أصدقاء الدكتور علي القاسمي

قصة قصيرة / فطور الصباح .... مع دراسة تحليلية للاديب البشير النظيفي

قصة قصيرة / فطور الصباح .... مع دراسة تحليلية للاديب البشير النظيفي
نقلا عن موقع النور



د. علي القاسمي
 ولتمضية الوقت، دعني أقرأ لكَ قصيدة بالفرنسيَّة لجاك بريفير عنوانها " فطور الصباح ". فعنوانها يتَّفق والمَقام الذي نحن فيه، والشاعر كان يكتب قصائده في مقاهي باريس وحدائقها العامَّة. وإذا كنتَ لا تُجيد الفرنسيَّة، فسأقرأً لك القصيدة ذاتها بالعربية. فقد نقلها إلى العربيَّة الشاعر نزار قباني وأعطاها عنوان " الجريدة ". فَعَلَ ذلك رأفةً بأمثالكَ ممن لم يتقنوا الفرنسيّة بسبب تغيّب المُعلِّم المُستَمرّ. وضمّها قباني إلى ديوانه، ولكنَّه نسي أن يكتب كلمة " ترجمة " عليها. لا بدّ أنَّك سمعتها من قَبل بصوت المُغنِّية ماجدة الروميّ.
وإذا كنتَ لا تُحبِّذ الشعر وتفضِّل الإنجليزيَّة، فلنقرأ قصَّة قصيرة للكاتب الأمريكي رون كارلسون بعنوان " قراءة الجريدة ". ماذا قلتَ؟ أنتَ تجهل اللغة الإنجليزيّة. لا عليك، لا تهتم ولا تغتم، لأنَّني بصدد  سرقة موضوع هذه القصَّة ونقله إلى العربيّة الآن بعنوان " فطور الصباح". مجرَّد تغيير في العناوين وتُصبِح كاتباً. وعلى كلٍّ، فالصحف لا تدفع حقوق المؤلِّف. أنتَ تسرق أفكار غيركَ، والناشرون يسرقون حقوقكَ.
 لم تُعجبكَ قصَّتي؟ لماذا؟ ليست لها مواصفات القصَّة؟ لا عليك، سنسمِّيها " سرد "، فهي من فنون ما بعد الحداثة، ومصطلح "سرد" يغطّي كلَّ ما هو ليس بقصَّة وتريده أن يكون قصَّة، تماماً مثل مصطلح " تشكيل " في الرسم. فأنتَ، مثلاً، تستطيع أن تُصبِح رسّاماً إذا وضعتَ شخبطات داخل إطار أنيق، وعرضتَها في معرض فخم، وقلتَ إنَّها " تشكيل ". وإذا كان لك أصدقاء من نقّاد الفنّ، فسيخرجون بتحليلاتٍ وتأويلاتٍ لشخبطاتك لم تخطر لكَ على بال.
 ماذا قلتَ؟ لا تريد أن تسمع شيئاً من الأدب الفرنسيّ ولا الإنجليزيّ؟ إذن سنقتل الوقت بقراءة الصُحُف العربيّة. لا تظنُّ أنَّني سأشتري الصُحُف. عبقرية البطالة تخترع أساليب فذَّة. سنستعير جميع الصُحُف من البائع مقابل نصف درهم فقط، وبعد أن نطَّلع عليها، نعيدها إليه، وهو بدوره يعيدها إلى الموزِّع غداً صباحاً بوصفها " مرجوعات لم تُبَع". جميعهم يفعلون ذلك، ونحن كذلك. ألم أقُل لكَ إنَّ البطالة أُمُّ الاختراع.
أنتَ تفضِّل مشاهدة المارَّة والتعليق عليهم، أَلَيسَ كذلك؟ إذن، هذا المقهًى يُطل على الشارع العامِّ. ولكن، ينبغي عليَّ أن أحذِّركَ مُسبقاً. إذا رأيتَ شاباً يوقف فتاةً مارَّةً في منتصف الطريق، ويُشهِر سكيناً في وجهها، ويأمرها بتسليم حقيبتها اليدويَّة وحليّها المزوَّرة، فلا تتحرَّك من مكانك، لأنَّ الفتاة ستسلمه الحقيبة بيد مرتعشة وابتسامة شاحبة، ويمرّ المشهد بسلام. أمّا إذا كنتَ فُضوليّاً وتدخَّلتَ، فقد يحدث ما لا يُحمَد عُقْباه. افعلْ تماماً كما يفعل الشرطيّ وهو يمرّ على المشهد بعيون مُغمَّضة. عذره أَنَّه أنهى نوبته قبل لحظات. إنّها الحكمة بعينها. أو افعلْ كما أفعل أنا: احتسي قهوتك قبل أن تبرد.
 ماذا قُلتَ؟ النادل أتى بالقهوة باردة؟ لا تهتمّ بذلك، لأنَّها ستبرد على أيّ حال، فنحن سنمضي الصباح كلَّه في هذا المقهى. ضعها أمامك فقط مُتظاهراً بالتلذُّذ باحتسائها. لا تشرب قهوتك بسرعة. في العجلة الندامة وفي التأنِّي السلامة. وإذا لم يُعجبك هذا المقهى، سنذهب بعد الظهر إلى مقهىً آخر, فالمدينة كلُّها مقاهٍ: بين كلِّ مقهى ومقهى مقهى.
 إذن لنبدأ بقراءة عناوين أخبار الصفحة الأولى في هذه الجريدة. هل أنتَ مستعدّ لسماع أخبار الأُمَّة هذا الصباح؟ توكَّل على الله:
 ـ " بروفيس مروفيس ينجو للمرَّة الثانية خلال أُسبوعَين من هجومٍ بالقنابل."
لا تعرف مَن هو بروفيس مروفيس؟ إنَّه جنرال استولى على السلطة بانقلابٍ عسكريٍّ، وحَكَمَ بالإعدام على رئيس الحكومة المُنتَخَب. المسكين الأخير كان قد فاز بالانتخاب. لكنْ، بالرشوة والتزوير.
 ـ "عشرات القتلى من اللبنانيِّين بسقوط طائرة بوينغ في طريقها إلى بيروت."
السبب؟ بسيط جداً: الطائرة مُستهلَكة، وأموال الصيانة أخطأتْ طريقها واستقرتْ في جيوب بعض مسئولي الشركة. 
 ـ " طائرات إسرائيليّة تغتال ستة فلسطينيين بينهم أربعة أطفال، بإطلاق صاروخ على سيّارتهم في شارع بغزة، وتجرح عشرين من المارَّة."
الخبر عاديّ لا يحتاج إلى تعليق. اعتدنا عليه، لا جديد فيه. نسمع مثله كلَّ صباح منذ ثلاث سنوات.
 ـ " قوات الاحتلال الأمريكيّ تقتل ثلاثين عراقيّاً وتعتقل مائة وستين آخرين شمال بغداد..."
 إنَّهم سادة العالَم، إنَّهم رعاة البقر. يسرحون ويمرحون كما يحلو لهم. لا مانع ولا رادع. والعالم مزرعة كونيّة صغيرة لتسمين أبقارهم. ونحن جميعاً مِلك أيديهم.
 ـ " اكتشاف مقابر جماعيّة جديدة في العراق."
تعلّم أساليب الحُكم الصالح، يا صديقي! فقد يركبك الحظ وتصبح رئيس جمهوريتنا المَلكيّة في المستقبل القريب. ماذا تقول؟ لا، أنا لستُ مازحاً.
 ـ " تقرير دوليّ: 351 ألف طفل عربيّ مُصاب بالأيدز/السيدا."
هذا معناه أنَّنا تعلَّمنا حكمةً نردِّدها منذ ألف عام: " النظافة من الإيمان ".
هل تريد أن تسمع مزيداً من الأخبار؟ لا ؟ لنغيِّر الموضوع إذن: والآن كيف نبحث عن عمل؟!




جمالية الأشجان في إحدى قصص 
   دوائر الأحزان":
  (فطور الصباح)  

 
  بقلم البشير النظيفي 
   مراكش

1
أمام كل عمل فكري أو إبداعي، تربوي أو معجمي، نقدي أو مترجَم، يقدِّمه لنا هذا اللغوي الشامخ، والمبدع المتميِّز بلغته الساحرة، وتشبيهاته الآسرة، وتقنيّاته السردية المتطورة، أشعر وأنا أتصفَّحه، بالوجل يتملَّكني، كلّما جنحتُ إلى تقديم أو عرض عملٍ من أعماله؛ وذلك خشية التقصير في حقِّه، لأنَّ ما أرومه من محاولتي قد لا يُجدي نفعاً، نظراً لما تتطلَّبه كتاباته الفكرية والنقدية والإبداعية من جهد قد لا يفتح لي قراءة ما أحاط به عقله الموسوعي من آفاق علمية لم يُتِح لي الزمن الاطلاع عليها. لذا فإني بدايةً أعتذر إن كنتُ لم أتمكَّن من استقصاء جميع قضايا مضامين القصص التي أبدعها الكاتب العراقي المقيم بالمغرب، الدكتور علي القاسمي، في مجموعته الحميمية هاته.
2
وانطلاقاً مما سبق، كان من واجبي القول بأنَّ المتمثِّل لأعماله يرى أنَّه استطاع أن يربط علاقةً متينة بينها وبين العلوم الإنسانية الأُخرى. فإلى جانب ما تشكّله مجموعاته القصصية الخمس وقصته الطويلة للفتيات والفتيان من إبداع فني متميز، فقد أصدرَ كتابات نقدية تلقي الضوء الكاشف على طبيعة الإبداع الشعري والنثري؛ إضافة إلى دراساته اللسانية التي ضمّتها أعماله اللغوية الشامخة التي منها " علم المصطلحأسسه النظرية وتطبيقاته العلمية"(1)، و" معجم الاستشهادات الموسَّع"(2) مروراً بأعمال لغوية أخرى منها على سبيل المثال " علم اللغة وصناعة المعجم"(3) و " المعجمية العربية بين النظرية والتطبيق"(4)، و " لغة الطفلدراسات في السياسة اللغوية وعلم اللغة النفسي"(5)، و " الترجمة وأدواتها"(6)، إلخ.
وهو في كلِّ مصنّفاته صاحب رأي وفكر حرّ منفتح على الحياة. ومما يلفت نظر المتابع لكتاباته، نزعته الثقافية، ومواقفه الإنسانية، وانتصاره للحرية والعدالة الاجتماعية.
3
وتماشياً مع مضمون الصيغة أعلاه، تجدر الإشارة ـ وباختصار شديد ـ إلى أحد مواقفه النقدية، وعلاقته الواضحة بها، كمبدع مهموم بما يمور حول بعض الأجناس الأدبية، ومسائل معرفية أُخرى عامّة.
ففي كتابه النقدي، مثلاً، الموسوم بـ " الحب والإبداع والجنون "(7)، يلفت الدكتور علي القاسمي نظرنا في مقدّمته إلى النهج الذي سيسلكه في علاقته بالكُتب التي أمتعته. وقد جاء فيها، بعد عرضٍ دقيقٍ ومركَّزٍ لنظريات النقد الأدبي المختلفة والمتباينة، منذ القرن التاسع عشر إلى سبعينيات القرن العشرين، قوله عن النقد الذي يحبّذه، بأنَّه " هو الذي يأخذ في النظر جميع عناصر العملية التواصليةالكاتب، والقارئ، والنص، والموضوع، وحتّى قناة التواصل التي إذا أُصيبت بعائق تعرّضت قراءة النص وتذوقه إلى صعوبات تقلّل من فائدته" (8).
أمّا عن الهدف الذي ترمي إليه العملية النقدية في نظره، فيبرزها قائلاً: كما أعتقد أنّ وظيفة النقد في بلداننا، التي ترتفع فيها نسبة الأمية الثقافية، ويقلّ فيها إقبال الناس على القراءة، هي ترغيب القارئ في اقتناء الكتاب الأصلي وقراءته، أو على الأقل مساعدته على الإلمام بمجمل مضمون الكتاب، وتذوّق مواطن الإبداع، والجمال، والفن، والمعرفة فيه." (9).
4
وغير بعيد عن هذا، وإيماناً مني بأنَّ استكشاف رأي الأستاذ علي القاسمي في مفهوم فنِّ القصة، قد يساعدنا ـ كقرّاء ـ على تمثُّل خصوصية ومميزات قصصه التي تمتح مادتها من إدراكه الصادق المنبثق عن تجربته ومعاناته، وأيضاً من علاقاته الإنسانية التي خبرها، وصوَّر ملامحها وهواجسها في قصَّة نشعر من خلالها بأنَّ شيئاً أُلقي علينا، يحكي لنا فيه مبدعه قصَّة بعيدة عن كلِّ ما تنوء به بعض القصص من عناصر الكلفة والخدعة، يستحيل عبرها التقاء القارئ بالكاتب.
وأحسبني، هنا، أنني لستُ في حاجة إلى استقصاء كلِّ ما قاله علي القاسمي عن هذا الفنّ الذي يعتبر أحد صور التعبير الأدبي، بل تكفيني الإشارة إلى ما جاء عنه في لقاء أجراه معه الناقد إبراهيم أولحيان لفائدة مجلة "عمّان" ، حين قال: " أميل شخصياً إلى كتابة قصّة تحتمل أكثر من قراءة واحدة، إذا أسعفني الحظ، فالقصّة الجيدة في نظري، هي تلك القصّة التي يمكن أن يقرأها القارئ العام على المستوى الظاهر، فيستمد منها المتعة والثقافة، ويقرأها القارئ المتمرِّس، أو الناقد، على المستوى العميق أو الباطن، فيتلقّى منها رسالة اجتماعية أو سياسية تحمل وجهة نظر الكاتب." (10)
فالكاتب في عُرفه ليس مجرّد بهلوان أو مهرّج يحاول إضحاك المتفرِّج فقط، وإنما هو مثقَّف ذو رسالة يقدّمها إلى المتلقِّي متسربلة في ثوب جنس أدبي يجمع بين التسلية والفائدة." (11)
5
وهذه المجموعة، " دوائر الأحزان"، في إصدارها الثاني هذا، سبق نشرها بدار ميريت بالقاهرة (12)، تضمُّ في طبعتها الثانية ست عشرة قصّة، بدل خمس عشرة قصّة في الطبعة الأولى، وذلك بإضافة قصّة جديدة تحمل عنوان " العرس".
دوائر الأحزان"، عنوان المجموعة، يتكوّن من جملة اسمية مركبة تركيباً وصفياً. قد يقصد المبدع من صيغة العنوان إثارة رغبة القارئ، واستدراجه إلى التعرُّف على ما انطوى عليه من تكثيف أو اختزال لمحتوى نصوصه الداخلية، لكونه صلة وصل يسعى علي القاسمي من خلاله العمل على ربط القارئ " بنسيج النص الداخلي والخارجي ربطاً يجعل منه الجسر الذي يمر عليه." حسب قول الدكتور ناصر يعقوب (13).
دوائر الأحزان" جملة اسمية خبرية، لفظها الأوّل جاء نكرة، مما جعله يدل على المطلق، وهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره " هذه". واتّسامها بالأحزان، يحيل على الحالة النفسية الدالّة على طبيعة التعالق القائمة بين العنوان وصاحبه. وهذا ما عبَّرت عنه الناقدة باسمة درمس قائلة: " إذا كان العنوان بالنسبة للنصِّ هو السمة الدالة عليه، فإنه بالنسبة إلى المؤلِّف خلاصة التجربة الفنية التي أنجزها، وعصارة أفكارها وجمالياتهاأما المتلقّي فإنَّه يرى في العنوان مصيدة له، تشدّه إلى تناول النص وقراءته." (14)
6
وعلى ضوء ما سبق، فإنَّ هذه الدوائر المتكالبة والمتتابعة بأحزانها على كاهل علي القاسمي، جعلتني أردِّد قول الشاعر امرئ القيس، وهو يصوّر لنا حالة الأحزان التي انتابت نفسه، حين قال في معلقته:
وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سدولَهُ عليَّ بأنـواعِ الهـمومِ ليبتلي
فقلـتُ له لما تمطّى بصلبــهِ وأردفَ أعـجازاً وناءَ بكلكلِ
ألا أيها الليلُ الطويل ألا انجلي بصبحٍ، وما الإصباحُ منكََ بأمثلِ
هذه الصورة البديعة التي جسّد فيها الشاعر مدى ثقل الهموم عليه، هي نفسها ذات المشاعر المختلفة، والألوان المتباينة التي دفعت علي القاسمي إلى أن يصوغ عنوان مجموعته بصيغة الجمع المعرَّف بالإضافة.
وإذا كان هذا المبدع والفنان الأصيل قد صوّر في مجموعته هذه شذرات من أحزانه، فإنّ تفصيلها نجده في الحوار الثقافي المشار إليه سابقاً حين قال عن جراح الألم التي لم تلتئم بعد، ما يلي: " سأبوح لك بمكنون نفسي، لعل ذلك يخفف من ألمي، ويستجيب لحبِّ الاستطلاع لديكأنا مصاب بخيبات كبيرة، وجراح بليغة، بعضها وطني، وبعضها شخصي، وبعضها نفسي." ثمَّ بعد ذلك أوضحَ في لقائه ذاك أسباب كلِّ جرح. فعلى مَن يريد المزيد من العلم بها الرجوع إلى المجلة المذكورة أعلاه.
7
القصة الأولى في المجموعة الحاملة لعنوان " فطور الصباح"، تبدأ بدعوة الراوي لضيفه إلى تناول وجبة الفطور في أحد مقاهي المدينة السياحية التي يقطن فيها، تليها جُمل تفسيرية يحدِّد فيها الراوي مكان الفطور، " المقهى"، وهو عالَم خارجي، بيّن السارد، في الفقرة الأولى، العلاقة التي تربط هذا المكان بزبائنه تعال معي ... لنذهب إلى أحد المقاهي المكتظّة بروادها من الموظَّفين والعاطلين". ثمَّ إنَّ المتدبِّر لألفاظ هذه الفقرة، يلاحظ أنَّها تحمل أمراً بالدُّنوِّ والاقتراب، قصد المصاحبة والمرافقة، والذي يساعد على إبرازها وتسريعها " لام الأمر" المتصلة بفعل المضارع، هذا الفعل الذي يثير ردَّ فعل من المخاطَب ويدفعه إلى الانصياع.

إضافة إلى ذلك، فإنّ باقي جمل الفقرة تجسِّد لنا بشكل جلي بشاعة المآسي، والمسبِّبين لها، الشيء الذي حفّز الراوي إلى طرحها أمامنا رغبةً منه في إشعار القارئ بواقعه الموبوء بمظاهر التخلّف، والانتهازية، وعدم الشعور بالمسؤولية، حسب باقي فقرات النصّ. إنه مجتمع فاسد في جميع مكوّناته، من أعلى الهرم إلى أسفله؛ فرئيس الحكومة خائن أو محتال لأنه وصل إلى السلطة عن طريق الانقلاب أو تزوير الانتخابات، والموظّف يمضي معظم وقته في المقهى، والمعلِّم كسول يكثر من التغيّب، والشاب العاطل متهورٌ يسلب فتاةً قلادتها وسط الشارع، والشرطي جبان يتغاضى عن جريمة تقع أمام عينيه، وبائع الصحف غشّاش فهو يكري الصحف بدلاً من أن يبيعها، والكاتب سارقٌ يقتبس أفكار غيره، والناشر لصٌّ يغمط حقوق المؤلِّفين، إلخ.
وقد صرف الحديثُ عن هموم المجتمع الراويَ وصاحبَه عن التفكير في كيفية البحث عن عمل. كما أن رواد المقهى من العاطلين يسودهم شعور بالقلق والانتظار. فالمكان في هرجه وصخبه يعكس مشاعر زبائنه المضطربة، والسائدة في مجتمع ينعدم فيه العدل الاجتماعي، ويسود فيه اليأس والحذر، خاصة إذا مالت أغلب نخبه إلى الانتهازية، والنفاق، واستغلال الحقوق الفردية. ألم يخاطب الراوي صديقه الجاهل للإنجليزية قائلاً: " لا عليك، لا تهتم ولا تغتم، لأنني بصدد سرقة موضوع هذه القصة ونقله إلى العربية الآن بعنوان فطور الصباح". مجرّد تغيير وتصبح كاتباً، وعلى كلِّ، فالصحف لا تدفع حقوق المؤلِّفأنتََ تسرق أفكار غيرك، والناشرون يسرقون حقوقك."
وليؤكِّد لنا المؤلِّف صدق كلامه، أتى لنا بنبرة صوتية حادّة، تتمثَّل في تكرار أداة النفي " لا " قائلاً: "لا عليك، لا تهتم، ولا تغتم ..." إن فعلَي المضارعة يحملان إلى جانب السجع، نبرة ساخرة. كما أن الفقرة توجه انتباه القارئ إلى أفعال مشينة يقترفها بعض الكتّاب، والناشرين، والمعلمين، ورجال الأمن، والشباب العاطل، وغيرهم.
وإذا انحرف أولئك وسقطوا، فهل الأمر نفسه يصدق على الراوي الذي اعترف قائلاً: " لا عليك، لا تهتم، ولا تغتم، لأنني بصدد سرقة موضوع هذه القصة، ونقله إلى العربية الآن، بعنوان فطور الصباح"(15)
بدايةً نلاحظ أنَّ الجملة السابقة أجاد فيها المؤلَّف الانتقال من ضمير المخاطَب إلى ضمير المتكلَّم، في خفّةٍ ويسرٍ دون افتعال، وذلك قصد تعريفنا بالعمل الذي ارتكبه. أمّا القصّة التي سرق موضوعها الراوي، فهي قصة" قراءة الجريدة"، للكاتب الأمريكي " رون كارلسون"، وهي إحدى روائع القصص الأمريكية المعاصرة التي ترجمها الدكتور علي القاسمي، ونشرها في كتابه الموسوم بـ "مرافئ على الشاطئ الآخر"(16)، وهي قصة لاذعة، قصيرة جداً، تدور، على حد قول المترجِم، حول نقد أوضاع المجتمع الأمريكي بطريقة تكاد تكون مباشرة.
وباعترافه يكون الراوي قد أبعد قصته هذه عن الوقوع في تناصٍّ مباشر مع سابقتها، حيث سعى من خلال وقائع وأحداث قصته " فطور الصباح" أن يعيد نظم عقد سياق موضوعها بشكل آخر متطوِّر، ومتميز عنها شكلاً ومضموناً..
إلى جانب ذلك، فإن العناوين التي تمَّ سردها من الصحيفة تحيلنا إلى الوضع الحالي للعرب والمسلمين الذي يعرف انهياراً كاملاً لمنظومة القيم في المجتمع، خاصّة بعد الصدمة التي أسفرت عنها حرب الخليج.
وباختصار شديد، فإنَّ القصّة تدين بعض التصرفات الاجتماعية والثقافية والسياسية، والقيم المتردية السالبة المساهمة في تأخُّر الأُمّة. وإذا كان رون كارلسون قد وجه، في قصته، صفعة شديدة بيده إلى القيم المادية الأمريكية، فإن القاسمي قد وجه، في قصته كذلك، صفعات متعددة بكلتا يديه إلى قيم التخلّف في المجتمع العربي. وهذا هو التشابه أو التناص في الموضوع، مع اختلاف في البناء القصصي والشخصيات والتقنيات المستخدَمة.
ففي هذه القصة، استخدم القاسمي تقنيتين سرديتين نادرتي الاستعمال في السرد العربي، الأولى تتعلّق بالحوار، والثانية باستخدام الجريدة وسيلة لإبداء آراء سياسية. فالحوار في هذه القصة هو " حوار أبكم"، حيث يتولى الراوي الحديث الثنائي: حديثه هو وحديث محاوره، فيطرح الراوي الأسئلة ويجيب نيابة عن محاوره مستعملاً " ماذا قلت؟ كذا وكذا..." فالمحاوَر لا دور له ولا شخصية له. " وهذا تجريب قلما نجده في عالم القصة العربيةكما يقول الناقد إدريس الكريوي(17).
أما تقنية الجريدة، فقد أخذ الراوي يسلي صديقه بقراءة عناوين أخبارٍ انتقاها من جريدة فعلية، والتعليق عليها تعليقات ساخرة من عنده ليكشف مواطن الفساد في المجتمع وقيمه المتخلفة.
ويختم الراوي قصته بجملة استفهامية، قائلاً: " كيف نبحث عن عمل؟"، يمكن القول بأنّه لا إجابة عن استفهامه، لتعذُّر العثور على عمل، لأننا نعيش داخل وضع عام مشحون بالتخلّف الاقتصادي، والفساد الإداري، والإهمال، وعدم الإخلاص، إضافة إلى انحطاط المستوى التعليمي. وقد استطاع المبدع الكشف عن ذلك الوضع المتردي بطريقة فنية متميزة، أبرز لنا من خلالها مهارته الحرفية في كتابة القصة. وأظنّ أنَّ الهدف من طرح سؤال بلا إجابة هو توريط القارئ في البحث عن إجابةٍ ما وإشراكه في العملية الإبداعية.
الهوامش:
  1. علي القاسمي، علم المصطلحأسسه النظرية وتطبيقاته العملية ( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2008)
  2. علي القاسمي، معجم الاستشهادات الموسع ( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2008)
  3. علي القاسمي، علم اللغة وصناعة المعجم ( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2004) الطبعة الثالثة.
  4. علي القاسمي، المعجمية العربية بين النظرية والتطبيق ( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2003)
  5. علي القاسمي، لغة الطفلدراسات في السياسة اللغوية وعلم اللغة النفسي ( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2009)
  6. علي القاسمي، الترجمة وأدواتها ( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2009)
  7. علي القاسمي، الحب والإبداع والجنون ( الدار البيضاء: دار الثقافة، 2006)
  8. المرجع السابق، المقدمة.
  9. المرجع السابق.
  10. إبراهيم أولحيان، " حوار مع القاص العراقي علي القاسمي" ، مجلة عمّان، العدد 158 (آب 2008) ص 26 ـ 34.
  11. المرجع السابق.
  12. علي القاسمي، دوائر الأحزان ( القاهرة: دار ميريت، 2005)، الطبعة الثانية (الدار البيضاء: دار الثقافة، 2009).
  13. ناصر يعقوب، اللغة الشعرية وتجلياتها في الرواية (بيروت: 1994) ص 21.
  14. باسمة درمس، " عتبات النص " ، مجلة علامات في النقد، مجلد 16، جزء 61 (ماي 2007) ص 42.
  15. علي القاسمي، دوائر الأحزان، مرجع سابق ص 6.
  16. علي القاسمي، " مرافئ على الشاطئ الآخرروائع القصص الأمريكية المعاصرة (بيروت/الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، 2004).
  17. إدريس الكريوي، جمالية القصة القصيرة في المنجز الإبداعي لعلي القاسمي ( الدار البيضاء: دار الثقافة، سيصدر 2010) وكان المؤلِّف قد نشر فصول الكتاب في الدوريات المغربية والعربية.


التعليقات
الاسم:د / خالد سلامة
التاريخ:30/09/2009 12:01:20
هذا هو الاستاذ الدكتور علي القاسمي ,اذا قرأت له فحتما ستطرب كل حواسك , فهو يداعب الاذن والعين والقلب والروح ....فكل الجسم سيطرب بغير انفعال ولا تكلف فهو سلس الجريان كالفرات عذب كالنيل غزير كدجلة ....اهلا بكم في قلب كل عربي ....د / خالد سلامة - مصر
الاسم:جميلة طلباوي
التاريخ:27/09/2009 19:39:18
الأديب د. علي القاسمي
عيد مبارك سعيد و كل عام و أنت بألف خير
هكذا كما عوّدنا قلمك الشامخ دائما تصنع الدهشة
و المتعة ، تجدد في السرد و تمتّع القارئ
شكرا لعبقريتك
خالص تقديري و احترامي
الاسم:حمودي الكناني
التاريخ:21/09/2009 04:19:12
في العيد يجتمع الاهل والاحبة وتخفق القلوب بالود والتصافي ... ايامك سعيدة دكتورنا الغالي اعاده الله عليك وانت بصحة وعافية .
امتعتني بالقص امتعتني بالتحليل امتعتني بالتقصي امتعتني بطريقة تناول الشخية هنا وتحليل الشخية هناك . قابلية يمتاز بها الدكتور القاسمي تنم عن معرفة عميقة وتخيل دقيق لربط الخيال بالواقع . احسنت وجزاك الله خيرا على هذا الابداع الراقي .
الاسم:سلام كاظم فرج
التاريخ:20/09/2009 17:19:21
الاستاذ الدكتور علي القاسمي..
عيد مبارك وأمان خضر لك أستاذنا العزيز .. اعاده الله عليك وعلى كل الطيبين في العالم باليمن والبركات..
كم سأحتاج من الوقت لكي اتعلم من علي القاسمي كيف اكتب نصا بسيطا جدا عميقا جدا .. وكيف اكون بليغا في الشكل والمضمون دون غموض مفتعل.. هو الحكي اليومي باعلى تجليات الابداع .. فطور الصباح اسم رومانسي لواقع سريالي
.. كم من الوقت احتاج لافهم نرميزات جاك بريفير والفرق بين فطور قصيدنه وفطور مراثينا؟؟

الاسم:سنية عبد عون رشو
التاريخ:20/09/2009 16:54:08
الاديب الرائع والسيد الفاضل د...على القاسمي
عيد مبارك وكل عام وأنتم بخير ...أعجبتني طريقة السرد في
هذه القصة وقصة الساحر في موقع كيكا ...قصتان في غاية الروعة والجمال لديك طريقة تجذب القاريء للمتابعة وهذا
أهم هدف يحققه القاص المتمكن دمت لبهاء أدبك

مقالات ذات صلة