أصدقاء الدكتور علي القاسمي

الاختيار والترجمة تعرية القيم الأمريكية أدبياً بقلم إبراهيم أولحيان




الاختيار والترجمة
تعرية القيم الأمريكية أدبياً

 

                                                               إبراهيم أولحيان  ـ مراكش

ـ 1 ـ

          بتأملنا إصدارات الدكتور علي القاسمي، نجد أنها متعددة ومتنوعة، فهي تتوزع ما بين التأليف، والتنسيق، والترجمة؛ وتنقسم من حيث المجال إلى النقد الأدبي، والإبداع القصصي والروائي، والبحث في اللغة من خلال دراسة علم المصطلح، وصناعة المعجم، وعلم اللغة، بالإضافة إلى دراسات فكرية مختلفة. ومن بين كتبه نذكر ما يلي:

" علم اللغة وصناعة المعجم " ، " مقدمة في علم المصطلح " ، " المعجمية العربية بين النظرية والتطبيق " ، " معجم الاستشهادات " ، " المعجم العربي الأساسي" ( المنسُّق) " مختبر اللغة " ، " من روائع الأدب المغربي (مقالات نقدية) " ، " حقوق الإنسان " ، " الجامعة والتنمية "، هذا في الدراسات والأبحاث، أما في الإبداع فقد أصدر من تأليفه مجموعة قصصية بعنوان: " رسالة إلى حبيبتي "، ويُعدّ للطبع رواية تحت عنوان: " مرافئ الأحزان "، ومن ترجماته: " الوليمة المتنقلة " لهمنغواي، " الفلاح البائس " مسرحية لهولبرغ، ودراسة عن الرواية البوليسية بعنوان "  القصة البوليسية " لسيمونز، وأخيراً " مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة "(1) .

ولكن السؤال الذي يُطرح هو: هل هناك نسق ما يوحّد هذه الكتابات؟ وهل يوجد خيط ناظم فيما بينها؟ أو بعبارة أخرى: هل تقدِّم لنا هذه الإصدارات ملامحَ مشروع يدفع علي القاسمي إلى هذا التنويع في أبحاثه وانشغالاته؟ إن النقطة التي تلتقي فيها هذه الكتابات هي ما يسميه القاسمي نفسه بـ " مختبر اللغة "، أي الاشتغال على اللغة في مستوياتها المتعددة: معجمياً، وتركيبياً، وتحويلياً، وإبداعياً.

إن كل هذه المرافئ/الانشغالات يوحِّدها بحر واحد هو اللغة، باعتبارها "مسكن الوجود" و  "خطر الأخطار" بتعبير هايدغر، لأن من خلالها يمكن للوجود أن ينكشف، وما هذا التعدد إلا محاولة للقبض على الغامض والمجهول، الذي لا ينكشف إلا باللغة. وسنتناول مرفأ من هذه المرافئ الكثيرة، ونعني بذلك الترجمة التي نعتبرها أكثر من غيرها " مختبر اللغة " الأساسي، ذلك أن مقياسها لا يخطئ وخصوصاً حين يتعلق الأمر بترجمة الإبداع، لأن المترجم يكون أمام امتحان عسير، سواء باختياره النصوص، أو بنقلها من لغتها الأصلية إلى لغة أخرى.

ـ 2 ـ

بعد ترجمة القاسمي للرواية المتميزة للكاتب الأمريكي إرنست همنغواي " الوليمة المتنقلة "، وبعد النجاح الذي حققته هذه الترجمة الدقيقة والشاعرية، يُقدِم على مغامرة ترجمة مجموعة من القصص الأمريكية، ضمَّها في كتاب اختار له عنواناً دالاً وموفقاً هو: " مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة "، يشتمل على اثنتين وعشرين قصة لثمانية عشر قاصاً، في مختلف الأعمار على طول القرن العشرين، منهم من قضى نحبه، ومعظمهم مستمر إلى حد الآن في الكتابة، مما ساعد على تقديم نماذج دالة من القصة الأمريكية المعاصرة، لأن قراءة هذه القصص تبرز أنها تنتمي إلى مدارس واتجاهات مختلفة، من حيث الشكل والأسلوب. وطريقة تناول المواضيع. وهذه المهمة لا يقدر على تحقيقها شخص واحد. لذلك فالمترجم اعتمد على العمل الذي قام به جون أبدايك، الذي أعدَّ مجلداً تحت عنوان " أحسن القصص الأمريكية في القرن العشرين " صدر سنة 1999، وهذا الأخير نفسه، كما يقول القاسمي في تقديمه للكتاب " استعان بسلسلة تصدر سنوياً بعنوان: " أحسن القصص الأمريكية عام ـــ " كان قد أسسها الشاعر المسرحي أدورد أوبراين عام 1915 ... وأخذ أبدايك يختار قصة واحدة من كلِّ كتاب سنوي من كتب هذه السلسلة " معتمداً في ذلك على " بعض المعايير أهمها أن تعكس القصص المختارة روح القرن العشرين عقداً عقداً،  وأن تعبّر عن الواقع الأمريكي ببيئته وثقافته وشخوصه وقضاياه". وهذه المعايير ساعدت القاسمي على اختيار نصوص بعينها: اثنين وعشرين نموذجاً، من بين خمسة وخمسين نصاً التي شكلت مجموع عمل أبدايك المشار إليه. لكن ما هي المعايير التي اعتمدها صاحب " رسالة إلى حبيبتي " لترجمة هذه النصوص إلى اللغة العربية؟

لقد عَرف الأدبُ الأمريكي عدة تحولات في هذا القرن، وكان السبب الرئيس في ذلك هو الهزات العنيفة التي خلخلت المجتمع الأمريكي في يقينياته، ووضعته أمام أسئلة الوجود الجوهرية، وتمثلت هذه الهزات في الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في هذا القرن ( الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية، حرب الفيتنام، ...) والنضالات المستمرة من أجل كسب مجموعة من الحقوق المدنية، مما جعل هذا الأدب يركِّز في مرحلة معينة على الاجتماعي لينتقل بعد ذلك إلى العاطفي والنفسي. يقول صنع الله إبراهيم في تقديمه للترجمة التي أنجزها لرواية " العدو " لجيمس دروث (2)، نقلاً عن الناقد مالكولم كولي: " إن الكُتّاب قد انصرفوا عن تناول العلاقات الاجتماعية الهامة للإنسان، وكرَّسوا أنفسهم " للدراما في القارب " بعيداً عن البحر الكبير، وأصبح موضوعهم هو مجاهل العواطف الدقيقة في اللحظة الإنسانية، ومفتاحهم هو الحب والعاطفة." عند هذه النقطة           (الاجتماعي والعاطفي) يتموقع اختيار القاسمي؛ أي اختيار النصوص التي تبحث في العلاقات الاجتماعية فيما بين الأفراد، كاشفة عن تلك التعقيدات والعوائق التي تسِمها، وما مدى ما وصلت إليه من برودة وجفاء، نُمثِّل لذلك بقصة للكاتبة بام دوربان Pam Durban بعنوان " قريباً "، وهي تطرح مشكلة كبر السن، ومراكز العجزة، وتركّز على العلاقة التي تجمع امرأة عجوز بأبنائها، الذين وضعوها في أحد هذه المراكز للتخلص منها، وقصة جيمس ثيربر James Thurber  بعنوان " أحادي القرن في الحديقة " ، وهي قصة تحكي كيف يريد كل واحد من الزوجين التخلص من الآخر، وكيف نجح الزوج في التخلص من زوجته حيث أدخلها مستشفى المجانين، وتنتهي القصة كما يلي:
" وهكذا قادوها، وهي تلعن وتصرخ، وحبسوها في مستشفى المجانين، وعاش الزوج منذ ذلك الحين في سعادة طافحة."
وقصة جون شيفر John Cheever " لقاء " التي تتطرق إلى مشكل الطلاق وما ينجم عنه من حرمان عاطفي، ومن قساوة يعانيها الأبناء. وهناك تنويع لنفس الموضوع في قصة سعيدة للكاتبة جويس كارول أوتس Joyce Carol Oates  . هذه القصص وأخرى تطرح مشاكل اجتماعية يتخبط فيها المجتمع الأمريكي، وما تفرزه من حالات مَرضيّة، ومعاناة الحرمان العاطفي، ومشاكل نفسية خطيرة تتوارى وراء المظاهر الخداعة.

          ولا يفوت المترجم أن يختار نصوصاً تسجل أثر الحرب على الإنسان، كما جاء ذلك في نص لهمنغواي بعنوان " شيخ عند الجسر "، والنص الرائع للكاتب تيم أوبراين Tim Obrien بعنوان جميل " الأشياء التي كانوا يحملونها " وهي قصة تحكي حرب الفيتنام، وما يحمله الجنود معهم من أكل وشرب وأدوية وأسلحة، والعذاب الذي يكابدونه بحملهم لكل تلك الأشياء التي يحتاجونها في حربهم تلك، وفي ثنايا هذه الحكاية نكتشف شيئا فشيئاً، معاناة الجندي الأمريكي الذي يخوض حرباً لا تعنيه، وغير مقتنع بها، فالأشياء التي يحملونها وتثقل كاهلهم حقاً ليست مادية، بل هي روحية؛ إنها تلك الجراح الداخلية التي تمزق كل واحد منهم وتضعه عند تخوم الجنون.. يقول النص:
          " كانوا يحملون كل العبء العاطفي الذي يشعرون به رجال مقبلون على الموت. حزن، ورعب، وحب، وشوق ـ وهي أحاسيس ليست ملموسة ... كانوا يحملون ذكريات مخجلة. كانوا يحملون سراً مشتركاً عن الجبن الذي يصعب التحكم فيه ... ومن ناحية معينة يُعدّ ذلك العبء أثقل ما كانوا يحملون، لأنهم لا يمكنهم أن ينزلوه ويتخلصوا منه، فهذا يتطلب توازناً نفسياً كاملاً واستقراراً أكيداً"
وقصة سوزان سونتاغ Susan Sontag  "الطريقة التي نعيش عليها الآن" تتناول الطريقة التي يعيش عليها المصابون بمرض نقص المناعة، والعلاقات التي ينسجونها فيما بينهم، دون ذكر اسم المرض. وقد استطاعت الكاتبة أن تقدِّم هذا الموضوع بكثير من المهارة والصنعة، حيث اعتمدت التلميح، والحياد، وجعلت الموضوع ينبثق من ثنايا النص، اعتماداً على ذكاء القارئ.. أما العنف الذي يهدد الإنسان الأمريكي ويُرعبه فقد مثَّل له المترجم بنص حواري دقيق لهمنغواي بعنوان " القتلة".

          تلتقي نصوص " مرافئ على الشاطئ الآخر " عند موضوعات بارزة، كلّ قصة اشتغلت عليها بطريقتها الخاصة وهي: الفراق، العزلة، العنف، الخوف، الموت.. موضوعات تبين أن اختيار القاسمي لم يكن عشوائياً، بل تحكمه رؤية ومقاصد واضحة: أي الكشف عن المجتمع الأمريكي وتعريته. فبهذه النصوص التي نقلها إلى العربية، قام بتشريح الجسد الأمريكي، من أجل تسليط الضوء على الوجه الآخر لهذا المجتمع، الوجه الخفي، والمقنَّع بمساحيق القوة، الذي تروِّج له أفلام هوليود. ولن تستطيع أي دراسة اجتماعية أو نفسية الوصول إلى ما يسميه جان جونيه " الجرح السري " لأفراد هذا المجتمع. فالأدب وحده قادر على ذلك، لأنه يعتمد على آليات وأدوات خاصة، وينطلق من حساسية لا يمتلكها الباحث أو العالِم، وذلك ما عبّر عنه رولان بارت حين قال: " عبر صورة الجسد هشّون، وقابلون للعطب... وهشاشة الجسد لا يقدر على إبرازها بجدارة إلا الأدب".

ـ 3 ـ

          والقصة القصيرة أقدر من غيرها من الأجناس الأدبية، على القبض على اللحظات الحرجة في حياة الإنسان المعاصر، لأنه يتم التركيز فيها على جانب واحد من التجربة الإنسانية، والدخول إلى أعماق النفس البشرية لإضاءة مناطقها المعتمة، واكتشاف مجاهلها.. وصعوبة ترجمة القصة القصيرة المعاصرة، تكمن في أن القصاصين " تعاملوا مع القصة أسلوبياً تعامل الشاعر مع القصيدة، حيث لكل كلمة وكل عبارة وكل صورة مجازية دورها في خلق التأثير الكلي. لقد قللوا من حجم الفعل، وأكثروا من الرمز والإيحاء والحوار الشديد الدلالة، بلوغاً إلى دواخل التجربة ودواخل النفس".(3)

          لذلك تتطلب مثل هذه النصوص القصيرة، والمكثّفة، قدرات لغوية، ومعرفية، وأسلوبية، لأن الترجمة الناجحة تشتغل فيما وراء تحويل النص من لغة إلى لغة أخرى؛ أي الحفاظ على روحه، والتمكن من القبض على الإحساس الداخلي الذي يقود النص، الذي من خلاله كان المؤلف ينسج عالمه الإبداعي..وللتمكن من ذلك لا بدّ أن يستوعب المترجم، بالإضافة إلى إتقان اللغتين، السياق الثقافي الذي نبتت فيه النصوص المترجمة، ويكيّفها مع تربة اللغة التي يترجم إليها، لأن كل لغة تتوفر على إمكانات هائلة، ولها، أيضا، استحالاتها الخاصة؛ والمترجم الكفء يستطيع أن يستغل الإمكانات لقهر تلك العوائق وتجاوزها مُفسحاً للنص حياة أخرى، قد تكون، حسب استطاعته، أكثر ثراء وغنى..

          فبقراءة " الوليمة المتنقلة " لهمنغواي، و " مرافئ على الشاطئ الآخر" ، نكتشف أن الدكتور علي القاسمي، قد استطاع أن يضخ دماء عربية في هذه النصوص، وأن يمدّها بالنفس الروحي للغة العربية.. وتمكَّن من الحفاظ على أثر الحكاية في القارئ، لأن معظم هذه النصوص لا تقدِّم المعلومات مباشرة، بل تترك القارئ يكتشف ذلك في ثنايا الحكي، وفي بنيةِ إيقاعه الداخلية، فيما بين الكلمة والكلمة، وفيما بين جمل النص، وفيما بين فقراته؛ ونجح القاسمي في إيصال كل ذلك، وجعلنا نحس بأن النصوص مكتوبة بالعربية؛ وقد ساعده على ذلك سعة اطلاعه على الثقافة الأنجلوسكسونية، ومعرفته الواسعة بأعماق اللغة العربية، وما يحيط بها من مجاهل وخبايا..

          لقد ترجم علي القاسمي هذه القصص الأمريكية ترجمة إبداعية، لأنه ـ إضافة لكل العوامل التي سبق ذكرها ـ تعامل معها باعتباره مبدعاً في هذا الجنس الأدبي، يدرك أسراره وتخومه. وفي نظري إذا اجتمعت في الشخص دقة المترجم، ورهافة المبدع، لا بدّ أن يقدّم ما تطالب به الترجمة، وهو شعريتها، وذاك هو حال القاسمي في ترجمته للنصوص السردية الأمريكية، لأنه استطاع أن يحافظ على لذة القراءة ومتعتها، وقدم بذلك متعة اكتشاف عوالم وفضاءات وحيوات، في لغة عربية أنيقة، مسربلة بعبق الانتشاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
            * ناقد مغربي
(1)       " مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة " ترجمة: على القاسمي (بيروت/الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2003). 256 صفحة.
(2)       جيمس دورت، " العدو " ترجمة: صنع الله إبراهيم، نشر الفنك ، 1993، ص 5.
(3)       " أيلول بلا مطر " ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1986، ص 7.


مقالات ذات صلة