أصدقاء الدكتور علي القاسمي

صورة المدينة في الأدب العربيّ والآداب الغربيّة د. علي القاسمي




صورة المدينة
في الأدب العربيّ والآداب الغربيّة
 د. علي القاسمي

دراسة مقارنة بين قصة (المدينة) للكاتب الأمريكي جون أبدايك، المنشورة في قسم (أدب مترجم) في مركز النور، وبين قصة (المدينة) لعلي القاسمي، المنشورة أعلاه.

لقراءة قصة المدينة للكاتب الامريكي جون أبدايك   اضغط هنا   

القرية والمدينة في التقاليد الأدبية

نشأت المدينة نتيجةَ نضال البشريّة من أجل السيطرة على الطبيعة والتحكُّم فيها، بوصفها ملاذاً للإنسان يجد فيه الطمأنينة والأمان. وتحمل المدينةُ، في مكوِّناتها وعمارتها، نظرةّ جديدة للكون والحياة والمجتمع والإنسان، وتنظيماً مُستحدَثاً للعلاقات بين هذه العناصر الأربعة، خاصة العلاقة بين الإنسان ومجتمعه.

وعندما نشأت المدينة، ظهرت إلى الوجود ثنائية القرية والمدينة، وبدأت علاقة جدليّة بين الإنسان المفكِّر والمدينة، يطبعها شعور هو مزيج من الرغبة والنفور، والحبّ والكره، والوصال والهجر. وحينما يغلب الشعور بكره المدينة على الإنسان المفكِّر، يحلم هذا الإنسان المبدع بمدينة أخرى تستجيب إلى تصوراته وطموحاته: مدينة أسطوريًة، أو مدينة طوباويًة، أو مدينة مسحورة. ولكنّ المدينة تبقى هي المدينة.

الشائعُ أنّ التقاليد الأدبيّة والفنيّة، عربيّة كانت أو غربيّة، تمجِّد القريةَ وتتغنى بطبيعتها الأخّاذة، على حين تنال من المدينة وتذمّ أحياءها الصناعية القذرة. فالريف في معظم الأعمال الشعريّة والنثريّة يمثّل منشأ الحياة البشريّة القريبة من الطبيعة حيث الهواء النقي، والمياه العذبة، والخضرة الشاسعة، والمناظر الخلابة، والعلاقات الإنسانيّة الحميمة؛ فالريف هو أصل الحكمة، وموطن البراءة، وواهب الصحة والجمال والسعادة.

وفي المقابل، يسلِّط جلُّ القصص والقصائد وبقية الأعمال الفنيّة الضوءَ على مساوئ المدينة المتمثِّلة أساساً في هوائها الملوُّث، وضوضائها المضرّة، وازدحامها بوسائط النقل، وإفرازها تشوّهات حضاريّة نتيجةَ الثورة الصناعيّة التي أرادت ربط الإنسان بالآلة في المصنع، وحاولت نزع أحاسيسه ومشاعره ليكون شبيهاً بالآلة في أدائها ودقّتها وسرعتها. ومن هنا طغت الماديّة على المدينة واضمحلّت فيها القيم الإنسانيّة (1).

وقد انعكست محبّة الكُتّاب للقرية وبُغضهم للمدينة على اللغة المُستعمَلة. ولا أدلّ على ذلك من الفرق الدلاليّ بين إيجابية النعت " طبيعيّ " وسلبيّة مقابله " اصطناعيّ".

ولكنْ، هنالك من المفكِّرين والأدباء مَن اشتهروا بحبّهم للمدينة وتفضيلها على القرية. فإذا كان الشاعر الرومانسيّ الإنجليزيّ وليم وردزورث لم يحتمل العيش في لندن وفضّل العودة إلى منتجعه في منطقة البحيرات الجميلة التي كانت تلهمه روائع أشعاره، فإنّ معاصره الأديب الإنجليزيّ الدكتور صموئيل جونسون، مصنّف أول معجم إنجليزيّ متكامل، اشتهر بعشقه الذي لا حدّ له لمدينة لندن، ونُقلت عنه مقولته " إذا ملّ الإنسان مدينة لندن، فقد ملّ الحياة"، لأن المدينة تستطيع أن تعطيك كلَّ ما يمكن للحياة إعطاؤه(2). ويشاركه في هذا الرأي في المدينة الفيلسوفُ الفرنسيّ فولتير . وفي الأدب العربيّ الحديث نجد الروائي نجيب محفوظ يعبِّر عن عشقه للقاهرة في روايته الثلاثية الشهيرة، وكذلك الروائي عبد الرحمن منيف الذي تجلّى حبّه للمدن في أعماله مثل روايته الثلاثية " أرض السواد"، التي أعلن فيها حبَّه لمدينة بغداد، وفي كتابه " سيرة مدينة " الذي خصّصه لمدينة عَمّان حيث ترعرع.

وتكمن محاسن المدينة في اتساعها وضخامتها, وقوّتها، وتنوّع أماكنها، وتخصّصها، وكثرة مواردها البشريّة والماديّة. وتؤدّي هذه المحاسن إلى شعور الإنسان بالحريّة المتمثِّلة في تعدد اختياراته، والتحرر والتخلُّص من القيود الاجتماعيّة التي تفرضها عليه القرية بسبب ضيقها، وعلاقاتها البشريّة الملتحمة، وتمسّكها بالأعراف والتقاليد.

بَيد أنّ هذه الحرّيّة التي تُعدّ حسنة المدينة هي، في الوقت ذاته، مصدر سيّئتها الأساسيّة التي يجسّدها الشعور بالعزلة والوحدة والغربة والضياع. فخصائص المدينة، من اتساع وضخامة وقسوة وجفاف ووتيرة عمل سريعة، تُضعِف العلاقات الإنسانيّة وتجعل كلَّ فرد منشغلاً بذاته عن الآخرين.

المدينة في نظر الكتّاب العرب والغربيين:

في هذه الورقة سنتناول نظرةَ بعض الكُتّاب العرب والغربيّين إلى المدينة، من خلال قصتين تحملان كلتاهما عنوان " المدينة"، أحداهما للكاتب الأمريكي الأشهر جون أبدايك (3) والأخرى للكاتب العراقي المقيم في المغرب علي القاسمي (4).

قصة " المدينة " لجون أبدايك

تدور قصة " المدينة " لجون أبدايك (5) حول وكيلِ مبيعاتٍ لمصنعٍ متخصّص في الحواسيب الصغيرة وأنظمة معالجة المعلومات، اسمه كارسون، وهو في منتصف العمر ومطلّق من زوجته وله ابن يعيش في المكسيك وابنة أعلنت رسميّاً تخلّيها عن أبوته وسجّلت ذلك في المحكمة. يسافر كارسون بالطائرة إلى إحدى المدن لتسويق مبيعاته. وكان يجلس إلى جانبيه، في الطائرة، شابان من رجال الأعمال لكلّ منهما " شارب محدّد فوق فمه الشاحب المُطبَق". "وعندما تريد أن تتبادل بضع كلمات معهما فإنك ستسمع أصواتاً لا تفهم منها شيئاً وتبدو كأنّها صادرة من صندوق صفيح أشبه ما يكون بأرخص أجهزة التلفزيون". وحينما كان كارسون في موقف سيارات الأجرة في مطار الوصول لم يرَ الشابين، " فقد ذابا في الزحام مع الكثيرين من أمثالهم من الشبان."

وقبل هبوط الطائرة، يشعر كارسون بمغصٍ معويّ، يحتمله بتجلُّد. وفي الفندق يزداد ألمه. ولعدم وجود مَن يساعده في جلب الدواء، ينزل كارسون إلى الصيدليّة لجلب الدواء. ولكن الألم يزداد تلك الليلة، فينصحه موظف الاستقبال في الفندق بالذهاب إلى عيادة الطوارئ في مستشفى المدينة. وهناك يتوجَّب عليه أن يمرّ بإجراءات طويلة ويملأ استمارات عديدة يثبت فيها قدرته الماليّة على تسديد مصاريف المستشفى. " وخطر له أنّ الإنسان قد يموت في المستشفى أثناء تلك الإجراءات البطيئة." وأخيراً فحصه طبيب شاب ولكنّه لم يكن متأكِّداً من تشخيص المرض. ولهذا أُخذت عَيِّنات من دمه لإجراء فحوص مختبريّة إضافيّة عليها. وكان على كارسون أن ينتظر في سريرٍ في غرفة يشغلها مريضان آخران، كانا "يئنان ويغنيان أغنيات لا لحن لها، وعندما يزورهما الأطباء ، كانا يتوسلان إليهم للسماح لهما بالخروج من المستشفى ويعِدان بأن يكونا مستقيمين من الآن فصاعداً" .

وبعد إجراء فحوصات متعدَّدة لكارسون من قِبَل أطباء مختلفين، استُدعي طبيب متخصص أُخرِج من حفلة خاصة. وقرّر هذا الطبيب إجراء عملية جراحيّة لإزالة الزائدة الدوديّة التي تحرّكت من موضعها. وأثناء العملية الجراحيّة، يحلم كارسون، وهو تحت التخدير، بأنّه حُشر في نفق مظلم. ثم وجد نفسه في غرفة عاديّة في المستشفى. "وكان إلى جانبه رجل قصير ذو وجه ضيق مُتكدِّر يستلقي في الفراش الذي بجانبه وهو يدخّن ويحدّق في جهاز التلفزيون."

وفي فترة النقاهة، نُقل كارسون إلى غرفة أخرى خاصة به وحده. " وكان يشعر بالسعادة الخالصة في هذا الجناح من المستشفى الذي يخلو من الناس إذ لا يراه ولا يعرفه أحد هناك."

وعندما انتهت فترة النقاهة وخرج كارسون من المستشفى " استقلّ سيّارة أجرة إلى المطار مباشرة، ولم يرَ من المدينة إلا معالمها التي لاحت له عن بُعد حين مرّ بالطريق السيّار وبتقاطع الطرق الزاخرة بالسيّارات. وبعد إقلاع الطائرة انتشرت تحته المدينةُ مثل خريطة ثم اختفت. ومع ذلك، فإنّه عندما فكّر في أصوات المزارعين، وناطحات السحاب البعيدة، وزيارات الممرضات الليليّة، والأطباء، والمنازل الملطّخة التي لا تثير أيّ انتباه، وعشرات الوجوه التي ارتفعت مع الألم إلى سطح مُخيّلته، بدا له أنّه توصَّل إلى معرفة المدينة عن كثب. كانت المدينة مثل امرأة التقى بها في حانة، خلال إحدى رحلاته الأخرى، ودفع لها فأسلمت جسدها إليه دون أيّ حديث تمهيديّ."

قراءة قصة جون أبدايك:

في هذه القصة القصيرة التي تُعدّ من أروع قصص جون أبدايك، نجد أنّ السارد يحكي الأحداث بضمير الغائب فهو يتحدّث عن كارسون وما وقع له في المدينة. وهذا يمنح السارد أو الكاتب الذي يروي الأحداث أن يعلّق عليها من مخزون معارفه، فيعرّفنا بأهم معالِم المدينة الأمريكيّة التي تميزها عن القرية، فيقول:

" صار الآن (أي كارسون)، وهو في الخمسين من عمره، ذوّاقة للمدن، وأحيائها المركزيّة النامية، وأحزمتها الصناعية المتضخّمة، وسككها الحديديّة الصدئة، وأبنيتها الزجاجيّة الجديدة، وفنادقها المكسوة أرضيتها بالزرابي ذات اللون البرتقاليّ، وحاناتها التي تقلّد الأكواخ الإنجليزيّة في زخرفتها الداخليّة؛ ولكلّ مدينة لهجة خاصة بها، وزي نسائيّ محليّ، وحيّ قديم تاريخيّ متميز، وناطحة سحاب ذات شكل غريب، ومتحف يضمّ لوحة لسيزان، أو قُل لونسلو هومر، لا تجد مثيلاً لها في أيّ مكان آخر."

في هذه الفقرة التي تصف المدينة تتتابع الجمل والعبارات تتابعاً سريعاً ويتعالق بعضها ببعض تعالقاً وثيقاً، وكأن الكاتب أراد أن يعطي القارئ انطباعاً إضافيّاً علاوة على المعلومات التي تضمَّنتها تلك الجمل والعبارات. ويتعلَّق هذا الانطباع بخصيصتَين من خصائص المدينة هما: ازدحام المدينة بالبنايات ووسائط النقل والناس، والوتيرة السريعة التي تجري بها الأحداث والأعمال. فالازدحام يبرز على مستويَين: مكانيّ وزمانيّ. وهذا الازدحام يُحيل على الزحام الذي ذاب فيه الشابّان بعد وصولهما إلى المدينة. وكأنّ شخصيّة الفرد تذوب وتنعدم في المدينة بسبب ضخامتها وازدحامها.

ونلاحظ أنّ ذلك الوصف الشامل ينصبّ أساساً على معالمها الخارجيّة، ويغيّب، بصورة مُتعمَّدة، الخصائص الداخليّة في العلاقات الاجتماعيّة بين الأشخاص في المنازل والمصانع والحانات والفنادق ومحطات السكك الحديديّة، إشارة إلى عدم وجود تلك الوشائج الإنسانيّة بين سكان المدينة أو ضعفها. إنّ الشعور بالعزلة والوَحدة والضياع هو الذي يغلب على كلّ فرد هناك.

وإذا كانت اللغة هي أداة التواصل والتفاهم بين الناطقين بها، وهي التي تنسج العلاقات الاجتماعيّة بين الناس وتوثّق أواصر التعاطف بينهم، فإنّ اللغة مغيَّبة في هذه القصة على مستويين مترابطين:

الأول، مستوى الشكل، كما تصوغه التقنيّات السرديّة. فالقاصُّ لا يستخدم الحوار في هذه القصة، على الرغم من تمكُّنه منه واستخدامه له في معظم قصصه القصيرة الأخرى ورواياته العديدة. إنّه يعمد إلى السرد والوصف هنا. وإذا نطق أحد شخوص القصة، كما في حالة إخبار الطبيب المريضَ بنتيجة الفحوص، فإنّ كلامه مبتسر لا يتعدى مفردتين أو ثلاث، في شكل خبر أو أمر لا يقبل الأخذ والرد، ويبقى كارسون " صامتاً مثل كلب لا يمكنه إلا أنْ يعوي أو ينشج." على حدّ قول السارد.

الثاني، مستوى المضمون، فالشخوص صامتون لا يجيدون الكلام، فجارا كارسون في الطائرة " لهما فمٌ مطبق" ، وإذا أراد أن يتبادل معهما بضع كلمات، جاء جوابهما بلغة غير مفهومة وبصورة آليّة مثل جهاز تلفزيون اختلّ فيه الصوت. وجاره في ردهة المستشفى يشاهد التلفزيون ولا يتبادل الكلام معه. والطبيبة التي فحصته تتكلم برطانة أجنبيّة لا يستطيع فهمها، وهكذا. فالعلاقات الإنسانية مقطوعة، ويرمز النصّ لهذا الانقطاع، كذلك، بطلاق كارسون من زوجته، وتخلّي ابنتُه عن أبوّته، وبُعد ابنه مكانيّاً.

إذن، فالشعور بالعزلة والوحدة هو الغالب على سكان المدينة. الإنسان يعيش في مدينة ولكنه في حقيقة الأمر محاط بصحراء قاحلة من العواطف الإنسانيّة. ويرمز الكاتب لهذه العزلة بالغرفة التي أمضى فيها كارسون فترة النقاهة وحده لا يشاركه فيها مريض آخر. ومع ذلك، فقد شعر "بالسعادة الخالصة"، لأنّه اعتاد حياة العزلة وأصبح يتضايق من وجود الناس حوله. وهذا يذكّرنا بذلك الشاعر الصعلوك الذي اعتاد الوحدة في الصحراء وقال:

عوى الذئبُ فاستأنستُ إذ عوى وصوَّتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ

ويَصِم السارد المدينةَ بسيّئة أخرى هي طغيان المادة على القِيَم، واضمحلال الخصال الروحيّة واختفاؤها. وقد أبرز السارد ذلك بطريقتين:

الأولى، الإكثار من ذكر المعطيات الماديّة في المدينة وإغفال أيّ ذكر لقِيَم أو مُثُل أو عقائد، أو ما يمثّلها من أماكن ومؤسسات. فالقصة تزخر بالطائرات في المطارات، والسيارات المزدحمة في الشوارع وتقاطعاتها، والدرّاجات، وناطحات السحاب، والأجهزة والمعدّات والآلات، وغيرها من المنتجات الصناعيّة. ولكنها تخلو من ذكر المدارس أو أماكن العبادة، كما أنّنا لم نسمع أيّة صلوات أو أدعية يتلوها مريض ما في المستشفى. على العكس من ذلك، أبرز السارد مريضَين كانا يُعالجان من الإدمان على الخمور أو المخدِّرات وكانا يدندنان بأغانٍ لا لحن لها ولا معنى. اللغة هنا مؤلَّفة من مادة الأصوات ولكنها مفرغة من المعاني التي تمثّل روحها.

الثانية، يتجلى طغيان المادة على سكان المدينة في رغبتهم في الحصول على المال بأيّة طريقة مشروعة أو غير مشروعة. إذ تسعى بائعات الهوى في الحانات إلى الحصول على المال ببيع أجسادهن؛ ويسعى الأطباء في المستشفى إلى الحصول على المال بالكذب والتزوير، فلم تكن زياراتهم المتكرّرة لكارسون والتي لا لزوم لها ، أثناء فترة النقاهة، بدافع من مهنتهم الإنسانيّة أو لمواساته، وإنّما من أجل إدراج تلك الزيارات في سِجّل المريض، وقبض ثمنها بعد ذلك.

ولعل وصف السارد للاتصال الهاتفي الذي جرى بين كارسون وابنه، يمثّل انقطاعَ التواصل الإنساني الحاصل في المدينة، وغَـلَبَةَ الروح الماديّة عليها في آن واحد. يقول السارد:

" واتّصل به هاتفيّاً، وعلى حسابه (حساب كارسون)، ابنُه من المكسيك يوم الأحد، وكان صوته يبدو قريباً، وكلامه تتخلّله فترات صمت بصورة تُنذر بالشرّ، وكانت فترات الصمت الطويلة المُربكة بين الأب وابنه، في هذه المكالمة الهاتفيّة، تأكل الدولارات أكلاً."

بل إن طغيان الروح الماديّة على المدينة، وانقطاع العلاقات الإنسانيّة، وانعدام التواصل البشريّ فيها، تلخِّصه الجملة الختاميّة الرائعة:

"كانت المدينة مثل امرأة التقى بها في حانة خلال إحدى رحلاته الأخرى ودفع لها فأسلمتْ جسدها إليه دون أيّ حديث تمهيديّ."

وتذكّرنا هذه العبارة الختامية بالشاعر الفرنسي بودلير صاحب " أزهار الألم " الذي شبّه المدينة بالعاهرة.

قصة " المدينة" لعلي القاسمي :

أما قصة " المدينة " لعلي القاسمي (6)، فتتحدّث عن شابٍّ قرويّ بَهرته أخبار المدينة وتوفرُّها على فرصٍ للعمل يغنم الإنسان منها أجراً سخيّاً ويعود بعد مدة إلى قريته رجلاً ميسور الحالً؛ فيتوجّه هذا الشابّ إلى المدينة. يلج أوّل شارع في أطرافها باحثاً عمَّن يدله على نُزُل يحلّ فيه، فلا يجد إلا السيارات التي تمرق مسرعة بجانبه، فيواصل سيره حتّى يصل تقاطعَ طرق يقف في وسطه شرطي ببزته العسكريّة وهو ينظِّم السير وإلى جانبه يُقعي كلبٌ ضخم الجثة، فلم يجرؤ الشابّ على مخاطبة الشرطيّ وتوجيه السؤال إليه. فيواصل السير ماشياً على الرصيف خوفاً من السيارات المنطلقة. ثم يلمح رجلاً يقود سيارته وبجانبه كلب يُطلّ برأسه من نافذة السيارة. وبعد ذلك يشاهد امرأة تسير على الرصيف وهي تدفع عربة صغيرة ينام في داخلها كلب صغير. وبينما كان يشاهد هذا المنظر الغريب بالنسبة إليه، تبتعد المرأة عنه فلم يَعُدْ من اللائق ملاحقتها وإلقاء السؤال عليها عن النُزُل. وبعد قليل يُقبل رجلٌ يقود كلباً بسلسلة، فيلقي عليه الشابّ القرويّ السلامَ، ولكن الرجل لم يرد التحية، بل ينظر إلى الشابّ باستغراب.

ويواصل الشابّ القرويّ سيره في الشارع فيرى من خلال إحدى نوافذ المنازل المفتوحة المحميّة بمُشبّك حديديّ، كلباً ضخماً أسود أفطس الأنف، وما إن التقت نظراتهما حتّى اكفهرّ وجه الكلب وكشَّر عن أنيابه، وتأهَّب للنباح والهجوم، فيبتعد الشابّ مسرعاً، ولكنّه يواصل النظر من خلال النوافذ حذراً وبدافع من حبِّ الاستطلاع، فيرى، مثلاً، في حمام أحد المنازل، كلباً يستحمّ في المغطس وتتولى امرأة غسله بالماء والصابون المُعطَّر.

ولمّا تأكد للشابّ أن لا أحد في تلك المدينة يدلّه على نُزُل، اعتمد على نفسه وأخذ يتهجّى لوحات المحلات بصعوبة بحثاً عن نُزُل. وعندما يقرأ كلمة " نُزل " في أوّل إحدى اللوحات، يسارع في دخول المحلّ، ولكن يتبين له أنّه نُزُل خاصٌّ بالكلاب. فيواصل البحث حتّى يجد نُزُلاً للبشر. ولكنّ صاحب النُزُل يسأل الشاب قبل كلّ شيء عن كلبه، وعندما يقول الشاب إنّه لا كلب لديه، تظهر أمارات الدهشة والاستغراب على وجه صاحب النُزُل ويطلب منه مغادرة المكان في الحال. وحينما يُبدي الشاب دهشته لذلك، يحدّق صاحب النُزُل فيه بحدّة، وتأخذ عيناه بالاحمرار، وأرنبتا أنفه بالخفقان، وشفتاه بالارتعاش الشديد، ويصدر منه صوت خافت سرعان ما يعلو حتى يصير أقرب إلى العواء، ويروح الزَبَد يخرج من شدقيه، ويكشّر عن أنياب حادّة، ويستطيل فكاه إلى الأمام حتّى يُصبحا مثل فكَّي الكلب، وتنتصب أذناه، ويزداد عواؤه حتّى يتحوّل إلى نباح، ويقفز من وراء المنضدة إلى الأرض، ويستوي على أطرافه الأربعة، وقد نبت لجسمه شعر قصير، ونمت لقوائمه الأربع مخالب بارزة، ومُسِخ كلباً نبّاحاً ضخم الصوت كبير الخطر. فما كان من الشاب إلا أن يولّى هارباً من النُزُل والمدينة، تاركاً نعلَيه خلفه، جارياً بأقصى ما يستطيع في اتجاه القرية.

قراءة قصة "المدينة" لعلي القاسمي:

عندما نقارن قصة "المدينة" لجون أبدايك بقصة "المدينة" لعلي القاسمي ، نجد أنهما يختلفان من حيث الطول (الأولى 20 صفحة والثانية 7 صفحات)، ومن حيث اللغة والأسلوب، ومن حيث المضمون، ومن حيث الطريقة أو المدرسة السرديّة التي تنتمي كلّ قصة إليها. ولكنّهما تتفقان من حيث تلميحهما إلى مساوئ المدينة.

فالسارد في قصة علي القاسمي يتحدّث بضمير المتكلِّم، فهو يحكي ما حدث له شخصيّاً، وهذا يوحي بشيء من الثقة وبنوع من التصديق. وتزداد ثقة القارئ بالسارد وتصديقه له في بداية القصة حين يبدأ السارد بوصف قريته أولاً بكلمات بسيطة صادقة وبأسلوب إخباريّ مباشر، وكأن القصّاص قد سقط في التقريريّة والمباشريّة، غير أنه سقوط مقصود. يقول السارد في افتتاحية القصة:
" دخلتُ المدينة أوّل مرّة عندما كنتُ فتىً يافعاً غريراً..."

ومما يزيد القارئ ثقة وتصديقاً موضوعيةُ السارد في وصف المدينة وتعداد محاسنها. يقول السارد:

" غادرتُ قريتي متوجهاً إلى المدينة باحثاً عن عمل. فقد بَهَرتني أخبار المدينة قبل أن أرحل إليها. سمعتُ أنّ شوارعها فسيحة نظيفة، وأنّ مساكنها فاخرة ذات مرافق مريحة تُضاء ليلاً بالكهرباء، وأنّ غرفها مُجهَّزَة بِمكيّفات الهواء فلا يشعر الإنسان فيها بحرّ ولا برد، بل بهواء ربيعيّ دائم. قالوا إنّ أحياءها تتوفر على مدارس يتعلَّم فيها الصغار والكبار، وتنتشر فيها عيادات الأطباء والمصحّات والمستشفيات، وقالوا إنّ العمل ميسور بأجور سخيّة لمن يرغب، وإنّ المرء يعود إلى قريته غنيّاً بعد فترة وجيزة."

هذه البداية الواقعيّة التقريريّة في القصّة هي من مستلزمات الأدب العجائبيّ (أو الفنتازي) الذي تنتمي إليه هذه القصة، بحيث يُفاجَأ القارئ بالأحداث العجائبيّة التي تقع في آخر القصة. وهذا أسلوب حذق فيه الكاتب الأمريكي دونالد بارتلم، الملقّب بأبي قصة " ما بعد الحداثة "، والمشهور بقصصه المُكثَّفة ذات الفضاءات العجائبيّة، والأحداث السورياليّة، والشخوص الكاركاتورية. فإذا كانت القصص الواقعيّة العاديّة تقوم على خلق مواقف يتخللها صراع ينتهي بنوع من الحلّ أو التوافق فيشعر القارئ بالارتياح، فإنّ القصص من هذا النوع تبدأ بصورة طبيعية معقولة ولكنها تنتهي بالقارئ إلى الصراع والقلق، وقد تثير فينا أحداثُها أو شخوصُها الضحكَ ولكنه ضحك ممزوج بالألم أو الاستغراب الذي يدفعنا إلى البحث عن حلّ أو إعادة تركيب الأحداث أو تأويلها من جديد.(7) وهذا ما حصل في قصة علي القاسمي. فمزجُها بين الممكن والمستحيل، والواقعيّ والمُتخيَّل، والحقيقيّ والأسطوريّ، يوسّع مدار التخييل لدى المُتلقّي، ويمكّنه من تأويل القصة على مستويات متعددة.

ويمكن قراءة قصة علي القاسمي على مستويات رئيسية ثلاثة:

المستوى الأول، هو مستوى منطوق النص، أو المستوى الظاهر للقصة، الذي ينصبّ على تفشِّي عادة اقتناء الكلاب بين أهل المدن. فما من رجل أو امرأة التقى به أو بها الساردُ إلا وكان رفقة كلب، راجلاً، أو راكباً في سيارة أو عربة. وهذه عادة راسخة مستحكمة في المجتمعات المدينيّة الغربيّة ولها تقاليدها وأصولها وأخذت تنتشر في المدن العربية. ولكن السارد هو قروي اعتاد على أنّ الكلاب قد تساعد في الحراسة أو الرعي، ولكنه لم يتوقّع يوماً أن يرى الكلاب تمتطي السيّارات، وتنام في العربات، وتستحم في مغاطس الحمامات في المنازل.

المستوى الثاني للقراءة هو مفهوم النص الذي يتضمَّنه المنطوق. فتربية الكلاب تنم على الشعور بالوَحدة الذي يعانيه ساكن المدينة. وهنا تتفق هذه القصة مع قصة جون أبدايك في مسألة انحسار العلاقات الإنسانيّة في المدينة. وإذا كان انعدام الحوار هو المؤشِّر إلى ظاهرة العزلة في قصة أبدايك، فإنّ تربية الكلاب في قصة القاسمي هي وسيلة أهل المدن للتخلُّص من الشعور بالعزلة. إضافة إلى أنّ بعض تلك الكلاب هي كلاب حراسة ما يدل على فقدان الأمن وعدم الثقة بالآخرين. ويعزِّز ذلك " الأبواب الموصدة" و " النوافذ المَحميّة بمُشبَّك حديديّ"، وعدم تحدّث أهل المدينة إلى غريب حتّى لو ألقى عليهم التحية وخاطبهم. وقد عرفوا الشاب غريباً ليس من هيئته فحسب بل من عدم اصطحابه كلباً كذلك.

أما المستوى الثالث للقراءة فهو تأويل النص، الذي يُفصح عنه الحدث العجائبيّ المتمثِّل في أنّ صاحب النُزُل مُسِخ أو تحوَّل إلى كلب نبّاح، وهذه إشارة إلى فقدان الإنسان إنسانيّتَه في المدينة. وخاصية الإنسان الجوهرية التي تميّزه عن الحيوان في هذه القصة، لا تكمن في النطق، كما حددها أرسطو، فللحيوان لغته كذلك، وإنّما في القيم والمُثل التي تُهذِّب سلوكه وترتفع به عن سلوك الحيوان الغريزي وتخلّصه من شريعة الغاب. فالمدينة فيها جميع مظاهر القوة ولكنها تخلو من قِيَم القرية التي ذكرها السارد في أوّل القصّة كالمروءة والتعاون والتسامح ومساعدة الضعيف والعطف على المحتاج وإعانة الغريب، وهكذا أصبحت المدينة تتصف بالقسوة والجفاف لخلوها من تلك القيم الإنسانية.

وكما تضمّنت قصة جون أبدايك في خاتمتها تلميحاً لتشبيه بودلير المدينة بالعاهرة، فإن الجملة الختاميّة في قصة القاسمي، هي الأخرى، تتضمن تلميحاً. يقول السارد بعد أن رأى صاحب النُزل وقد مُسخ كلباً:

" فما كان منّي إلا أن أولّي هارباً من النُزُل والمدينة، تاركاً نعلَيّ خلفي، لأجري بأقصى ما استطعت في اتجاه القرية."

وتتضمّن هذه الجملة تلميحاً إلى قصة الزاهد أبي نصر بشر ابن الحارث الذي نزل إلى أحد أسواق بغداد، فصُعق بما رأى، فخلع نعليه ووضعهما تحت إبطه، وجرى حافياً في اتجاه البادية، فعُرف بعد هذه الحادثة بـ " بشر الحافي".

الخلاصة:
إنّ صورةَ المدينة في الأدب العربيّ وفي الآداب الغربيّة المعاصرة صورةٌ يشوبها كثير من التشوّهات والبقع والخطوط السوداء. ونتساءل ما إذا كان ذلك نتيجة لحنين الإنسان لموطنه الأوّل في الطبيعة ذات الهواء النقي والخضرة الشاسعة والمناظر الخلابة، التي كان يتجوّل فيها بحرية وطلاقة ملايين السنين قبل أن توجد المدينة منذ بضعة آلاف من الأعوام.

هل يعبّر الإنسان المثقّف عن كرهه للمدينة لأنّها حرمته من حريته الحقيقية ومنحته محلها حرية زائفة؟ أخذته المدينة من رحاب الطبيعة الواسعة الرائعة لتجعله أسير أسوارها العالية وجدرانها السميكة وشققها الضيّقة، ولِتُسمِّمه بتلوثها البيئيّ والأخلاقيّ. حرمته من استنشاق الهواء النقيّ لتخنقه بهواء مُلوَّث بدخان المصانع وعوادم السيّارات وبقايا المزابل. منعته من سماع تغريد البلابل وزقزقة العصافير وهديل الحمائم وخرير الجداول لتصمّ أذنيه بصخب دراجاتها الناريّة وسيّاراتها وقطاراتها وطائراتها، وهدير مصانعها وآلاتها، ودويّ إذاعاتها وفضائيّاتها، وضجيج ساحاتها وأسواقها المزدحمة.

هل يمكن أن نعدّ رفض الإنسان المُثقَّف للمدينة نوعاً من رفضه للمدنيّة الحديثة وقِيمها المُغرِقة في الماديّة التي حرمته من ممارسة إنسانيّته: لغةً ومشاعرَ وأحاسيس واحتياجات اجتماعيّة؟
لعل الحقيقة تكمن في شيء من هذا وذاك.


الهوامش:
1.    للتوسع في الموضوع، انظر:
مختار علي أبو غالي، المدينة في الشعر العربي المعاصر (الكويت: عالم المعرفة 196، 1995)

1.    Robert Drewe (ed.) The City (London: Penguin Books, 1998),P.4

1.    جون أبدايك ( 1932 ـ 2009 ) شاعر ورسّام وقصّاص وروائي وناقد. يعدّ أشهر أدباء أمريكا المعاصرين، وأغزرهم إنتاجاً، ونال جائزة البوليتزر مرتين. ولد في بلدةٍ في ولاية بنسلفانيا، ودرس الأدب في جامعة هارفرد الأمريكية، ودرس الرسم في مدينة أكسفورد. وعمل في جريدة " النيويوركي " مدة سنتين قبل أن يتفرغ للكتابة.

1.    علي القاسمي ( 1942 ـ ) كاتب عراقي مقيم في المغرب. تلقى تعليمه العالي في جامعاتٍ في بغداد وبيروت وأكسفورد وباريس وتكساس، وحصل على إجازة في الآداب وليسانس في الحقوق وماجستير في التربية ودكتوراه الفلسفة في علم اللغة التطبيقي. عمل في التعليم الجامعي والمنظمات الدولية ثلاثين عاماً قبل أن يتفرغ للكتابة.

1.    قصة " المدينة " لجون أبدايك مترجمة في:
على القاسمي، مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية (بيروت/ الدار البيضاء : إفريقيا الشرق، 2002) ص 109ـ130.

1.    قصة المدينة لعلي القاسمي موجودة في:
علي القاسمي، دوائر الأحزان ـ قصص قصيرة ـ (القاهرة: دار ميريت، 2005) ص 81ـ 88؛ الطبعة الثانية: (الدار البيضاء: دار الثقافة، 2009).

1.    على القاسمي، مرافئ على الشاطئ الآخر، مرجع سابق، ص 141.

مقالات ذات صلة