قصة قصيرة / رسالة إلى حبيبتي
حبيبتي !
لا شك أنك تتساءلين لِمَ غادرتُ قريتنا الصغيرة وأنتِ طريحة الفراش حبيسة الدار. ولا بُدّ أنكِ تسألين وتسألين لِمَ لا أعود إليكِ بعد كل هذه السنين الطويلة ! وإني لأتصور عينيك الوسنانتين تُلحفان بسؤال الأهل والأقرباء بصمت حزين، دون جواب. وإني لأتخيل شفتيك الذابلتين تهمسان بالسؤال تلو السؤال وكأنهما في صلاة ودعاء، دون مجيب. يا إلهي ما أشد حيرتك !
أحسب أنك تذكرين، يا حبيبتي، حين أخذ الوهن يسري في جسمك النحيل، وطفقت صفرة المرض تطرد حمرة الفتوة من خديك، كنت أجلس على طرف سريرك طوال النهار، أضمّ يديكِ إلى يديّ، وأسليكِ بحكاياتي، وأنشد أشعاري. وعندما تُغمضين عينيك في نوم لا يطول، كنت أسترسل في الدعاء والتوسل إلى الله، متشفعاً بجميع الرُّسل والأولياء، علّه يشفيك ويمنحك اللون والعافية، لنغدو معاً ـ كما كنا في طفولتنا ـ نسابق الفراشات الملوَّنة في المروج الخضراء، ونقطف الثمار في بساتين قريتنا الوديعة، ونحن ننصت إلى تغريد العنادل على الأشجار، وهديل الحمائم في أعشاشها، أو نسير على شاطئ النهر، ونحن نرمي الأحجار الصغيرة فيه، ونشاهد ما تحدثه في الماء من دوائر ودوائر وهي تكبر وتكبر. يا إلهي ما أسعد تلك الأيام !
وأحسب أنك تذكرين، يا حبيبتي، أَنَّني بعد أيامٍ من مرضك، نزلتُ عند نصيحة أهلي، وحملتك بين ضلوعي إلى عرّاف القرية. ورجوته، توسّلتُ به أن يشفيك. وأعطيته دجاجتي الوحيدة عربوناً، وحرّر لك بمداد أحمر تميمة طويلة، وضعتُها تحت وسادتك، كما أمر. ولكنَّ صحَّتك زادت سوءاً، وحالتك تردت شيئاً فشيئاً. وأشار عليّ بعض أهالي القرية من العارفين أن أعرضك على حكيمٍ عمّت شهرتُه الآفاق، يقطن في قريةٍ قريبةٍ لا تبعد كثيراً عن قريتنا. فتغيبت عن مدرستي، وحملتُكِ معي على جوادي، وانطلقتُ بك إليه. وبكيتُ بين يديه، وأنقدته كلَّ ما ادخرتُ، فوضع يده على جبينك الشاحب، وجسَّ نبضكِ وهو فاغر فاه رافع حاجبيه، ثمَّ شرع ينتقي لكِ بعض أعشابه من هنا وهناك، وأهداب عينيّ مشدودة إلى أطراف أصابعه، وعدتُ بكِِ إلى قريتنا. ولكن سرعان ما خبا أملي وتلاشى رجائي عندما تأكَّد لي أن بلسمه لا يشفي وأعشابه لا تُجدي. ورحتُ أبكي وأبكي كلما أغمضتِ عينيك، يا إلهي، ما أحزن تلك الساعات !
وفي صبيحةِ يومٍ من الأيام، دلفَ إلى قريتنا مع الربيع الباكر، رجلٌ قدِمَ من بعيد وهي يرتدي بذلةً لم نعهدها من قبل، ويمتطي عربةً لم نشاهد مثلها أبداً وإنما سمعنا عن سرعتها الخيالية وطاقتها المثالية. توقّف الرجل للاستراحة قبل أن يستأنف السفر. فاغتنمتُ الفرصة وتحدَّثتُ مُتلعثماً إليه، وسردت مُصيبتكِ ومصيبتي عليه. وبعد أن أطرق هنيهة، قال لي ونظراته تنفذ في أعماق عينيّ: " يا بُني، لن تشفى هذه الفتاة ، حتّى لو جلبت لها كلَّ تمائم العرافين، وجميع أعشاب العشّابين من قرى هذه البلاد كافة. إنْ أردتَ شفاءها حقّاً فعليكَ أن تسافر إلى بلادٍ نائيةٍ نجح فيها علماء أفذاذ في تركيب بلسمٍ مجرَّبٍ في مختبرات حديثة. وكيف لا أركب الخطر، وأهجر الأهل والأصحاب، من أجلكِ، يا أعزَّ الأحباب؟ ولهذا رحلتُ عنك ـ يا حبيبتي ـ قبيل الفجر، وجميعهم نائمون، لأنَّني لا أحتمل دموع الفراق في عينيكِ وعيون أُمّي والرفاق. يا إلهي، ما أهون الغالي وأرخص النفيس من أجل شفاء الحبيب !
وفعلتُ المستحيل... قطعتُ المحيطات. بلغت أقاصي الأرض. وصلتُ تلك البلاد الموصوفة. وبحثتُ فيها عن ذلك الدواء. وقيل لي: " يا فتى ! إنَّ الدواء الذي تطلب لا يعبّأ في قنينةٍ ليُشرب، ولا يُصاغ بأقراصٍ ليُبلغ، ولكنَّه من نوعٍ خاصٍّ، إنّه أقرب ما يكون إلى النور ينفذ في عينيكَ رويداً رويداً، ويتسرَّب إلى أذنيكَ شيئاً فشيئاً، ويتخلَّل فؤادَكَ، ويتشرَّب به دماغكَ، وهذا يتطلَّب سنواتٍ عديدةً. وعندما تعود إلى حبيبتكَ العليلة، تُطبقُ شفتيك على شفتيها، وتضع صدرك على صدرها حتى تُصبحا جسداً واحداً وروحاً واحدةً، وعند ذاك يسري البلسم منكَ إليها، وشيئاً فشيئاً تستعيدُ عيناها بريقَهما، ويسترجع خداها لونهما، وتتمكَّن أعضاؤها من النشاط والحركة. يا إلهي، يا له من دواء عجيب !
وفي ديار الغربة، يا حبيبتي، مزّقني الحنين وسهّدني الأنين. كنتُ أظنُّ أنَّ الأنين كالريح مع الوقت يهدأ، وكنتُّ أتوهَّم أنَّ الحنين كالجرح مع الأيام يبرأ، غير أن حنيني إليك كان كنارٍ تزداد اضطراماً، وكان أنيني في داخلي على قريتي كهديرِ البحر سرمدياً. وكم من مرَّةٍ راودتني رغبة العودة من حيث أتيتُ، فكنتُ أكظمها في أعماقي، كما أحبس الدمع في المآقي. وكيف أعود إليكِ خالي الوفاض صفر اليدين؟ وهكذا تحمَّلتُ صنوف الغربة، وقاسيت ألوان الوحدة، ووصلتُ الليل بالنهار في سبيل طلب ذلك البلسم الموصوف. انكببتُ عليه: لمستْهُ يداي، وشربتْهُ عيناي، وعانقتْهُ أذناي، واستنشقتْهُ رئتاي، ورتَّلتْهُ شفتاي؛ لاكه لساني، ومضغه فمي، ودهنتُ به جسدي، وحقنتُه في وريدي، وعببتُه عبّاً، لأحمل أكثر ما يمكنني حمله إليكِ، يحدوني الأمل بشفائك، ويشجعني الرجاء بسلامتكِ وهنائكِ. يا إلهي، ما أصعب تلك السنوات عملا وألذها أملا !
وحالما أخبرني الأطباء أنَّني أصبحتُ جاهزاً لنقل البلسم إليكِ، انطلقتُ في رحلة العودة على جناح الفرحة... ولكنّها فرحة لم تكتمل، فقد بلغني، يا حبيبتي، وأنا في منتصف الطريق، أنَّ قريتنا الوديعة هاجمها لصوص غريبو الشكل والأطوار، عيونهم سهام، وأصابعهم حراب، قتلوا الشبان، وسجنوا الشيوخ، وامتلكوا الديار، وأخذوكِ، يا حبيبتي، وسيّجوا القرية بالأسوار، وأوصدوا الأبواب، ولا سبيل للوصول إليك. فمكثتُ في منتصف الطريق انتظر الفرج. وما زلتُ أنتظر. يا إلهي، ما أمرَّ الانتظار!
لا شك أنك تتساءلين لِمَ غادرتُ قريتنا الصغيرة وأنتِ طريحة الفراش حبيسة الدار. ولا بُدّ أنكِ تسألين وتسألين لِمَ لا أعود إليكِ بعد كل هذه السنين الطويلة ! وإني لأتصور عينيك الوسنانتين تُلحفان بسؤال الأهل والأقرباء بصمت حزين، دون جواب. وإني لأتخيل شفتيك الذابلتين تهمسان بالسؤال تلو السؤال وكأنهما في صلاة ودعاء، دون مجيب. يا إلهي ما أشد حيرتك !
أحسب أنك تذكرين، يا حبيبتي، حين أخذ الوهن يسري في جسمك النحيل، وطفقت صفرة المرض تطرد حمرة الفتوة من خديك، كنت أجلس على طرف سريرك طوال النهار، أضمّ يديكِ إلى يديّ، وأسليكِ بحكاياتي، وأنشد أشعاري. وعندما تُغمضين عينيك في نوم لا يطول، كنت أسترسل في الدعاء والتوسل إلى الله، متشفعاً بجميع الرُّسل والأولياء، علّه يشفيك ويمنحك اللون والعافية، لنغدو معاً ـ كما كنا في طفولتنا ـ نسابق الفراشات الملوَّنة في المروج الخضراء، ونقطف الثمار في بساتين قريتنا الوديعة، ونحن ننصت إلى تغريد العنادل على الأشجار، وهديل الحمائم في أعشاشها، أو نسير على شاطئ النهر، ونحن نرمي الأحجار الصغيرة فيه، ونشاهد ما تحدثه في الماء من دوائر ودوائر وهي تكبر وتكبر. يا إلهي ما أسعد تلك الأيام !
وأحسب أنك تذكرين، يا حبيبتي، أَنَّني بعد أيامٍ من مرضك، نزلتُ عند نصيحة أهلي، وحملتك بين ضلوعي إلى عرّاف القرية. ورجوته، توسّلتُ به أن يشفيك. وأعطيته دجاجتي الوحيدة عربوناً، وحرّر لك بمداد أحمر تميمة طويلة، وضعتُها تحت وسادتك، كما أمر. ولكنَّ صحَّتك زادت سوءاً، وحالتك تردت شيئاً فشيئاً. وأشار عليّ بعض أهالي القرية من العارفين أن أعرضك على حكيمٍ عمّت شهرتُه الآفاق، يقطن في قريةٍ قريبةٍ لا تبعد كثيراً عن قريتنا. فتغيبت عن مدرستي، وحملتُكِ معي على جوادي، وانطلقتُ بك إليه. وبكيتُ بين يديه، وأنقدته كلَّ ما ادخرتُ، فوضع يده على جبينك الشاحب، وجسَّ نبضكِ وهو فاغر فاه رافع حاجبيه، ثمَّ شرع ينتقي لكِ بعض أعشابه من هنا وهناك، وأهداب عينيّ مشدودة إلى أطراف أصابعه، وعدتُ بكِِ إلى قريتنا. ولكن سرعان ما خبا أملي وتلاشى رجائي عندما تأكَّد لي أن بلسمه لا يشفي وأعشابه لا تُجدي. ورحتُ أبكي وأبكي كلما أغمضتِ عينيك، يا إلهي، ما أحزن تلك الساعات !
وفي صبيحةِ يومٍ من الأيام، دلفَ إلى قريتنا مع الربيع الباكر، رجلٌ قدِمَ من بعيد وهي يرتدي بذلةً لم نعهدها من قبل، ويمتطي عربةً لم نشاهد مثلها أبداً وإنما سمعنا عن سرعتها الخيالية وطاقتها المثالية. توقّف الرجل للاستراحة قبل أن يستأنف السفر. فاغتنمتُ الفرصة وتحدَّثتُ مُتلعثماً إليه، وسردت مُصيبتكِ ومصيبتي عليه. وبعد أن أطرق هنيهة، قال لي ونظراته تنفذ في أعماق عينيّ: " يا بُني، لن تشفى هذه الفتاة ، حتّى لو جلبت لها كلَّ تمائم العرافين، وجميع أعشاب العشّابين من قرى هذه البلاد كافة. إنْ أردتَ شفاءها حقّاً فعليكَ أن تسافر إلى بلادٍ نائيةٍ نجح فيها علماء أفذاذ في تركيب بلسمٍ مجرَّبٍ في مختبرات حديثة. وكيف لا أركب الخطر، وأهجر الأهل والأصحاب، من أجلكِ، يا أعزَّ الأحباب؟ ولهذا رحلتُ عنك ـ يا حبيبتي ـ قبيل الفجر، وجميعهم نائمون، لأنَّني لا أحتمل دموع الفراق في عينيكِ وعيون أُمّي والرفاق. يا إلهي، ما أهون الغالي وأرخص النفيس من أجل شفاء الحبيب !
وفعلتُ المستحيل... قطعتُ المحيطات. بلغت أقاصي الأرض. وصلتُ تلك البلاد الموصوفة. وبحثتُ فيها عن ذلك الدواء. وقيل لي: " يا فتى ! إنَّ الدواء الذي تطلب لا يعبّأ في قنينةٍ ليُشرب، ولا يُصاغ بأقراصٍ ليُبلغ، ولكنَّه من نوعٍ خاصٍّ، إنّه أقرب ما يكون إلى النور ينفذ في عينيكَ رويداً رويداً، ويتسرَّب إلى أذنيكَ شيئاً فشيئاً، ويتخلَّل فؤادَكَ، ويتشرَّب به دماغكَ، وهذا يتطلَّب سنواتٍ عديدةً. وعندما تعود إلى حبيبتكَ العليلة، تُطبقُ شفتيك على شفتيها، وتضع صدرك على صدرها حتى تُصبحا جسداً واحداً وروحاً واحدةً، وعند ذاك يسري البلسم منكَ إليها، وشيئاً فشيئاً تستعيدُ عيناها بريقَهما، ويسترجع خداها لونهما، وتتمكَّن أعضاؤها من النشاط والحركة. يا إلهي، يا له من دواء عجيب !
وفي ديار الغربة، يا حبيبتي، مزّقني الحنين وسهّدني الأنين. كنتُ أظنُّ أنَّ الأنين كالريح مع الوقت يهدأ، وكنتُّ أتوهَّم أنَّ الحنين كالجرح مع الأيام يبرأ، غير أن حنيني إليك كان كنارٍ تزداد اضطراماً، وكان أنيني في داخلي على قريتي كهديرِ البحر سرمدياً. وكم من مرَّةٍ راودتني رغبة العودة من حيث أتيتُ، فكنتُ أكظمها في أعماقي، كما أحبس الدمع في المآقي. وكيف أعود إليكِ خالي الوفاض صفر اليدين؟ وهكذا تحمَّلتُ صنوف الغربة، وقاسيت ألوان الوحدة، ووصلتُ الليل بالنهار في سبيل طلب ذلك البلسم الموصوف. انكببتُ عليه: لمستْهُ يداي، وشربتْهُ عيناي، وعانقتْهُ أذناي، واستنشقتْهُ رئتاي، ورتَّلتْهُ شفتاي؛ لاكه لساني، ومضغه فمي، ودهنتُ به جسدي، وحقنتُه في وريدي، وعببتُه عبّاً، لأحمل أكثر ما يمكنني حمله إليكِ، يحدوني الأمل بشفائك، ويشجعني الرجاء بسلامتكِ وهنائكِ. يا إلهي، ما أصعب تلك السنوات عملا وألذها أملا !
وحالما أخبرني الأطباء أنَّني أصبحتُ جاهزاً لنقل البلسم إليكِ، انطلقتُ في رحلة العودة على جناح الفرحة... ولكنّها فرحة لم تكتمل، فقد بلغني، يا حبيبتي، وأنا في منتصف الطريق، أنَّ قريتنا الوديعة هاجمها لصوص غريبو الشكل والأطوار، عيونهم سهام، وأصابعهم حراب، قتلوا الشبان، وسجنوا الشيوخ، وامتلكوا الديار، وأخذوكِ، يا حبيبتي، وسيّجوا القرية بالأسوار، وأوصدوا الأبواب، ولا سبيل للوصول إليك. فمكثتُ في منتصف الطريق انتظر الفرج. وما زلتُ أنتظر. يا إلهي، ما أمرَّ الانتظار!