أصدقاء الدكتور علي القاسمي

قصة قصيرة / اللقاء

منذ عام كامل وهو يهاتفها كلَّ أسبوع، ليسألها عن أحوالها ويدعوها للقاء في عطلة نهاية الأسبوع. ولكنّها كانت تتهرَّب من ذلك اللقاء باختلاق العذر تلو الآخر: مرّة لديها امتحان في كلّيّتها، ومرّة لا بد أن تسافر لزيارة أهلها، ومرّة ستأتي أُمّها لرؤيتها، ومرة عليها أن تكتب رسالتها الجامعية. وفي كلّ مرّة يحتضن إحباطه وفشله معه إلى فراشه البارد، كما يحتضن الجريح جراحه،  ليحلم بأنوثة جسدها. لم يستطع النسيان.
رآها أول مرّة مصادفة في موقف للسيارات في إحدى باحات الاستراحة على الطريق السيّار. كان في تلك اللحظة يترجّل من سيارته أمام المقهى لينال قسطاً من الراحة ويتناول فنجان قهوة. وما إن فتح باب السيارة حتى كانت هي تهمّ بدخول سيارة مجاورة. فتريثت واقفةً حتى يخرج من سيارته. وعندما انتصب خارج سيارته وجد نفسه إزاءها وجهاً لوجه. التقت عيونهما فومض البرق، ودوى الرعد، وهطل الغيث. أحسّ فجأة بوجيبٍ في القلب، وارتعاشٍ في اليدين، وظمإٍ في الشفتين. غضّ من بصره، ولكنه سرعان ما عاد يتطلع إلى ذلك الوجه المشرق إشراقة شمس دافئة في يوم ممطر شديد البرد. وجه يجمع بين فتنة الأنوثة وبراءة الطفولة. وَجْهٌ اجتمع الحُسْن كلُّه فيه. له عينان نجلاوان يعلوهما حاجبان مقوسان مثل سيفين مُشهَرين، وخدان أسيلان التقت عليهما حمرة الخجل بتورُّد الشباب، وشفتان قرمزيتان ممتلئتان تزيدهما إغراء انفراجةٌ خفيفة كأنّها دعوة للتقبيل والضم. آسره قوامها الرشيق، وشعرُها المنسدلةُ خصلاتُه على كتفيها وظهرها، مثل سنابل الذهب المبتلّة. ابتسمتْ له ابتسامةً راضيةً فيها كثير من الحنان، ثم دخلت السيارة.
بدا له أن بعض ملامحها أليفة مأنوسة، وكأنّها وُشِمت في ذاكرته منذ القدم. لا بُدّ أنه رآها من قبل، أو رأى شبيهتها في الحُلم أو في ماضي الأيام أو في حياة سابقة، في مكان ما، في زمان ما، لا يدري أين ومتى، ولكنه شعر بأنها قريبة من روحه، حبيبة إلى قلبه.
وبجرأة لم يعتدها من قبل، وضع يده على حافة نافذة السيارة التي ركبتها. انحنى لينظر إليها مرة أخرى. طالعته وجوهُ أربع فتيات أخريات كلهن على درجة عالية من الملاحة والجاذبية، ولكنها كانت متألقة بينهن مثل قمر بين النجوم. جمّع شتات جرأته وشظايا صوته الهارب ليحيّهن ويدعوهن لتناول القهوة معه في مقهى الاستراحة. شكرته الفتاة التي كانت وراء المقود نيابة عنهن، واعتذرت بأدب قائلة إنهن استرحن فعلاً بعض الوقت وتناولن الشاي وعليهن مواصلة السفر إلى العاصمة حيث ترقد جدتهن في أحد مستشفياتها، وتخشى أن ينتهي وقت الزيارة إن لم يواصلن السفر حالاً. قال إنه متوجه كذلك إلى العاصمة حيث يسكن ويسعده أن يستضيفهن في مناسبة أخرى. ثم التفت إليها بالذات وطلب منها رقم هاتفها المحمول وسألها عن اسمها. فقالت : نجلاء، وأعطته رقم هاتفها. هي في مطلع ربيعها العشريني وهو في أواخر خريفه الخمسيني.
وهكذا ظلّ يهاتفها كلَّ أسبوع طوال عام كامل موجِّهاً إليها الدعوة لتأتي من المدينة التي تدرس فيها إلى العاصمة لتمضية عطلة نهاية الأسبوع معه. ولما لم تستجِب لدعواته المتكررة، انقطع عن مهاتفها. بيد أنه اندهش عندما أخذت هي تهاتفه بين الحين والآخر سائلة عن أحواله. وذات مكالمة هاتفية، لم يصدّق أُذنه عندما أخبرته أنها ستأتي لزيارته في عطلة جامعية وأنها ستمضي أربعة أيام في صحبته.
وصل ذلك المساء إلى محطة الحافلات قبل ساعة من موعد وصول الحافلة التي استقلتها.  ازداد قلبه خفقاناً واضطراباً عند اقتراب موعد وصولها. تأخرت الحافلة عن موعدها نصف ساعة. ما قيمة نصف ساعة من الانتظار بعد أن أمضى عاماً كاملاً في انتظار لقائها، عاماً كاملاً بشهوره وأسابيعه وأيامه وساعاته ودقائقه؟ هبطت من الحافلة مشرقة باسمة تماماً كما يراها في أحلامه. تعانقا. ساراً في اتجاه سيارته معاً بصمت تحت المطر المتساقط على المدينة الخافتة الأضواء. وضعت يدها تحت ذراعه كما لو كانت تعرفه منذ مدة طويلة.
اصطحبها لتناول العشاء في مطعم يطل على البحر. الفصل شتاء والسماء ممطرة والبرد شديد.  لم يكن في المطعم غيرهما. ومن خلال زجاج واجهة المطعم الواسعة المطلة على البحر راحا يشاهدان أمواجه الهائجة يتقدمها زَبَدُها الأبيض الذي يتحوّل إلى ستارة من الرذاذ حين تنتحر الأمواج على صخور الشاطئ. أنصتا بصمت إلى هدير البحر، وهما يتأملان أحدهما الآخر دون أن يتكلما. وعندما تلتقي عيونهما، يومض البرق ويدوي الرعد وتشتد زخّات المطر. لفتت انتباهها فراشةٌ صغيرة تحوم حول نور الشمعة المضاءة على مائدتهما، تبتعد عنه ثم تعود إليه وكأنها مشدودة بخيط لا مرئي. تابعت حركات الفراشة الصغيرة ثم سرّحت نظرها على أمواج البحر الداكنة المزينة بالزَبَد الأبيض.

قالت له وهما يتناولان الطعام دون أن تنظر إليه:
ـ أتدري أنني كنتُ قد قرأت بعض مجموعاتك الشعرية حتى قبل أن نلتقي في باحة الاستراحة في الطريق السيّار العامَ الماضي.؟ وبعد ذلك اللقاء، أخذت كثيراً ما أسهر مع نص من نصوصك الشعرية.
 لم يشأ أن يخبرها أنه، هو الآخر، كان يتذكّرها كلَّ ليلة منذ ذلك اليوم. عندما يأوي إلى فراشه بعد أن تُجهِده القراءة، يستولي خيالُها على حواسّه، تنتصب ملامحُ وجهها المُشرق أمام بصيرته، تندلق خارطة جسدها البضّ في عروقه وشرايينه، يحدّق في عينيها النجلاوين، يسهر معها، يحلم بها، يأرق لها، يتألم منها، ترتفع درجة حرارة جسده، يضطرب تفكيره، يصيبه الصداع والدوار والغثيان ويستحيل عليه النوم. لم يشأ أن يخبرها أن بعض قصائده هي وليدة ذلك الوجد والشجن والأسى والألم والمعاناة.

لم يشأ أن يخبرها بذلك، وإنما رفع رأسه، اصطنع ابتسامة ودود، وقال:
ـ أنا سعيد لأنك تقرأين أشعاري. كنتُ أظن أننا، نحن المبتلين بالأدب، نكتب دون أن يطّلع أحد على خربشاتنا. أو، على الأقل، هذا هو الانطباع الذي يوحي به إلينا الناشرون.

  راحت تتحدث وكأنها في حُلم:
ـ شِعرُكَ بحرٌ لا ساحل له ولا مرفأ، ولا حدود لأعماقه وأغواره، ولا مثيل لكنوزه ومكنونه. أقتربُ من شواطئه، فيسحرني في مدّه وجزره، يخدّرني بهديره المموسق، يشدّني إليه، يغمرني بدفقه، فأغوص فيه عارية من جميع أرديتي الزائفة وزعانفي المصطنعة. وهناك في مياهه الصافية الشفافة التي تصطخب فيها عوالم خلابة من الأحياء والمرجان، من الحركة والسكون، من النور والديجور، أجد فيه نفسي على حقيقتها، بكل ماضي خيباتها وآلامها، ومستقبل تطلعاتها وآمالها، ثم تنساب أمواج كلماتك دافقة دافئة إلى أقصى حنايا الروح لتشكّل أبعادي من جديد، وتلوّن أزاهير جُنينة القلب. كلّما قرأتُ نصّاً من نصوصك الشعرية، أحسست أنه يخصني، يخاطبني، يشرح أحاسيسي، يفسّر مواقفي، يعتذر عن بعض أفعالي، يعبر عن رؤاي وأحلامي.

 كان ينظر إليها بدهشة وتأثّر. قاوم دمعة ندم ترقرقت في عينه. قال بتواضع:
ـ بعض المُتلقّين يجدون أنفسهم في بعض ما يقرؤون. ولكنكِ، بجمالكِ الساحر وشخصيتكِ الجذابة، لا تختزلك قصيدة واحدة. إنك تستحقين مني ملحمة كاملة أو دواوين متعددة.
ـ شكراً ، بيد أنني يجب أن أحذّركَ من أن الثناء والمديح لا يفضيان بك إلى شيء معي. فأنا حُصن مُحكم الدفاعات، لا تنهدّ أسواره بفعل أمواج الإطراءات والإغراءات. ولكن أخبرني، من فضلكَ، من أين تستوحي إيقاعاتك الجميلة وصورك الشعرية الفذة؟

 صمت لحظة ورنا بعينيه بعيداً وطافت على وجه الظلال، ثم قال:
ـ بعض إيقاعاتي محاكاة للألحان التي كانت تعزفها ابنتي على البيانو، وكثيراً ما استعرتُ صُوَري الشعرية من رسوماتها ولوحاتها الزيتية. كانت في صباها منبهرة باكتشاف ماهية الأشياء حولها وحدود الآفاق.
ـ ما شاء الله. فابنتكَ موسيقية ورسّامة في آن واحد. لا بدّ أنك فخور بها. وكيف تأتّى لها ذلك؟
قال بشيء من الرضا والتواضع:
ـ لعلها موهوبة. إضافة إلى أنني تعهّدتُ بتربيتها وتنمية مواهبها بعد وفاة أمها وهي صغيرة.
ـ وأين هي الآن؟ هل لي أن أُسعَد بلقائها؟
ـ إنها تواصل دراستها العالية في أوربا وتأتي في عطلاتها الجامعية لرؤيتي.
               ترددتْ لحظة قبل أن تسأل:
ـ ألم تتزوج بعد وفاة المرحومة أمها؟
ـ لا، كنتُ أخشى أن يؤثّر زواجي على ابنتي بشكل أو بآخر.
ـ لا شك أنكَ تحبُّ ابنتَكَ كثيراً.
               قال ليغيّر الموضوع:
ـ والآن لنتحدّث عنكِ. كيف هي علاقتك بوالدكِ؟ هل أنتِ معجبة بأبيك ككل فتاة، أم أن بينكما نوعاً من صراع الأجيال؟
               قالت بشيء من الأسى والحسرة:
ـ غادرنا أبي وأنا صغيرة ليعيش مع امرأة أخرى. وبقيتُ مع أمي وأختي.
وأطرقتْ صامتة لحظة ثم أردفت هامسة:
ـ تمنيتُ لو كنتَ أنتَ والدي.

 حضر النادل وهو يحمل طبق الحلوى التي طلباها في آخر الوجبة.
 خرجا من المطعم، وضعت يدها حول خصره، سارا تحت الرَّذاذ المتساقط إلى موقف السيارات. اصطحبها بسيارته إلى منزله. ألْفَتْ نفسَها وحيدة معه في صالة الاستقبال في دارته التي تطلّ على البحر كذلك. جلسا قرب المدفأة. طلبت منه أن يُسمِعها بعض أشعاره، " أحب سماعها بصوتك وإلقائك". تلا بعض قصائده الغزلية التي تشوبها نغمة حزينة وتشي بشعور عميق بالوحدة وإحساس مأساوي بأسىً دفين. وعندما توقّف عن القراءة مُغمِضاً عينيه، أنشدت له بعض الأغاني المشهورة بصوتها الرخيم الذي تزيّنه بحة مميزة، وكأنها تريد أن تدخل الفرحة إلى قلبه، شاهدا بعض برامج التلفزيون وهو يضمّ يدها بين كفيه. أخذت تتثاءب. قال لها:
ـ يبدو أنه حان وقتُ نومك. وأنا أخيّرك بين أن تنامي وحدكِ في غرفة ابنتي في الطابق الأرضي، أو أن ترافقيني إلى غرفتي العُلوية فتمنحيني شيئاً من دفئكِِ.

 غضّت بصرها كما لو كانت تفكّر في الجواب. رفعت وجهها وتطلّعت إليه بعينين رامشتين، وقالت:
ـ هل تعِدني، إذا أتيتُ إلى غرفة نومك لأدفّأك، بأنك ستكتفي بإعطائي شيئاً من الحنان، لا غير.
 قال مازحاً:
ـ هل سمعتِ برَجُلٍ يشتعل رغبةً وشوقاً عاماً كاملاً ثم يفي بوعده لامرأةِ أحلامه بعد أن يُوصلها إلى فراشه؟ أم هل سمعتِ بحصانٍ يقتله الظمأ ثم يمتنع عن شرب الماء بعد أن يَرِده؟
ردّت مازحة:
ـ أَحْسَبُ أنّ الشعراء أرجحُ عقلاً من الخيول.
  قال وهو يُسمك بيدها:
ـ عندما تستعر الرغبةُ كالجمر يحترق العقل ويتلاشى.
 في فراشه، طوّقَتْه بذراعيها وضمّتْ صدرها الريّان إلى صدره. أحسّ بحرارة جسدها تسري في عروقه، وبأنفاسها الدافئة تطفو بنعومة على وجهه. وضع يده اليمنى تحت رقبتها وراحت يده اليسرى تمسّد شعرها الناعم بحنان. وظلا معتنقين صامتين وقتاً طويلاً وهو يواصل تمسيد خصلات شعرها الذهبي. تسرّب خدر لذيذ إلى عينيها، وأحسّت بارتخاء مريح في أطراف جسدها.. وانهارت كل دفاعاتها. أزال قميص النوم الوردي الذي كانت ترتديه، فظهرت له فتنة جسدها بكل أنوثته وشبابه وتضاريسه المثيرة. وبدت له مثل حصن ملئ بالمجوهرات، استسلم حرّاسه وكفّوا عن المقاومة، وبمقدور أيّ غازٍ أن يقتحم بابه المُشرَع بِفَرَسِه. وعندما هَمَّ هو بتوجيه جواده إلى الحُصن، لم يتمكَّن من التقدُّم، فقد تمثّلت له ابنته وهي نائمة بوداعة في السرير.  


مقالات ذات صلة