لـــغـــة الإعــــلام العربــي وعرقلة التنمية البشرية
بسم الله الرحمن
الرحيم
مراكش في 8/2/2016
لـــغـــة
الإعــــلام العربــي
وعرقلة
التنمية البشرية
بقلم:
الدكتور علي القاسمي
1. مفاهيم وتعريفات أساسية:
1.1.
منظومة الثقافة:
تتألَّف منظومة الثقافة في المجتمع من عدّة أنظمة مترابطة
متكاملة في مقدمتها التربية والتعليم والإعلام. وللمنظومة والنظام، من حيث البنية،
مفهوم واحـد، فهما عبارة عن كُلٍّ مركبٍ من عناصر بينها علاقات تكاملية وتبادلية
التأثير، أي يؤثر بعضها في بعض، وتكوِّن وحدةً واحدة ذات حدود معينة، ولها وظيفةٌ
تؤدّيها وهدفٌ تحقِّقه(CEDIP, 1). بيد أن
(المنظمومة)، من الناحية الكمية أكبر من النظام، إذ إنها تضم عدة أنظمة.
وقد يتألف النظام، هو الآخر، من نظم صغيرة.
فالنظام التعليمي، مثلاً، يتكوَّن من نظام الإدارة ونظام المناهج ونظام
الامتحانات، إلخ..
وهناك
تصنيفات نوعية عديدة للأنظمة. فالنظام
يوصف بأنه نظام مفتوح إذا كان ذا صلة وثيقة بمجتمعه وبيئته ويتفاعل معهما، فيكون
قابلاً للمراجعة والتعديل والتطوير. ويوصف
النظام بأنه مغلق إذا كان لا يسمح بالتفاعل مع مجتمعه وبيئته وغير قابل للتغيير
والتطوير.
ومن ناحية أخرى، يصنّف النظام بأنه بشري (أي من
صنع البشر) أو طبيعي ( وُجِد بصورة طبيعية). فمنظومة الثقافة والأنظمة المكوِّنة
لها هي أنظمة بشرية من إنتاج الإنسان نفسه؛ والشجرة والأنهار والغابة الطبيعية هي أنظمة
طبيعية. ولكن عندما يقرر رجل إنشاء مزرعة من أشجار الزيتون، مثلاً، فإن هذه
المزرعة نظام بشري وإن كانت عناصره مؤلفة من أنظمة طبيعية. ومعروف أن الإنسان كان قديماً عنصراً من عناصر
الطبيعة، ثم انفصل عنها وأخذ يسخِّرها لمصلحته وترقية حياته بالثقافة.
وعلى الرغم من وجود مئات التعريفات للثقافة، فإنه " ينبغي أن يُنظر إليها بوصفها مجمل السمات المميزة، الروحية والمادية
والفكرية والعاطفية، التي يتصف بها مجتمع أو مجموعة اجتماعية وعلى أنها تشمل، إلى
جانب الفنون والآداب، طرائق الحياة، وأساليب العيش معاً، ونظم القيم، والتقاليد،
والمعتقدات." وهو التعريف الذي تبناه إعلان اليونسكو العالمي
للتنوع الثقافي عام 2001،( اليونسكو، 1).
1.2.
سمات النظام:
من
أبرز سمات النظام أو المنظومة ما يأتي:
أ ـ للمنظومة حدودٌ تميِّزها عن المحيط والبيئة
حولها.
ب ـ ومع ذلك، فإن المنظومة لا
تستطيع أن تكون خارج بيئتها بالمرة، فهي مرتبطة بها من خلال علاقات تبادلية.
ج ـ تتميَّز الأنظمة التي تتكوَّن
منها المنظومة، بعضها عن بعض، بالوظائف التي تؤديها والأهداف التي تتوخّاها، على
الرغم من الترابط والتكامل بينها.
د ـ إن فحص أي نظام من أنظمة
المنظومة لا يتم بمعزل عن الأنظمة الأخرى، بسبب وجود العلاقات التكاملية
والتبادلية بينها. فإذا فحصنا تأثير أ في ب، ينبغي كذلك فحص تأثير ب في أ.
هـ ـ تخضع العلاقات التبادلية
والتكاملية بين أنظمة المنظومة لقوانين منطقية ورياضية يمكن التوصل إليها من طريقة
عمل المنظومة ونوعية العناصر المكوِّنة لها.
و ـ تتميز المنظومة المفتوحة
بقابليتها للمراجعة والتعديل والتطوير.
1.3.
أسلوب تحليل النظم:
يمكن
دراسة أي نظام أو أية منظومة بأسلوب تحليل النظم، الذي كان في الأصل أسلوباً
مستخدماً في فحص المعدّات الهندسية المعقَّدة، ثم أصبح يُستعمَل في فحص الأنظمة في
مجالات مختلفة مثل فحص الكائن الحي، وفحص المؤسَّسات الاجتماعية، وفحص النظم
الإلكترونية، وغيرها. ويُستخدَم هذا الأسلوب لحلِّ مشكلةٍ ما تطرأ على النظام، عن
طريق تجزئة النظام إلى العناصر المكوِّنة له، ودراسة عمل كل عنصر على حدة، لمعرفة
مدى تفاعله مع العناصر الأخرى. وغاية هذا الأسلوب تحسين أداء النظام ليكون أكثر فاعلية وأكبر
مردوداً.
فأسلوب " تحليل النظم" يساعدنا
على التأكّد من أمور ثلاثة:
أ ـ قدرة كل عنصر من عناصر النظام
( أو كل نظام من أنظمة المنظومة) على ممارسة وظيفته والقيام بواجباته.
ب ـ مدى الترابط والتفاعل بين
عناصر النظام ( أو بين أنظمة المنظومة).
ج ـ إمكان بلوغ كلّ عنصر الأهداف التي يتوخاها، وبالتالي قدرة المنظومة على تحقيق
غاياتها.
وهكذا يساعدنا أسلوب تحليل النظم على الوقوف على مكمن
الخلل لتصحيحه أو موضع النقص لإكماله باقتراح نظام أفضل (EGCSE
ICT, 3).
2.
النظام الإعلامي في البلدان العربية:
في
ضوء ما تقدم، سنقوم بدراسة النظام الإعلامي في البلدان العربية للوقوف على نقاط
القوة والضعف فيه ومدى تفاعله مع بقية عناصر منظومة الثقافة وقدرته على تحقيق
الأهداف المرسومة.
2.1.
مفهوم وسائل الإعلام:
وسائل الإعلام هي أدوات تقنية
تُستخدم للاتصال بالناس بواسطة اللغة، وتزويدهم بالمعلومات والأخبار والأفكار لتحقيق أهداف معينة. ويُطلق مصطلح "وسائل
الإعلام"، كما جرت العادة، على الصحف والمسرح والراديو والسينما والتلفزيون
والشابكة (الإنترنت). بيد أننا نميل إلى توسيع هذا المفهوم ليشمل جميع الملصقات
واللافتات في الشوارع التي تشتمل على إعلانات رسمية أو غير رسمية وعلى إشهارات
البضائع والمواد الاستهلاكية. وتشمل وسائل الإعلام، في نظرنا، كذلك لافتات أسماء
الشوارع والمحلات التجارية والمؤسّسات المتنوعة. ويتسع هذا المصطلح ليضم الإعلانات
الصوتية أو اللوائح المكتوبة التي تبين مواعيد وصول الطائرات والسفن والقطارات
والحافلات في المطارات والموانئ ومحطات القطار وجميع محطات النقل الأخرى. ولا
نتردد في اعتبار الإرشادات المصاحبة للأدوية والمنتجات الأخرى التي تبين كيفية
استعمالها، من وسائل الإعلام كذلك. وبعبارة أخرى، فإن جميع الوسائل التي تزود
الإنسان بمعلومات، سواء كانت تلك الوسائل مقروءة أو مسموعة أو مرئية، هي من وسائل
الإعلام. ومن عبقرية اللغة العربية، إن ألفاظ (إعلام) و (معلومات) و (علم) مشتقة
من جذر واحد وبينها صلة قرابة لفظية ودلالية.
2.2.
وظائف وسائل الإعلام:
يُسمى
العصر الحاضر أحياناً بعصر الاتصال والإعلام، نظراً لتعدُّد وسائل الاتصال
والإعلام، وتنوُّع الطرائق والأساليب التي تنتهجها، وازدياد تأثيرها على المتلقين،
واستحواذها على أوقاتهم، والاستئثار بجل اهتمامهم. فقد أصبحت وسائل الإعلام مؤسَّسة اجتماعية كالأسرة والمدرسة، بل
تفوقهما تأثيراً، بفضل تقنياتها وجاذبيتها، وبفضل الساعات الطويلة التي يمضيها
الأفراد برفقتها؛ إذ تشير الإحصائيات إلى أن الفرد العادي يمضي ما معدله (2.5)
ساعتين ونصف ساعة كلَّ يوم أمام شاشة التلفزيون، وأن التلاميذ يجلسون أمام شاشات
التلفزيون أكثر من جلوسهم أمام معلِّميهم في صفوف المدرسة. فعندما ينهي التلميذ
دراسته الثانوية يكون قد أمضى 20.000 ساعة أمام التلفزيون في مقابل 15.000 ساعة في
المدرسة ( بلغيت، 2).
ولهذا كلِّه، فإن معظم الدول المتقدِّمة وجلّ الباحثين
الإعلاميّين يرسمون وظائف جليلة وأهدافاً كثيرة للإعلام، يمكن إجمالها في ما يأتي:
أ ـ الإدماج
والتماسك الاجتماعي:
فوسائل الإعلام تقوم بوظيفة وطنية هي إيجاد التجانس
الفكري والمشاركة الوجدانية بين أبناء الوطن الواحد، ما يؤدي إلى التماسك
الاجتماعي وإرساء السلم الأهلي. ويؤدي الإعلام هذه الوظيفة الخطيرة باستخدام ثلاث
وسائل أساسية في برامجه:
الأولى،
اللغة المشتركة:
اللغة هي العامل الأساس في استمرار المجتمع، وتماسك
شرائحه، ووحدة أهدافه، وتماثل قيمه، وتقارُب تفسيره للرموز، وتشابه تقطيعه لعناصر
الوجود، وتكوين الوعي الاجتماعي، وبروز رأي عام موحد. وكلّما تقاربت المستويات
اللغوية في المجتمع تمتّن تماسكه واندماجه بصورة سليمة، وكلما تباعدت المستويات
اللغوية، ازداد تفككه وانحلاله (شحرور، 1)
قد لا تكون اللغة الوطنية المشتركة هي اللغة الوحيدة في
البلاد، ولكنها هي اللغة الموحِّدة للسكان على اختلاف لهجاتهم الاجتماعية والمحلية.
وباستخدام اللغة الفصيحة، يعمل الإعلام على تقريب اللهجات المختلفة من اللغة
المعيارية التي تحمل في ألفاظها وتراكيبها ثقافة معينة، وطريقة تفكير متميزة،
فتؤدي إلى اكتساب المواطنين هُويّة وطنية متفرِّدة تعمل على تمتين التماسك
الاجتماعي وإرساء السلم الأهلي.
الثانية،
التراث:
يمثل التراث، وهو الإرث الفكري الذي ما يزال فاعلاً في
الثقافة السائدة، تراكماً ثقافياَ
وحضارياً ينتقل عبر الأجيال عن طريق اللغة والمحاكاة والتقليد. ولهذا فإن الإعلام
يستخدم التراث في برامجه ليغرس في نفوس المواطنين شعوراً بالانتماء إليه والاعتزاز
به، ما يعضد التماسك الاجتماعي بينهم.
الثالثة،
القيم:
القيم هي تصورات ومفاهيم تحدّد ما هو مُستحسَن وما هو مُستقبَح
اجتماعياً. وهذه القيم مترابطة وتُرتَّب هرمياً في سلّم من حيث أهميتها. وفي
بلادنا العربية تُستمَد هذه القيم من الدين الإسلامي الحنيف، وتدعم الهُويّة
الوطنية المشتركة. وعندما ينشر الإعلام هذه القيم في برامجه، فإنه يعمل على تعضيد
النظام التربوي، وتقارب المواطنين في رؤاهم وتوجهاتهم السلوكية.
ب ـ الإخبار:
من وظائف الإعلام تزويد مستقبليه بالأخبار التي تجري في
بلده وفي العالم. ومعروف أن صياغة الخبر قد لا تكون موضوعية محايدة تماماً، ومن
هنا يستطيع الإعلام أن يكوّن الآراء والاتجاهات والمواقف لدى المواطنين. ويفترض في
الإعلام أن يستطلع بوادر المخاطر المستقبلية مثل إرهاصات الكساد الاقتصادي،
والأضرار التي تحيق بالبيئة، فيوجِّه الانتباه إليها. كما يكون وسيلةَ رقابةٍ لكشف
الفساد وإساءة استعمال السلطة، لتعمل الدولة على تقويم هذه الظواهر قبل استفحالها.
ج ـ
التعليم:
يقوم الإعلام بدعم النظام التعليمي عن طريق تقديم برامج
تعزِّز ما يتعلَّمه التلميذ في المدرسة إضافة إلى تزويدهم بمهارات جديدة وإطلاعهم
على المستجدات العلمية والتقنية، بواسطة برامج ظاهرها ترفيهي، ومضمونها معرفي
تعليمي عميق.
د ـ
الترفيه:
تقوم
وسائل الإعلام بدور ترفيهي لتخفيف الضغوط النفسية والتوتر عن طريق بث برامج ثقافية
متنوعة كالموسيقى والغناء والمباريات الرياضية والطبخ، وغيرها.
هـ ـ التنمية البشرية:
نظراً لقدرة وسائل الإعلام على الوصول إلى أوسع الجماهير
فإنها تكون عاملاً فاعلاً في نشر المعرفة وتكوين "مجتمع المعرفة"
القادر على تحقيق التنمية البشرية في البلاد، فلا تبقى المعرفة محصورة في المؤسَّسات
المدرسية والجامعية والبحثية. وهكذا
يتفاعل النظام الإعلامي مع النظامين التربوي والتعليمي في تحقيق التنمية البشرية (
القاسمي، 207 ـ 213).
وفي وسعنا أن نلخص وظائف الإعلام التي ذكرناها في ثلاث
وظائف رئيسة هي:
ـ وظيفة
تربوية، في التعريف بثقافة الأمة وتراثها وثوابتها وقيمها،
ـ وظيفة
معرفية، في نشر المعارف والعلوم وتكوين وجهات النظر،
ـ وظيفة
تنبؤية ، في توقُّع ما سيحصل في المستقبل، وكيفية مواجهته.
3. النظام الإعلامي
العربي:
ليس
في الإمكان فحص النظام الإعلامي العربي بصورة ناجعة دون النظر إلى عنصريه
الأساسيين: المضمون، واللغة.
3.1.
مضمون الإعلام العربي:
عند
النظر في مضامين الإعلام العربي الرئيسة خلال السنوات السبعين الماضية، أي منذ
استقلال البلدان العربية تقريباً، يتبين
لنا ما يأتي:
أ ـ
إن الإعلام العربي، شأنه شأن الإعلام في البلدان النامية، يعتمد بصورة أساسية على
المادة التي تأتيه من وكالات الأنباء الغربية. فحوالي 80% من أخبار العالم ترد من 5
وكالات غربية هي: رويتر البريطانية، ووكالة الصحافة الفرنسية، ووكالتي أسوشيتد برس
ويونايتد برس الأمريكيتين، ووكالة تاس الروسية. وهذه الوكالات لا تخصص من مساحتها
الإخبارية إلا ما تتراوح نسبته بين 10 إلى
30 بالمائة لأخبار الدول النامية. وعادة ما تعرض فيها الجوانب السلبية، كأخبار
الكوارث الطبيعية، والاضطرابات الاجتماعية، والحروب الأهلية، وما إلى ذلك (طاش،
1).
ولم تقتصر تبعية الإعلام العربي
للإعلام الغربي على اعتماده على التقنيات الغربية، وتقليد الإعلام الغربي في تسيير
البنيات الأساسية فحسب، بل عمد كذلك إلى استيراد البرامج الإعلامية الغربية، وهي
في معظمها تحمل قيماً وتقاليد مخالفة لقيمنا وأعرافنا. وهكذا تسرَّبت إلينا مصطلحات
غربية تروّج مفاهيم ليست في صالح البلدان العربية. ومن أمثلة ذلك أن الإعلام
العربي قبل قيام الكيان الصهيوني كان يستخدم مصطلح ( الوطن العربي) و (الأمة
العربية). ثم روّج الإعلام الأمريكي مصطلح ( الشرق الأوسط) و ( الشرق الأوسط
الجديد)، فسارع الإعلام العربي إلى تبنيهما وإشاعتهما دون تمحيص، فهذا المصطلح
يسوّق فكرة التخلي عن الهُوية العربية الإسلامية لهذه البلدان العربية.
ب ـ هيمنت الأنظمة الشمولية في
البلدان العربية على الحياة الاجتماعية، وعملت بشتى الطرق لفرض القيود على حرِّية
الإعلاميين، واحتكار الإعلام لدعم سلطتها
وترسيخها وتوسيعها، ومصادرة حق حرية التعبير المنصوص عليه في دساتيرها وفي الشريعة
الإسلامية وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. صحيح أنه لا يوجد إعلام حرّ في
العالم اليوم، لأن كلَّ إعلام هو نشاط إنساني له انتماء محدَّد ويعبر عن مصالح
الجماعة التي أنشأته؛ بيدَ أن "حرّية الإعلام" هي حرّية نسبية ترتبط
بطبيعة النظام السياسي القائم في البلاد.
ج ـ اتجه الإعلام العربي
تدريجياً، وطبقاً لتخطيطٍ واعٍ، على قصر وظيفته على الأخبار التي تمجّد النظام
الشمولي وتحبّب توجهاته وتبرر إجراءاته، وعلى الترفيه المتمثل في الأغاني الخفيفة،
والرقص الهابط، والرياضة، والشعوذة. واستبعد من برامجه الموادَ الثقافية الجادة،
فنادراً ما تجد مثلاً قراءة في كتاب، أو برنامجاً علمياً أو تقنياً.
يبلغ عدد الهيئات العربية التي
تبث قنوات فضائية، 758 هيئة، منها 29 هيئة رسمية ، و729 هيئة خاصة. وتتولى هذه
الهيئات بث أو إعادة بث 1294 قناة
فضائية ( اتحاد الإذاعات، 12). ولكن الدول العربية التي تمارس فيها هذه الهيئات
نشاطها، لا تُخضعها لشروط البث من حيث
اللغة أو المضمون، بحجة " الإعلام الحر". فأنت لا تعثر في هذه القنوات
الفضائية على فضائية تسمي نفسها " ثقافية"، سوى عدد محدود لا يتجاوز
أصابع اليد الواحدة. ولكنك، في المقابل، تجد عشرات، إن لم نقل المئات ، من
الفضائيات الرياضية والغنائية وما إليها. والنزر اليسير منها يلتزم بلغة عربية
فصيحة. (قارن مثلاً الوضع في كوريا التي حققت أعلى درجات التنمية البشرية، ففيها
حوالي 101 قناة كلها خاصة ما عدا واحدة رسمية. ولكن جميع القنوات ملزمة بالبث
باللغة الكورية المعيارية المشتركة).
د ـ إن كثيراً من الفضائيات
الدينية وغير الدينية تبث برامج حوارية حول قضايا أكل عليها الدهر وشرب، وتنحصر
غايتها المشبوهة في إثارة النعرات العرقية أو الطائفية أو اللغوية، وتأجيج
الكراهية بين شرائح المجتمع، بدلاً من نشر
التسامح والإخاء والإدماج الاجتماعي والهُويّة الوطنية المشتركة، ودون أن تخضع تلك البرامج لرقابة الدولة أو
ضوابطها، بحجة حرية الإعلام.
3.2.
لغة الإعلام العربي:
تعد
الصحافة أولى وسائل الإعلام الحديثة الرئيسة التي دخلت البلاد العربية. وقد
استخدمها روّاد النهضة العربية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع
الأول من القرن العشرين، لبث الوعي الوطني والقومي في جميع أنحاء الوطن العربي على
الرغم من تفشي الأمية وتعدّد الاستعمارات ( العثمانية، والبريطانية، والفرنسية)
فيه آنذاك. ولهذا حرص الروّاد على استخدام اللغة العربية الفصيحة المشتركة. وقد
أغنت الصحافةُ اللغةَ العربيةَ بمصطلحات وتراكيب جديدة. وعندما دخلت الإذاعات
البلدان العربية في النصف الأول من القرن العشرين، كانت اللغة الغالبة فيها هي
اللغة العربية الفصيحة المشتركة، ولم تُستعمل اللغة الأجنبية ولا اللهجة العامية
التي كانت تقتصر على بعض الأغاني وبعض المسرحيات الإذاعية.
إن
انتشار العامية في الإعلام العربي اليوم يثير في الذهن ثلاث مفارقات مضحكة مبكية
في آن، وهي:
الأولى، إن اللغة العربية الفصحى كانت مستعملة في الإعلام زمن الاستعمار، وبعد
الاستقلال اتجه الإعلام إلى ترسيخ العامية، (الإسماعيلي، 1).
الثانية، بعد مضي حوالي قرن من
الزمن على نشوء الإعلام العربي، وانتشار المدارس والجامعات، وانحسار الأمية إلى
نسبة 30 بالمائة، فإن إذاعاتنا وقنوات التلفزة العربية اتجهت إلى تقليص اللغة
العربية الفصيحة المشتركة وزيادة المساحة البرامجية للهجات المحلية والجهوية، بحجة
تلبية احتياجات المتلقين وجذب مزيد من الجماهير (هويدي، 1)، أو تعميم لهجة البلد
التي راحوا يسمونها باللغة الوطنية ( المصرية أو العراقية أو التونسية، إلخ.).
الثالثة: إن الإعلام العربي يغلّب
العامية على حين أن الإعلام الأجنبي يلتزم بالعربية الفصيحة المشتركة. فهناك حوالي
سبعين محطة أجنبية تبث باللغة العربية الفصحى، مثل بي بي سي البريطانية، وفرانس 24
الفرنسية، وسي أن أن الأمريكية. ويتساءل المرء لماذا تبث هذه الدول، وهي ليست
حريصة على وحدة الوطن العربي، بالعربية الفصيحة المشتركة؟
قد يتبادر للمرء أول وهلة أنها
مضطرة للبث بلغة واحدة بدلاً من لهجات متعددة لأسباب مالية وتقنية. ولكن الحقيقة
أن التقنيات الحديثة أصبحت تتغلب على هذه الصعوبة بسهولة تامة. أحسب أن السبب يكمن في أن المستمع العربي، حتى
الأميّ، يحترم البث الإذاعي والتلفزيوني ويتقبله، لا بفضل مصداقية الأخبار وقيمة
البرامج فحسب، بل بفضل رقي اللغة المستعملة كذلك، فهو يحترم ما يُقال باللغة
العربية الفصيحة ويصدّقه، لأنها لغة راقية ولها صبغة مقدّسة. وقد دلت الإحصائيات والاستطلاعات
الإٌعلامية أن معظم العرب يفضلون الإذاعات والتلفزيونات التي تبث بالعربية
الفصيحة على تلك التي تكثر من العامية (
المعوش، 7).
ومن
يلقي نظرة فاحصة على لغة وسائل الإعلام في الوطن العربي يجد ثلاث لغات مستعملة
فيها هي:
أ ـ
لغة المستعمِر القديم :
إن كثيراً
من الإذاعات والقنوات التلفزيونية العربية تبث برامج عديدة بلغة المستعمِر القديم
( الإنكليزية في المشرق " العربي" أو الفرنسية في المغرب "
العربي")، على الرغم من أن هذه البرامج موجهة لجمهور عربي. وقد أجازت السلطات إنشاء إذاعات وقنوات
تلفزيونية للبث بالفرنسية أو بالإنكليزية وهي موجهة للمواطنين العرب.
ففي بلدان المشرق العربي، انتشرت الفضائيات التي تبث
الأفلام الأمريكية التي تسطح عقل المشاهد، وتشجع على العنف والجريمة، وتنشر القيم
الأمريكية المنافية لأخلاقنا وتقاليدنا. وفي بلدان المغرب العربي، انتشرت الإذاعات
الخاصة الجهوية (المحلية) التي تبث باللغة الفرنسية أو بخليط هجين من الفرنسية
الفصيحة والعربية العامية الدارجة.
يقول
اللساني الدكتور محمد الينبعي: " إن هذه الإذاعات الخاصة تفتخر بإعلان
تبعيتها للغة والثقافة الفرنسيتين انطلاقاً من لغة الحديث والحوار والاختيارات
الغنائية، ومروراً بنقل عدد من البرامج مباشرةً من إذاعات فرنسية، وانتهاء بتغطية
الحياة الفنية والإعلامية بفرنسا دون ذكر اسم هذا البلد، وكأن المستمع المتابع
يقطن بإحدى المدن أو القرى الفرنسية..." ( الينبعي، 89).
وراحت
الإذاعات والقنوات التلفزيونية العربية التي تبث بالعربية فقط، تقحم كلمات
إنجليزية أو فرنسية بلا داعٍ ولا سبب ظاهر. فالتلفزيون العراقي الرسمي، يقدم نشرة
أخباره بعنوان ( العراقية News ) وكأن المستمع العراقي لا يفهم كلمة (أخبار). وأشهر
مسابقة تقدمها أحدى المحطات التلفزيونية ومقدار جائزتها مليونا دولار أمريكي، وهي
مسابقة ريعية لا تتطلب أي مجهود لغوي أو علمي أو ثقافي ولا تستلزم أية مهارة: فقط أرسل رقم هاتفك مع كلمة (حلم) أو (Dream ) أو (Rêve )، وكأن الكلمة العربية
(حلم) وحدها لا تكفي، أو أنها دعوة لهذا العربي لتعلّم الإنكليزية أو الفرنسية.
وبرنامج اكتشاف المواهب الغنائية لدى الأطفال العرب في تلفزيون ( أم بي سي مصر) يجري
باللغة العربية وموجَّه للمشاهد العربي، ولكن
عنوانه ( The Voice Kids ). هل هذه مصادفة أو موضة
إعلامية أو ماذا؟ فهي فريدة لا نظير لها في احتقار اللغة الوطنية وإذلالها في عقر
دارها.
وإذا
تجوَّل سائح في شوارع إحدى العواصم العربية، فإنه سيلاحظ أن الأغلبية الساحقة من
لافتات أسماء المحلات التجارية مكتوبة باللغة الإنكليزية أو الفرنسية، حتى ليخال
إليه أنه في بلدة بإحدى المستعمرات البريطانية أو الفرنسية. وقد أخذت المطاعم والمقاهي " الراقية"
في العواصم العربية تقدّم قوائم الأطعمة والمشروبات باللغة الإنكليزية أو الفرنسية
فقط، تعبيراً عن احتقارها للمواطن العربي ولغته الوطنية الرسمية.
وكثيراً
ما يشتري المواطن العربي الدواء من صيدلية في بلدته، ليفاجئ بأن إرشادات الدواء
مكتوبة بالفرنسية أو الإنجليزية، وليس ثمة ترجمة عربية لها. فهل هذا يعني أن حياة
هذا المواطن العربي لا قيمة لها ما لم يتقن لغة المستعمِر القديم لدرجة تؤهله فهم
اللغة الطبية والصيدلية المتخصصة؟
ب ـ اللغة العامية الدارجة:
من
المعروف أن اللغات الكبرى كالإنجليزية والفرنسية والعربية، لها مستويان: المستوى
الفصيح الذي يُستخدم في التواصل الثقافي والعلمي والتجاري، والمستوى الدارج المستعمل في الحياة اليومية.
والمستوى الدارج هو تحريف للفصيح، وهو محدود في مفرداته وتراكيبه، مختزل في قواعده،
ولا يصلح للتحليل المنطقي والتفكير العلمي. وعندما تنتشر الثقافة والتعليم
والقراءة في المجتمع، يتقارب المستويان حتى يسود المستوى الفصيح. وتزداد الهوة ويتسع
الفارق بينهما بتفشي الأمية والجهل. وكلتا الحالتين نتيجة طبيعية للسياسة اللغوية
التي تضعها وتطبقها الدولة.
ومن
أشهر الأمثلة على السياسات اللغوية الناجحة في ترقية لغة المواطن وفكره، السياسة
اللغوية في ألمانيا. فقد كانت ألمانيا في أوائل القرن التاسع عشر مكوّنة من 38
ولاية يربط بينها حلف رخو وتتكلم ثلاث لهجات ذات أصل ألماني. فعمل اللغويون
والمثقفون على نشر لغة ألمانية معيارية مشتركة تلبية لرغبة الألمان في إنشاء اتحاد
ألماني واحد. وتمكَّن اللغويون من وضع قواعد اللغة الألمانية المعيارية المشتركة
في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وعندما تحقق الاتحاد الألماني سنة 1871على يد
بسمارك زعيم ولاية بروسيا المحنك، اتبعت الدولة الألمانية سياسة لغوية تعتمد استعمال
اللغة الألمانية المعيارية المشتركة في التعليم والإعلام وجميع مرافق الحياة.، حتى
أصبحت الغالبية الساحقة من الألمان اليوم تستعمل هذه اللغة المشتركة، وقلما تُسمَع
اللهجات، مع أن " اللغة الألمانية المعيارية المشتركة لم تتطور من لهجة منطقة
واحدة، وإنما اصطنعها الشعراء والفلاسفة والباحثون" (Deutsch Learnen
).
أما السياسة اللغوية التي تسير
عليها الدول العربية في الإعلام، فترمي إلى التخلي عن اللغة العربية الفصيحة المشتركة
وإحلال اللهجات العامية محلها. وقد أخذ هذا التوجه في الجلاء والوضوح بعد أن قامت
وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندليزا رايس بجولاتها المكوكية في البلدان
العربية سنتي 2005 و2006 وأطلقت من تل أبيب دعوتها لإيجاد " شرق أوسط
جديد" عن طريق " الفوضى الخلاقة" التي تؤدي إلى تقسيم المقسَّم
وتجزئة المجزئ. وعند ذاك هبّت الدول العربية هبة رجل واحد لتحقيق غايات المشروع
الجديد وذلك بتهيئة الأسس اللغوية اللازمة لتحقيقه، فأنشأت محطات إذاعة وتلفزة
أهلية حرة تعتمد، في الأساس، اللهجة العامية في برامجها حتى في نشرات الأخبار،
بحيث ينطبق عليها قوله تعالى: " يخرِّبون بيوتهم بأيديهم"، وراح بعض
رجال الدين في وسائل الإعلام يستخدمون العامية في تفسير القرآن الكريم، واخذ كثير
من المسئولين يدلون بتصريحاتهم باللهجات الدارجة. ومن الأمثلة على ذلك أن
صحفياً أديباً نقل تصريحات رئيس الحكومة المغربية، عبد الإله بنكيران، وهو رئيس
حزبٍ إسلاميِّ المرجعية، حول مشروعٍ قدّمه إلى البرلمان، فقال الصحفي: "... مضيفاً
بلغة الأم الدارجة المغربية الفصيحة: وغادي يدوز
إن شاء الله هاد العام..." ( رحمون).
وحتى في الصحافة المكتوبة، نجد
أن العاميات قد حققت تقدُّما ملحوظا. ففي بعض البلدان العربية صدرت صحف أسبوعية
ويومية بخليط من العربية واللهجة الدارجة لذلك البلد مثل جريدة ( نيشان) المغربية الأسبوعية.
وخصصت صحف عربية أخرى صفحات كاملة للشعر النبطي أو العامي، أو صفحات للرسوم
الكاريكاتورية مع تعليقات بالعامية. كما لا تتردد الصحف العربية في نشر إعلانات
وإشهارات إدارية وتجارية باللغة الأجنبية أو بالعامية الدارجة. إضافة إلى ذلك، فإن
صحفنا العربية قد لا توظّف مدققاً لغوياً أو مصححاً مطبعياً فتطلع على القراء
بصنوفٍ من الأخطاء المطبعية والإملائية والنحوية واللغوية.
ج ــ اللغة العربية الفصيحة:
انحسر استعمال اللغة العربية
الفصيحة في وسائل الإعلام، حتى كاد ينحصر في إذاعة نشرات الأخبار، والتعليقات التي
تبرر سياسات الأنظمة الشمولية وتوجهاتها. يقول الدكتور سالم المعوش في دراسة
إحصائية عن اللغة العربية في وسائل الإعلام:
" وتنفرد البرامج
الإخبارية في المرئي والمسموع اللبناني بأنها تترك واحات صغيرة للفصحى لا يتعدى
نطاقها الدقائق... وتتجلى أزمة استعمال اللغة العربية أكثر ما تتجلى في الإعلانات
التي تترامى إلى الأسماع وتعانقها الأبصار. إن من يتابع الإذاعات العربية كلها، لا
يقع إلا فيما ندر على إعلان بالفصحى، وإذا وجد فإنه لا يزيد عن 1 % " (المعوش)
اللغة الفصحى، أية لغة فصحى،
تكون بطبيعتها بعيدة عن اليومي والمباشر، فتجول بحرية في مجالات الفكر والفن
والعلم والأدب، ولها الاستعداد الكامل لتمثّل التقدُّم والتطور في تلك المجالات وتنمّي
الإبداع فيها، بفضل ألفاظها التي تنتمي إلى دائرة مفتوحة، وتراكيبها المتعددة ، وأساليبها
المتنوعة، وأدواتها الملائمة للمقولات المنطقية المختلفة. وفي المجتمعات
الديمقراطية، يستخدم الإعلام لغة فصيحة موضوعية ، تنمّي التسامح، وتساعد على التفكير
الحرّ، وتسمح بالحوار والمناقشة والمسائلة، وتشجّع الرأي والرأي الآخر، والرؤية
والرؤية المضادة، والموقف والموقف المخالف. فلغة الإعلام في المجتمع الديمقراطي
تمارس حرية التعبير، في المضمون والصياغة، لتستوعب مضامين الحضارة المتطورة،
ومفاهيم العلوم المتجددة.
بيد أن الأنظمة الشمولية تسعى
إلى التحكّم بوسائل الإعلام وأدوات التعبير وتسخّرها لأغراضها، ورعاية مصالحها،
وتقوية سلطتها وهيمنتها. فتستعمل بنيات فكرية ومادية تساعد على القسر والتحكّم في
الناس، وتختار لغة إعلامية ذات أنماط بنيوية وأساليب دلالية محدودة ملائمة لصياغة
مضامين ذرائعية وطروحات تبريرية تجعل من السلطة مصيبة دوماً، معصومة أبداً؛ لغة جامدة
في تراكيبها، تسلّطية في إطروحاتها، تؤكِّد الألفاظ الرنانة المستهلكة لا المدلولات
العميقة المتجددة، وتختار الكلمات الجوفاء التي تخاطب العواطف السطحية، لا المعاني
والمفاهيم التي تحاور العقل والمنطق؛ لغة تُحفَظ عن ظهر قلب، وليس لغة تُستوعب وتُفهم
لتتجذّر في الفكر؛ لغة تقوم على التهويل والمبالغة، في عبارات مرصوصة تُسمع
لتُحفظ، لا لتوعى وتُفهَم.. إنها لغة إعلامية تنفي المنطق، وتسجن العقل، وتقتل
وسائل الإقناع. إن احتكار السلطة الشمولية للإعلام يؤدي إلى جمود لغة الإعلام،
ويعطل إمكان عصرنتها وعقلنتها والارتقاء بها. ( فلسطين، 2)
4 ـ تحليل لغة الإعلام العربي في ضوء الأهداف:
يعمل الإعلام باللهجات العامية
عكس الأهداف التي يتوخاها كل إعلام شريف في ترقية الإنسان لغة وفكراً، وتنمية
الثقافة الوطنية بلغتها المشتركة وتراثها وقيمها، وتحقيق الإدماج الاجتماعي،
وإنجاز التنمية البشرية.
فالعاميات تكرّس أمية المستمع
ودونية ثقافته وضيق تفكيره. فهي لا تحسب لذكائه الفطري، ولا لقدراته اللغوية
حساباً. فإذا كان الأميُّ يعاني نقصاً في
قدرته التعبيرية باللغة الفصيحة، فإن له قدرة استيعابية بها، لأن الفصيح والدارج
مستويان في لغة واحدة وليسا لغتين مختلفتين. ويمكن تطوير قدرات المستمع الاستيعابية
بالفصيح عن طريق التكرار والمران.
ومن إبداعات الإعلام العربي أنه
أدمن دبلجة المسلسلات التلفزيونية الأجنبية باللهجة العامية لكل بلد، وفي ذلك
أضرار خطيرة تشرحها الإعلامية المغربية
إلهام بنجدية في مقال بعنوان" المسلسلات المدبلجة.. أسلحة الدمار الشامل
التي تستهدف الهوية المغربية: تطبيع مع الدعارة، والخيانة الزوجية، والولادة خارج
مؤسسة الزواج، ومظاهر العري الفاحش". وتصف هذا التوجه في الإعلام بكونه
لا يعدو ابتذالاً تحكمه رهانات سياسية لا وطنية، وأبعد ما يكون عن تلبية رغبات
المتفرج الذي يتم تصنيعه وفق نسق خاص، حيث يصبح لا يفكر ولا ينتقد، ومستسلماً لهضم
كل ما يتلقاه من إنتاجات مدبلجة بالعامية، هدفها الأول والأخير " قتل المشاهد
الكريم" ( بنجدية، 1).
ويقول فاعلون في المجال الفنيّ إن
استيراد المسلسلات الأجنبية المدبلجة للتلفزيونات العربية يؤدي إلى قتل الإنتاج
الوطني والإبداع الوطني. فالأدباء العرب يلقون التشجيع إذا تحوّل إنتاجهم إلى
أفلام ومسلسلات. والإنتاج الوطني يساعد
على تطوير قطاعي السينما والتلفزيون وخبرة العاملين فيهما من مختلف التخصّصات. أما
الإكثار من المواد الإعلامية الأجنبية والمسلسلات المدبلجة بالعاميات، فإنه يقلّل
من الإنتاج الوطني ويُضعفه، بطبيعة الحال (بنجدية).
واستعمال العامية في الإعلام يضرُّ
بالعربية الفصيحة ويحدُّ من تطورها، لأن نمو اللغة مرهون بالاستعمال. كما ينتج عنه
ترسيخ ارتباط المستمع بمحليّته وإقليميته وطبقته الاجتماعية على عكس الفصيحة
المشتركة التي تنتزع الناس من المحلية والقبلية والطائفية وتوحد طريقة تفكيرهم،
لأننا نفكر باللغة. والعلاقة وثيقة بين التطور اللغوي والتغيرات الاجتماعية.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره
مذيع في محطة إذاعية فوّتتها الدولة لرجل أعمال، في نطاق خطتها لـ " تحرير
الإعلام" وإجازة إذاعات أهلية، فقرر الرجل، طبقاً لأهداف الإذاعات الأهلية الحرة
التي أطلقتها الدولة، استخدام العامية في
بث جميع نشرات الأخبار. يقول المذيع:
" حينما بدأنا نقدم
نشرات الأخبار بالدارجة، بدأ المواطنون يتصلون بنا ويطلبون منا الحديث بلهجاتهم:
الريفي يريد لهجته والمراكشي والدكالي، كلٌّ يطالب بلهجته... وهكذا وحدة الشعب
بدأت تذوب. التبرير المنطقي لكل ما يحدث
هو أن طائفيين جدداً أُعطيت لهم مشاريع إذاعية" (عدناني).
ومن ناحية أخرى فإن كثيراً من
البرامج الإذاعية والتلفزية والمواقع الشابكية تخلط بين العامية الدارجة والعربية
الفصيحة. وهذه الطريقة تؤدي إلى تدمير اللغة العربية الفصيحة المشتركة. فالمتلقي
يتعود على الصيغ الخليطة بحيث لا يمكنه التمييز بين ما هو فصيح وما هو عامي.
والإعلام بالعامية لا يعزز ما
يتعلَّمه الأطفال في مدارسهم باللغة العربية الفصيحة، بل يشوّش أذهانهم، ويخرّب ما
تعلموه من لغة فصيحة. فنكون " كالتي نقضت غزلها أنكاثاً".
نستخلص من هذا بوضوح أن الإعلام
باللهجة العامية لا يسمح بتفاعل النظام الإعلامي مع النظامين التعليمي والتربوي بصورة
إيجابية، ولا يُسهم في التماسك الاجتماعي، ولا في تكوين هوية وطنية مشتركة، ولا في
إرساء السلم الأهلي، ونتيجة لذلك لا يُسهم في التنمية البشرية بل يعرقلها.
أما البرامج التي تمزج العربية
بالإنجليزية أو الفرنسية، فإنها تضر باللغة العربية إذا كانت موجهة إلى المستمع
العربي، وتضر بالإنجليزية أو الفرنسية إذا كانت موجهة للمستمع الإنجليزي أو
الفرنسي. ولكننا لا نجد وسيلة إعلام إنجليزية أو فرنسية تخلط لغتها بلغة أجنبية.
فهذا الخلط الجائر على العربية هو من مبتكرات الإعلام العربي التي تفرَّد بها في
العالم.
إن استمرار السياسة اللغوية
المتبعة في النظام الإعلامي، قد يؤدي إلى تدمير اللغة العربية الفصيحة المشتركة.
فقد خلص اللساني المجمعي الدكتور أحمد
الضبيب في دراسة قيمة له عن مستقبل اللغة العربية استعرض فيها آراء المفكرين العرب
والأجانب في الموضوع منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم، إلى إمكان انقراض
اللغة العربية الفصيحة وبقاء لهجاتها العامية. (الضبيب، 18)
وفي كتاب " موت اللغة"،
يعدد اللساني البريطاني ديفيد كريستال الأسباب
التي تؤدي إلى انقراض لغة من اللغات. ويخلص كريستال إلى أن اللغة تموت عندما يموت الناطقون بها نتيجة
كارثة طبيعية أو تشتتهم بصورة تؤدّي إلى اختفاء الجماعة اللغوية ( Crystal ). ولكن فات هذا اللساني
سببٌ هامُّ هو موت اللغة بموت ضمير الناطقين بها وموت وعيهم بأهمية اللغة المشتركة
لوجودهم كأمة.
5. تصميم نظام إعلامي بديل:
لقد تأكد لنا أن النظام
الإعلامي العربي الراهن لا يحقق الأهداف المرجوة من الإعلام الجيد. ولهذا نقترح ما
يأتي :
أ ـ إن فشل منظومة الثقافة في
البلدان العربية يعود في الأساس إلى غياب الوعي بالمرجعية المحددة للمنطلقات
والغايات، وغياب الوعي بمفاهيم الهوية الحضارية والذاتية الثقافية، وغياب الوعي
بالتحديات الداخلية والخارجية، وغياب الوعي بالإستراتيجيات المستقبلية ( الزباخ،
7)، ولا بدّ من تعميم هذا الوعي بجميع الوسائل التربوية والتعليمية والإعلامية.
ب ـ ضرورة تبني البلدان العربية
سياسة لغوية صريحة تعتمد اللغة العربية الفصيحة المشتركة في جميع مجالات الحياة ،
وهي لغة التواصل الوحيدة القادرة على إيجاد مجتمع المعرفة الذي يتمكن من تحقيق
التنمية البشرية، أو كما قال المرحوم الدكتور نبيل علي : " اللغة العربية هي البوابة الملكية للعبور إلى مجتمع المعرفة"
(علي، 234).
ج ـ ضرورة قيام السياسة اللغوية
البديلة على مبدأ اعتماد اللغة العربية الفصيحة المشتركة في التعليم وجميع وسائل
الإعلام، وتضييق الخناق على العاميات فيها بهدف التخلُّص منها تدريجياً حسب خطة
قصيرة الأجل.
د ـ من أجل زيادة التفاعل
الإيجابي بين الأنظمة التربوية والتعليمية والإعلامية، لا بد من القضاء على الأمية
التي تقارب نسبتها الـ 30 % طبقاً لبيان المنظمة
العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو، 1). والدول لا تستطيع أن تحقّق
التنمية البشرية في البلاد ما لم تأخذ على نفقتها التعليم الإلزامي الجيد لجميع
أبناء الشعب، وتقديم الخدمات الصحية والطبية ذات الجودة العالية، وضمان جميع حقوق
الإنسان وفي مقدمتها حقوقه الاقتصادية.
بيدَ أن إحلال النظام الإعلامي
البديل محل النظام القائم الذي أثبت فشله، لا يتوقف على الباحثين والمثقفين، بل
على السلطة التي تتبنى السياسات ذات الفعالية العالية والمردود الكبير.
المراجع والمصادر
ـ الإسماعيلي، محمد (2015). " لغة
الضاد وأهميتها للإعلام العربي المعاصر" في جريدة البيان المغربية بتاريخ
30/7/2015 وفي:
ـ الألكسو (2013) . بيان المنظمة العربية
للتربية والثقافة والعلوم في تونس عن الأمية في العالم العربي، في:
ــ اتحاد إذاعات الدول العربية (2014). التقرير
السنوي 2014. تونس: اتحاد إذاعات الدول العربية.
ـ بلغيت، سلطان ( 2014). " وسائل
الإعلام واللغة العربية: الواقع والمأمول" في
ــ بنجدية، إلهام (2014)
" المسلسلات المدبلجة" في جريدة (المساء )المغربية يوم 28/9/2014
وفي:
رحمون، عبد الحق بن (2016). " إصلاح نظام التقاعد في
المغرب" في جريدة الزمان اللندنية بتاريخ 9/2/2016.
ـ الزباخ، مصطفى
(2016) التوجه الإستراتيجي الحضاري لمواجهة تحديات التعليم في العالم الإسلامي.
الرباط: مطابع الرباط نت.
ـ شحرور، زهير عزت (2011)
. " دور وسائل الإعلام في نشر اللغة ا لعربية" في مجلة آفاق المعرفة ، عدد مارس ، 2011، ص 1 ـ
12. وكذلك في :
www. Arabic
language.ic.org/view_page.php?ic=2083
ـ الضبيب، أحمد
(2014). مستقبل اللغة العربية. الرياض: مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز
لخدمة اللغة العربية.
ــ عبد القادر طاش ( ?) " الإعلام العربي بين الواقع والأمل" في
ــ عدناني، جلال
( 2007) مقابلة صحفية مع المذيع المصطفى
العسري بعنوان " ملامح فضيحة اسمها
إذاعة كازا إف إم" في جريدة (الأحداث ) المغربية يوم 18/6/2007. ونشرها
كذلك موقع مغرس الإلكتروني في:
ــ علي، نبيل (2001)
الثقافة العربية وعصر المعلومات. الكويت: سلسلة عالم المعرفة رقم 265.
ـ فلسطين، نسر
(2010) " لغة الإعلام العربي بين اللغة العربية والعاميات" في:
ـ القاسمي، علي (
2012). السياسة الثقافية في العالم العربي. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون.
ــ المعوش، سالم
(2003). " اللغة العربية في الإذاعة والتلفاز والفضائيات في لبنان : دراسة
تحليلية ونقد" في:
ــ هويدي، فهمي
(2013). "واقع اللغة العربية في وسائل الإعلام" في
www.uqu.edu.sa/page/ar/148322
ــ الينبعي، محمد
(2009) " اللغة العربية في أوطانها
بين التحديات والآفاق" في كتاب: العربية بين الواقع والمأمول.
الجزائر: المجلس الأعلى للغة العربية.
ــــ اليونسكو ( 2001) إعلان اليونسكو العالمي
للتنوع الثقافي. وكذلك
المؤتمر الدولي الحكومي للسياسات الثقافية من أجل التنمية (ستوكهولم، 1998).
.CEDIP (2012)
Analyse systémique: définition. www.cedip.equipement.gouv.fr/analyse-systémique-definitions-a88.html
Crystal, David (2000) Language Death.
London: Univ. Press.
Deutsch-Lernen (2015) German varieties, in: http://www.deutsch-lernen.com/learn-german-online/study_tips.php
IGCSE ICT(2015) “ What is Systems Analysis?”.
www.igcseict.inform/theory/8/what/