
ونهضتْ واقفة.
اصطحبتًها بالسيّارة إلى منزلها. نزلتْ من السيّارة واتَّجهت نحو باب المنزل.
دون أن تودِّعني أو تفُه بشيء. قلتُ مستفسراً:
ـ وغداً؟
هزّت رأسها، مُلغيّةً أيَّ أملٍ بلقاء.
لم أدرِ ما أفعل. اجتاحني غضبٌ وخيبةٌ شديديْن. التفتُّ إلى المقعد الخلفيَّ في السيّارة. التقطتُ علبة رسائلها، وصرختُ بها قبل أن تدخل المنزل:
ـ انتظري. خُذي هذه.
وقذفتُ بالعلبة عليها أو إليها، وانطلقتُ بسيّارتي خارجاً من مدينة سالزبورغ كلِّها.

قصة قصيرة
بقلم: علي القاسمي
..................
ـ من مجموعته القصصية “ الحب في أوسلو” ( بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2014)




المشاركون في هذه المحادثة

    تعليقات (14)


    1.  
    الاديب والقاص القدير
    هكذا وبكل بساطة تنقلنا من موجة الى اخرى , ولكن تخرجنا بخفي حنين , لم نقبض سوى الالم والاسى . قصة تملك التشويق الرائع , وتملكون خاصية رائعة بان تطعم مسار الحدث بجوانب اخرى , او تفاصيل جانبية , حتى لا تبقى على دائرة محدودة وضيقة , وانما تطعمها بدوائر موسعة , لزيادة لهفة التشويق , المهم تركت اثر هذه التجربة , رغم الخيال الفني زورقها بثوب التشويق الرائع ,وهذا روعة الابداع المتجدد في اسلوب القصة الحديثة
    آلان بدأت بقراءة مجموعتكم القصصية ( لماذا الحزن في عينيك ؟ )
    ودمتم بخير وصحة

    1.  
    أخي الكريم الكاتب القدير الناقد الأديب المتألق الأستاذ جمعة عبد الله المكرًّم ،
    أشكرك من القلب على تكرمك بقراءة قصتي " اللغز". وقد خطر على بالي أن نجاحك الباهر ناقداً يعود إلى حبك الأصيل للأدب وفنونه.
    ومتابعتك الكريمة لما يُنشر من نتاج أدبي جديد هو إثراء للحركة الأدبية في الوطن العربي، تشكر عليها وتُذكر.
    ولدي سؤال : هل عرفتَ اللغز في هذه القصة؟
    بالمناسبة في وسعك الاطلاع على بعض كتبي في موقع ( أصدقاء الدكتور علي القاسمي)، ولكن يشرفني أن أبعث إليك إلكترونياً أو ورقياً، أي عمل تود الاطلاع عليه.
    أرجو أن تتقبل مني خالص الشكر والمودة والاحترام.

    1.  
    بمجرد أن أرى ضحطتك الصافية المفتئلة حتى أهرع للقراءة ، قراءة نصك فهو أكيد مفعم بما هو شجي درامي ...... تقبل مني فائق التقدير والود
    القاص القدير المقتدر من الكتابة ، وفي الكتابة ، نهاية القصة كانت معلومة منذ البداية ، لمَْ تكن تستحق تلك الفتاة الناضجة لأسباب عديدة متشابكة تتداخل في سبب وجيه ، سأدرج بعضا من تلك الأسباب أختمها بالسبب الوجيه:
    1- كانت الفتاة صادقة صدق زهرة العباد مع الشمس. مثقفة ذات ثقة عالية بنفسها لم تُحِب من قبل. فاهمةً مشاعرها ، لم تكن تود إضاعة تلك الفرصة لذا أصرت على ذهابك معها. كانت عفوية أمام رجل يحسبها خطوة خطوة : كم سيربح وهو سيخسر الدراسة التي جاء من أجلها : كانت حساباته خاطئة( خسر الحسبتين، وهكذا حال الذي يريد أن يحمل عدة بطيخلت في يد واحدة.
    2- من يتخلى عنك لدقيقة لا تُضمن أنَّه لن يتخلى عنك مرات ومرات ، سيما لم تكن زوجتك ، ولم يكن بينكما حتى وعد ، أو حساب لمصير هذه العلاقة.
    3- كانت عظيمة الثقة بنفسها حريصة على لحضات عناق روحي قد لا يتكرر مطلقا مع شخص آخر، بالمقابل لم تكن عندك أية ثقة بنفسك، ولم تفهم مشاعركَ. بعد أن تأكدت من حبك الأناني خُيِلَ لك أن يكون عندها صديق ، عندما أخبرتك الموضفة بأنها تركت مقر العمل قبل موعد إنتهائه، فبدأت تسأل عن سبب إنصرافها، وهي تعلم بموعد وصولك يا لك من مغرور أناني لم تفكر بأنك تركتها ستة أسابيع ، وزهرة العباد يدور مع الشمس . إذن ماتت البنت بسببك، ويا للعجب كيف تعرفت عليك؟
    4- كانت من الأدب والخلق الرفيع أن صعدت معك إلى السيارة، وكان الأولى أن لا ترد على تحيتك لو كانت واعية، لكن هذه الفتاة ماتت ، ولم تتعرف عليك . أما لِمَ صعدت معك ، أولا أوصلتك إليها أختها ، فكان من دماثة خلقها تُريد أن تعرف ما الذي تُريدهُ: ماذا يريد مني هذا الذي لا أعرفه. والدليل هو عندما طلبتها للخروخ رفضت ذلك . كيف تخرج مع شخص لا تعرفه: هكذا تقول شخصيتها وتقوله قيمها وأخلاقها.
    5- خسرتها ، وخسرت كل شيئ، والعجيب أنك ختمت القصة ، وكأن شيئا غريبا قد حدث. لكن الناية كانت من المسلمات البديهية. منطقك كان خاطئا، وكانت مُعطياتها صائبة
    فتطابقت نتائج النظرية مع المعطيات.
    6- هناك الكثير من الأسباب الأخرى . أتعرض إلى السبب الوجيه وهو الفرق الشاسع بين أخلاقين نتيجة ثقافتين متنافرتين ، ثقافة رجل متخلف لا يثق بنفسه مغرور يعتقد بأنه
    سيرى نفس الفتاة التي تعارف عليها للحظات داخل قطار. بالنسبة لها كان الموضوع " كن أو لا تكن" أعطِ كلَ ما تملك لمن تراه جديرا بذلك. إن لم يكن كذلك فبالتأكيد ستنسى حتي شكل وأوصاف من رأيت، وكأن لم يحدث شئ بتاتاً.
    الإشكالية عند حضرتك ، أو قد تقول كانت تُكاتبني؟. نعم كانت تُكاتب تلك اللحظات التي قد لا تتكرر مطلقا، والقرينة أنها كانت تتحدث عن الأماكن الجميلة مع صور لتلك المناطق: كانت مثقفة من الطراز الراقي : كانت تُكلمُ شخصا تَعرفه منذ الأزل والدليل إنه لم يكن لها صديق بالمرة، كما أخبرتك أختها. صدقني ستعيش هكذا حائرا بين
    الخيارات. أعانك الله.
    عذرا للكاتب الراقي كنت أُناقش بطل الرواية لا أكثر، وأعتذر للكاتب. وإن كنت أظن أنَّ القصة كانت قصة حقيقية. بالنسبة لي بإمكاني أن أكتب رواية بوليسية : هكذا يُقال لي . دمت قاصاً مبدعاً. أختك الناقدة ، لا تنس من السهل أن ننتقد لكن من الصعوبة بمكان أن نكتب؟!.
    تصويب:
    لكن النهاية ة كانت من المسلمات البديهية. منطقك كان خاطئا، وكانت مُعطياتها صائبة.
    ولم تفهم مشاعركَ_ أنت لم تفهم مشاعرك.

    1.  
    معذرة عن الأخطاء الطباعية فقإني محتاج إلى نظارة للقراءة فقط ! كل الو والتقدير

    1.  
    أخي العزيز الأديب الشاعر المتألق الأستاذ سامي العامري المكرَّم
    تحياتي الحارة وتمنياتي الطيبة، وشكراً لك على مشاعرك الأخوية النبيلة التي تجد صداها في روحي. وآمل أن تكون القصة عند حسن ظنك . فأنت من عشاق الأدب الرفيع.
    مع خالص مودتي واحترامي. محبكم: علي القاسمي

    1.  
    عزيزي الأديب الشاعر الباحث في الزوايا عن أريج الياسمين ( أو عزيزتي الأديبة الشاعرة الباحثة في الزوايا عن أريج الياسمين، لأن الرسالة خُتمت بـ " أختك الناقدة").
    تحياتي الحارة واحترامي العميق.
    أود أن أشكرك من القلب على تعليقك الكريم الذي أسعدني وأعجبتُ به جداً لعدة أسباب:

    1) لأن القصة طرحت " لغزاً" ، فإن الناقد طرح هو الآخر " لغزاً" . من تُرى يَكتب ( أو تكتب) بهذا الأسلوب الرفيع، والتحليل الثقافي العميق؟
    2) كان التحليل متماسكاً متكاملاً ينطلق من ثقافة عالمية شاملة تعرف الفروق بين الثقافات المختلفة في الحضارة الإنسانية، لا بُد أنه صادر من شخص خبر الثقافتين العربية والغربية وعلى دراية بعلم النفس الاجتماعي.
    3) في البداية ظننتُ أن الناقد أو الناقدة وقع في الخلط بين الكاتب وبطل القصة، ولكن تبين لي أنه (أو أنها ) على معرفة تامة بمفاهيم النقد الحديث إذ جاء الاعتذار في الختام بالقول : " كنتُ أناقش بطل الرواية".
    4) سعدتُ لأنني نجحتُ في تقنياتي السردية وفي مقدمتها " الإيهام المرجعي"، حيث يوهم الكاتبُ القارئَ بأن الحكاية قد وقعت فعلاً، مما يزيد من متعة القارئ. وهذا ما اتضح من العبارة الأخيرة في التعليق: " وإن كنتُ أظن أن القصة كانت قصة حقيقية".

    والآن اضظر إلى كشف اللغز، وكان الناقد المغربي المتميز الدكتور عبد الرحيم الوهابي، قد كتب دراسة مطولة عن القصة، وفك اللغز في آخر الدراسة.
    كتبتُ هذه القصة ـ يا عزيزي أو يا عزيزتي ـ بعد أن كنتُ أقرأ في التراث العربي القديم مقولة " المرأة كالدنيا: تقبل عليك بلا سبب، وتدبر عنك بلا سبب"، فكتبتُ هذه القصة الخيالية ـ طبعاً مستعيناً بأحداث واقعية في حياتي بغرض الإيهام المرجعي ـ بحيث تكون هذه الفتاة رمزاً للدنيا. ويستطيع القارئ النبيه أن يصل إلى فك اللغز من عبارات وردت في اللقصة مثل يسأل بطل القصة اخت الفتاة ما إذا كان للفتاة صديق، فتجيب : " لا صديق لها". وغيرها من العبارات التي شرحها الدكتور الوهابي في دراسته.
    ومن يمارس وضع الالغاز وتركيبها، يستطيع أن يفك اللغز في هذه القصة .
    وفي شكري للناقد المتألق الأستاذ جمعة عبد الله، سألتُه: هل عرفتَ اللغز في هذه القصة؟

    وختاماً، أشكرك من القلب على هذا التعليق القيم ، الذي يعد تؤيلاً جيداً للقصة، والعمل الأدبي هو الذي يمنح نفسه لتأويلات القراء والنقاد ليضمن لنفسه الاستمرار والحياة.
    وأخيراً فإنني أستطيع أن أحزر ـ من الأسلوب الرفيع والثقافة الواسعة وأدب الحوار ـ من هو الكاتب الكريم، على الرغم من استخدامه الإيهام في عبارة " أختك الناقدة ".
    وهو أديب مفكر يحظى بمودتي واحترامي.
    علي القاسمي

    1.  
    الاديب القدير
    مقدماً اعتذر لاني لم انتبه الى السؤال : هل عرفت اللغز في القصة ؟ إلا بهذا الكشف السريع , حول التعليقات عن قصتكم
    لاشك ان الحب خلق في زوبعة فورانية بالاشتعال السريع دون مقدمات , بل في المفاجئة الصادمة , التي اشعلت العواطف بنار مشتعلة , كعود الكبريت السريع الاشتعال وسريع الانطفاء . مثل هذا الحب المفاجئ الذي اشتعل سريعاً بسرعة البرق , وانطفأ سريعاً بسرعة الضوء . واعتقد حسب رأيي لماذا انطفأ وما هو اللغز ؟ , ان فوران الحب الملتهبة والمشتعلة , سكبت في رسائلها اليومية , ثلاث رسائل في اليوم , فلم يبق من نيران الحب , سوى الرماد , اي ان عملية الكتابة , هي امتصاص لفوران الحب حتى اخر قطرة منه , هذا الامتصاص نشفته تماماً , والعامل الاخر هو عامل الاسقاط , اي انه اسقط كل فوران الحب في كتابة الرسائل , حتى سلبت روحه , في الموت البطيء اليومي , فلم يبق له اثر بعد ذلك , فقد اطفأ كل قناديله . والشيء الاخر في نضوب زوبعة الحب النارية , هي بأن العاشقة بين قوسين , لم تخبر شقيقتها بالعلاقة كما هو متعارف عليه في الثقافة الغربية وحتى ثقافتنا , بأنها لها علاقة حب مفاجئة مع غريب تعرفت عليه في القطار . يعني بدليل على ان العلاقة طارئة ليس لها ضمان في المستقبل , حتى لا يسجل عليها فشل في علاقة الحب , يعني العقل الباطني , لم يؤمن بهذه العلاقة المفاجئة والطارئة , رغم فوران القلب لها , يعني بكل بساطة نزوة شبابية طائشة بشكل موقت , اشتعلت كعود الكبريت وانطفأت سريعاً , لان العقل وليس فوران العاطفة , لم يكن يؤمن بهذه العلاقة , بأن وجودها موقت بكل تأكيد . وهناك تسرع وخطأ بالتصرفات . في مقدمتها كل من الاوجب للعاشق الطارئ , ان يؤجل سفرته الى اوسلو النرويج على الاقل يوماً واحداً , ويحقق رغبتها بحضور الاحتفال الموسيقي , حتى تتوضح الصورة والحقيقة , هل هو حب طارئ أم دائم ؟ الخطأ الثاني لو كان حقاً صادقاً في حبه , لضحى في دراسته وهي ستة اسابيع لا تقدم له شيئاً , ولكن الانانية الشبابية , جعلته يضحي بالعلاقة الجديدة في الحب , اي ان لعبت عوامل مفاجئة وصادمة في خلقه وموته السريع , ولكن ايضاً الانانية لدى الطرفين , لماذا اصرت ( جسيكا ) ان تنزل في محطة مدينتها , كان بالامكان لو هي صادقة لنزلت في المحطة التالية , بعد ان يتوضح الموقف من علاقتها , في مناقشته بروية . دعنا من كلامها العابر ( سأنتظرك حتى ست سنوات , العمر كله ) انه كلام منافق بعامل الفوران العاطفي , من يعتقد ذلك ؟ لان العواطف تدخل من الباب بدون مقدمة وبشكل مفاجئ , وتخرج من الباب دون مقدمة وبشكل مفاجئ صادم . ان الاثنين في ظروفهما الخاصة , لا تسمح ببقاء الحب , وليس له سند ضامن , فهما لم يضحان بسويعات لتفاهم , فكيف يكون مستقبل علاقتهما , ان المناقشة العقلية , تشير الى فورة شبابية عابرة , اكثر بمفعولها الحزين عند صاحبنا , وبشكل اقل من القليل عند ( جسيكا ) بأنها لم تهتم بلقاءه , لانها لا تراهن على شيء فاشل اصلاً , وانطفأ كلياً , بأن مستقبل العلاقة غير مضمون تماماً , ولا اناقش الثقافيتين والعقليتين المختلفة ( الشرقية والغربية ) . هذه القصة الرائعة , تذكرني بقصة الكاتب الكبير عبدالرحمن منيف . في ( قصة حب مجوسية ) بالضبط اشتعل الحب بشكل مفاجئ بالفوران , في القطار , وانفصلا , دون ان يدون عنوانها , بسبب الانفعال المتسارع , وظل ايام يبحث عنها في مدينتها بدون الانقطاع , حتى دب فيه اليأس والفشل , وفي محطة القطار ايضاً , عند انتهى من دراسته ورجوعه الى بلده , وفي لحظة وداع مع اصدقاءه , رأى فجأة عشيقته الضائعة التي تعرف عليها في القطار واشعلت عواطفه بالغليان , فكانت وجهتها الى جهة مغايرة لرحلته , وفي لحظة الودائع كان حائراً يلغي عودته الى بلده ام لا , فسألها بأنه نسى ان يكتب عنوانها , واتضح بانها تعيش بالقرب من منزله وتشتغل في محل البقالة ضمن محلته , وهو يومياً مصاب بالجنون يبحث عنها , في محطات القطارات ومحلات اخرى , وهي قريبة من بيته , وبذلك انطفأ الحب , وعاد الى بلده , في علقم المرارة .
    هذه القصيدة في حمى التأويلات , وهذا هو الابداع الحقيقي
    ودمتم بخير وصحة
    الأخ العزيز الأديب القاص
    تحية عطرة
    صدقني أيها القاص الأخ الكريم : لم أكتب في يوم من الأيام شطرا من بيت شعر ، ولم أتمكن من حفظ بيتين من قصيدة : كانت مدرسة اللغة العربية تلميذة مصطفى جواد لا تحرجني قط ، فلم تكن تطلب مني تسميع القصيدة تتجنب ذلك مع أني كنت - حينذاك - أصغر الجميع سناً - كانت تشجعني في الصياغة في الإنشاء الذي يعتمد على قاموس لغوي واتقان قواعد اللغة : لم يجرأ تلميذ على الوقوف أمام الصف للإيتاء بجملتين في الإنشاء : تطرح عدة مواضيع وتطلب رفع الأصابع لإختيار موضوع فتختار الموضوع الذي يحصل على أكبر عدد في التصويت ، حينذاك تطلب ممن أدلى بصوته لذلك الموضوع أن يتقدم أحدهم للوقوف أمام الصف ويدلي بدلوه في الموضوع ، وكانت النتيجة السكوت والصمت المطبق فأتقدم كثوري مضحِ بنفسه من أجل مبادئه ، ولا أعلم لِم أصبحت تحترمني وتتحاشى أن تطلب مني قراءة وإن بيت من قصيدة ، عذرا على الإسهاب الممل ، أردت أن أُثبت بأنني لم أتمكن من استظهار وإن بيت شعر من المقرر الدراسي. أليس من الجور على الشعر أن تقول " الأديب الشاعر الباحث... " ، في الإمتحان أحفظ القصائد الطلوبة تاركا النقد والقواعد فأحصل على درجة اللغة العربية بتفوق ، وأنسى القصائد التي حفظتها بمجرد الإنتهاء من الإمتحان لكنني أعشق الشعر( كل ‘نسان يحب أن يكمل النقص الذي يعاني منه دون أن ينام عليها كالنعامة, لست كالنعامة أعترف بأنني كنت أكسل تلميذ في الشعر ، وكنت كذلك في الكيمياء. فأعوض الدرجة في الفيزياء. دمت أديبا متفوقاً.
    "المرأة كالدنيا: تقبل عليك بلا سبب، وتدبر عنك بلا سبب"، صدقني ليست المرأة فحسب بل حتى الدنيا لا تقبل بدون سبب ولا تدبر بدون سبب يمكن تصحيح القول ب " الدهر يومان يوم لك ويوم عليك ، أي مثلما تُدين تُدان " وتلك الأيام نداولها"، كل شئ إلى زوال لأسباب ، وبأسباب. لا معلول بدون علة ، وهل هنك فعل بدون فاعل أو نائب عن الفاعل، سواء أكان إسما أو ضميرا ظاهرا أو مستترا.. أنهى الله أمما وشعوبا لأنها جنت على نفسها.

    1.  
    صديقي العزيز الكاتب القدير والناقد اللامع الأستاذ جمعة عبد الله المكرّم
    إنك تجعل من النقد إبداعاً مستقلاً، ينطلق من عمل أدبي ما، ولكنه سرعان ما يحتل في واحة الإبداع خميلة خاصة به، لها شذاها ورونقها وعشاقها.
    ومن ناحية اخرى فإنك تجعل من النقد ـ بفضل ثقافتك الواسعة ـ فناً صعباً يتربع على عرش العلوم الإنسانية بما فيها من فلسفة ومنطق وعلم نفس واجتماع.
    لقد أمتعني نصك اليوم بأسلوبه المتميز وصوره المجازية المتخيلة، وأدهشني بعمقه ودقته وموضوعيته. فشكراً لك من القلب على مودتك وتشجيعك.

    1.  
    عزيزي الباحث في الزوايا عن أريج الياسمين المحترم ( أو عزيزتي الباحثة في الزوايا عن أريج الياسمين المحترمة) دام لك المجد والهناء.
    لا أقصد بالشعر النظم الموزون المقفى، فالشعر عندي من الشعور الذي يمنحه حرارة صدق العاطفة، ومن الخيال الذي يهبه الصور الشعرية المجازية الخلابة.
    لنأخد الاسم المستعار " الباحث في الزوايا عن أريج الياسمين". فبالإضافة إلى موسيقاه الجميلة، فإنه يرسم صورة شعرية مجازية، لم تسعد عيناي بمعانقتها خلال السبعين سنة التي أمضيتها في التعلم والقراءة، ولا حتى في دواوين الصديق الشاعر الفذ الأستاذ يحيى السماوي، صياد الصور المجازية الماهر.
    قبل يومين كنتُ أخضع لفحوصات طبية، وقالت لي طبيبة القلب: " إن ما يقلقني هو زيادة خفقات القلب لديك." . قلتُ لها " إنه قلب شاعر ولستُ بشاعر. فأنا أبكي بلا إرادة مني إذا رأيتُ طفلة تبكي، وتحترق مهجتي عندما أشاهد فقيراً يستجدي، ولا أنام الليل كله، إذا تابعت أخبار بلدي العراق أو وطني العربي الزاخرة بمآسي المشردين، والنازحين، والمنكوبين، والمحتجزين، والبؤساء، والأرامل، والأيتام..."
    هذا هو مفهومي للشعر، الذي لا يرتبط بالنظم.
    أما ما تفضلت به من العلة والمعلول فهو صحيح على المستوى الباطن، أما على المستوى الظاهر وللإنسان العادي، فقد تبدو له ـ أحياناً ـ أمورٌ تقع بلا سبب مفهوم، مثل إقبال الدنيا أو المرأة وإدبارهما. وهذا ما رمت إليه المقولة العربية التراثية.
    وخلاصة القول ، أشكرك شكراً جزيلاً على اهتمامك الكريم بقصتي، وتحليلك العميق لها، وحبك للحوار وتبادل الرأي.
    مع أطيب تمنياتي لك واحترامي.

    1.  
    الاديب المتميز والصديق العزيز الدكتور علي القاسمي
    احتواء القصة على لغز دليل تميزها وقابليتها لعدة قراءات وقد اقترحت حلا للغز القصة انطلاقا من مؤشرات نصية
    ولا يمنع هذا من تعدد زوايا النظر والحلول التي يمكن أن يقترحها قراء محتملون القصة
    فالأدب العظيم هو الذي لا تستنفد معانيه وتاويلاته
    دام لكم التالق والابداع
    عبدالرحيم وهابي

    1.  
    أخي العزيز الأديب الناقد المتألق الدكتور عبد الرحيم وهابي المكرّم
    عيد مبارك سعيد، ودمت موصول الإبداع موفور الصحة والهناء.
    أشكرك على تفضلك بالتعليق على القصة. وأنا أتفق معك على ضرورة أن تكون كل قصة لغزاً قابلاً لتأويلات متعددة ، ليكتب لها الاستمرار والحياة.
    مع خالص مودتي واحترامي.

    مقالات ذات صلة