حوار للدكتور علي القاسمي مع جريدة الاتحاد الاشتراكي
جريدة الاتحاد الاشتراكي
(
الدكتور علي القاسمي كاتب أكاديمي عراقي مقيم في المغرب منذ سنة 1978، وهو
عضو في مجمع اللغة العربية بالقاهرة ومجمع اللغة العربية بدمشق، ومستشار المعهد
العربي الإسلامي في سيول بكوريا. له مؤلَّفات عديدة منها: علم المصطلح: أسسه النظرية
وتطبيقاته العملية، ومعجم الاستشهادات الموسَّع، والجامعة والتنمية، وحقوق الإنسان
بين الشريعة الإسلامية والإعلان العالمي.)
س 1 ـ شاركتَ مؤخراً في ندوة لتأبين الدكتور محمد عابد الجابري في
القنيطرة وتكلمتَ عن موقفه من التراث، كيف يمكن لنا أن نحدد مفهوما لـ: ( التراث )، كظاهرة إنسانية موجودة في جميع
المجتمعات ؟
ج 1 ـ
أولاً،
أود أن أشكر جريدة "الاتحاد الاشتراكي" الغراء، لإجراء هذا الحوار معي،
تكريماً لفقيد الفكر العربي الفيلسوف محمد عابد الجابري، وتسليط الضوء على بعض
جوانب فكره الحر الرصين.
"التراث"،
لغةً، اسمٌ من الفعل "وَرِثَ". فنقول "ورِثَ فلاناً، ومنه وعنه:
صار إليه ماله أو مجده بعد موته.. فالتراث ما يخلِّفه الميت لورثته من تركة سواء
أكانت تلك التركة مالاً أو مجداً أو عقيدةً أو علماً أو فكراً. وبعبارةٍ أخرى، التركة المادية أو التركة الفكرية.
وقد ورد هذا اللفظ بهذين المعنيين في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، والشعر
العربي قديمه وجديده.
خلال النهضة العربية في القرن التاسع عشر
وبداية القرن العشرين، حاول المثقفون العرب، خاصة في المشرق، إحياء التراث الفكري
والثقافي العربي، سعياً منهم إلى إيجاد هُوية
عربية مشتركة، تمكّن من إقامة أُمّة عربية موحَّدة مستقلَّة عن الإمبراطورية
العثمانية. فأخذ استعمال لفظ " التراث" في القرن العشرين، يدلّ على
" ما ورثه العرب عن أسلافهم من حضارة" ؛ وراح اسم " التراث"
يختلف في دلالته الخاصة عن اسمين آخرين مشتقين من الفعل (وَرِثَ) كذلك هما "
الإرث" و " الميراث "، إذ إنهما يشيران إلى نصيب كل فرد من تركة
الميت؛ فهما يقتضيان وفاة الأب وحلول الابن محله، في حين أن " التراث"،
في دلالته الحديثة، يشير إلى الإرث الفكري والثقافي الذي وصلنا من آبائنا وأسلافنا
على مر العصور والذي ما يزال فاعلاً في ثقافتنا السائدة. وهكذا فإذا كان " الإرث"
أو "الميراث" المادي يتطلَّب موت الأب أولاً، فإن " التراث"
الفكري والحضاري يعني حضور الأب في الابن، واستمرار الماضي في الحاضر.
ويختلف التراث عن التاريخ على الرغم من أن كلاً
منهما متعلقٌ بالماضي. فـإذا كان التاريخ يُعنى بالماضي في بُعده التطوري، فإن
التراث يعنى بالماضي في بعده التطوري، وصلته بالحاضر وتداخله معه. ويشكّل التاريخ
حوار الماضي مع الحاضر عبر التراث، حواراً ينبغي أن يكون فيه زمام المبادرة للحاضر
الذي يتشابك فيه الماضي بالمستقبل.
يدلّ لفظ
"التراث" اليوم على كل ما خلّفته لنا الأجيال السابقة من معارف (العلوم
الإنسانية والعلوم الأساسية والطبيعية)، وقيم ( أنماط تفكير وسلوك، وعادات ومُثل)،
ونظم ومؤسَّسات ( الأسرة، المسجد، المدرسة، الأوقاف والأحباس، الخلافة...)، وإبداع
وصنع: (الغناء والموسيقى والتراث الشعبي، والفنون المعمارية والزخرفية
والتصويرية..).
والتراث ظاهرة
إنسانية نجدها في جميع المجتمعات، فلكل أُمَّة تراثها، على الرغم من أن الأمم
تختلف من حيث عمق تراثها الحضاري في التاريخ أو ضخامته أو بساطته. كما أن جميع
الأمم تشترك في تراثٍ إنسانيٍّ عام. ولهذا فإن "التراث" يشمل التراث
القومي " ما هو حاضر فينا من ماضينا" والتراث الإنساني " ما هو
حاضر فينا من ماضي غيرنا". ومن ناحية أخرى، قد يُنظَر إلى التراث من حيث
مجالات تخصُّصه، فتكون له أنواع مثل " التراث العلمي " و " التراث
الجغرافي" و" التراث الشعبي"، إلخ.
وقد راجت
انطباعات خاطئة عن التراث مفادها بأنه محصور في النحو والفقه و ذلك نتيجة اقتصار حركة
إحياء التراث العربي في بدايتها خلال القرن التاسع عشر، على تحقيق المخطوطات
التراثية التي تتناول اللغة والأدب والتاريخ والفقه والتفسير والحديث. وكانت تلك
المخطوطات قد كُتبت في عصور مختلفة من مسيرة الأمة العربية: عصور الازدهار وعصور
الانحطاط، وتحمل كماً هائلاً من المعارف المختلفة والمنهجيات المتباينة، منها
العقلاني ومنها الخرافي، منها ما يدعو إلى الوحدة ومنها ما يبث التفرقة الطائفية
والمذهبية، منها ما يدعو إلى نقد الأوضاع الاجتماعية ومقاومة الظلم، ومنها ما يفرض
الطاعة للسلطان الغاشم بوصفه ظلّ الله في الأرض.
ولهذا أخذ مفهوم التراث لدى بعضهم يقتصر على
المخطوطات التي تتناول علوم العربية والإسلام، وساد شعور لديهم بأن " إحياء
التراث" يعني تحقيق المخطوطات البالية ونشرها، وأن التراث يقتصر على ما هو
قديم وسلبي من العلوم الإنسانية، ونُسِي أهم مظاهر الحضارة العربية إبان ازدهارها
مثل حرية الفكر وحرية الحوار وحرية الانتقال، انتقال الأفكار والأفراد والسلع،
والاعتماد على العقل والتجربة وطلب المعرفة حيث كانت. وأثار بعضهم مسألة قيمة هذا
التراث وجدواه في محاولتنا لتحقيق التنمية والتطور. فدارت معارك فكرية بين أولئك
الذين يقدِّسون التراث فقالوا " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به
أوّلها" وبين أولئك الذين أضحى التراث، في نظرهم، مسؤولاً عن هزائم الأمة
وانكساراتها ورأوا ضرورة التخلُّص من كل ما هو قديم والأخذ بالجديد من أجل اللحاق
بالغرب المتطور. وأطلق على هذه المعارك الفكرية اسم " القديم والجديد"
وما يتعلَّق بها من مقارنات بين " الشرق والغرب" أو " الإسلام
والغرب" أو "العرب والأوربيين".
س 2 ـ ما
علاقة تطور اللغة الوطنية ، بالتراث ؟
ج 2 ـ اللغة عنصر من عناصر التراث، ولكنها
العنصر الأهم والأخطر فيه، لأنها الوسيلة
الفعالة في نقل الأنماط التراثية بين أفراد المجتمع، ولأنها الوسيلة الأساسية في
حفظ التراث وتراكمه، ونقله من جيل إلى جيل، ولأن بنياتها اللسانية تؤثِّر في البنيات
الفكرية للتراث وتتأثر بها، ولأنها وسيلة إدماج لإفراد المجتمع على اختلاف
مستوياتهم الاقتصادية وتوجهاتهم السياسية. ولهذا كلِّه قيل إنه لا أُمّة بدون لغة،
وأن اللغة هي هوية الأمة. وأنتَ تستطيع أن تقف على تقدّم الأمة والتطور الذي بلغته
في مرحلة تاريخية ما، بإلقاء نظرة فاحصة مدققة على معجمها اللغوي، وما يشتمل عليه
من مضامين فكرية ومصطلحات علمية وتقنية، وأسماء أدوات ومخترعات. فغنى المعجم
اللغوي يدّل على المستوى العلمي والأدبي والفني الذي بلغته الأمة.
ومن
ناحية أخرى، فإن استثمار التراث في الحاضر لبلوغ مستقبل أفضل، يتوقَّف على اللغة
الوطنية. فلا يمكن تحقيق تنمية بشرية يتمتع الأفراد فيها بصحة جيدة وتعليم رفيع
ودخل يؤمن حياة تليق بالكرامة الإنسانية، ما لم نقيم مجتمع المعرفة. ولا يُقام
مجتمع المعرفة دون وجود أداة نفاذ إلى مصادر المعلومات، بحيث يستطيع جميع
المواطنين تلقّي المعلومات، وتبادلها، واستثمارها، والإبداع فيها. والمقصود بأداة
النفاذ إلى مصادر المعلومات وتبادلها هو اللغة. وتشبّه اللغة التي هي وسيلة تبادل
الأفكار، بالعملة التي هي وسيلة تبادل السلع، فكلّما كانت هذه العملة موحدة وقوية
ويمتلك جميع أفراد المجتمع رصيداً جيداً منها، تيسّرت عملية تبادل السلع وتطوّر
الاقتصاد.
س3 ـ يعتبر
المفكر المغربي محمد عابد الجابري في مؤلفه
" نحن والتراث " الصادر عام 1980 ، أن لا سبيل إلى التخلُّص
من سلطة تراث الماضي المتخلِّف، ووضع حدٍّ لتحكمه في حاضرنا ومستقبلنا ، والدخول في
عصر الحداثة ، إلا بإحداث ـ قطيعة معرفية ـ معه ، ... أولا ، ما المقصود بـ (القطيعة
المعرفية) ؟ وهل تعتقدون أن القطيعة مع التراث ممكنة فعلياً ؟
ج 3 ـ رأى فقيدنا
الدكتور محمد عابد الجابري أن لا سبيل إلى التخلُّص من سلطة تراث الماضي المتخلِّف
ووضع حدٍّ لتحكمه في حاضرنا ومستقبلنا، والدخول في حداثة العصر، إلا بإحداث قطيعة
معرفية معه بحيث نتوسل بعقل الحداثة، فلا سلطة إلا للعقل، وضرورات الواقع، ومتطلّبات
التنمية. وأسوء ما في التراث المتخلِّف هو طريقة التفكير. ولهذا فقد نشر الفقيد كتابه
" نحن والتراث" بوصفه إرهاصاً لكتابه " تكوين العقل
العربي" الذي ينتقد فيه طرائق التفكير التي ورثناها من عصور الانحطاط،
ويدعو إلى قطيعة معرفية معها، والتخلي عنها لصالح طرائق علمية موضوعية تساعدنا على
تحقيق النهضة المنشودة.
ومصطلح "القطيعة المعرفية (أو
الإبستمولوجية)" ظهر على يد فيلسوف العِلم الفرنسي غاستون باشلار
(1884ـ1962)، ليدل على مفهومَين:
الأوَّل، تخلّي
العالِم في المختبر عن المعرفة التقليدية الشائعة، والأخذ بالمعرفة العلمية
الموضوعية القائمة على التجربة والبرهان.
الثاني، القطيعة بين
الأنظمة المعرفية في تاريخ العِلم. والنظام المعرفي هو مجموعة من المفاهيم
والمقولات وطرائق التفكير التي تمكِّننا من حلِّ المشكلات أو التوصل إلى معرفة
جديدة تطوّر حياتنا. فعندما يصل النظام المعرفي الذي نستخدمه إلى طريق مسدود ولا
يستطيع معالجة الإشكاليات التي تواجهنا، لا بدَّ لنا من تغيير الزاوية التي ننظر
منها إلى الأشياء، أي التخلي بوعي تام عن ذلك النظام المعرفي القديم وتبني نظام
معرفي جديد يستطيع التعامل مع الإشكاليات التي عجز النظام المعرفي القديم من
التعامل معها. فالتطور العلمي لا يتوقف على التراكم الكمي فحسب، بل على آليات التفكير
الجديدة أيضاً.
وفيما اشتغل
باشلار على المفهوم الأول لمصطلح القطيعة المعرفية، تبنّى المفهوم الثاني وطوَّره
ثلاثة من المفكرين هم: الفيلسوف الناقد الفرنسي ميشيل فوكو (1926 ـ1984) الذي اتبع
طرائق بحث جديدة في كتابه " تاريخ الجنون" ، والفيلسوف الفرنسي
لويس ألتوسير(1916 ـ 1990) الذي أعاد قراءة ماركس قراءة بنيوية فبيَّن أن ماركس في
كهولته قد قطع صلته الإيديولوجية والمثالية بالفلسفة الألمانية وتبنّى مقاربة
علمية ونظرية قرأ فيها الأشياء قراءة نسقية توضّح بنيتها الداخلية ونظامها
الهيكلي؛ ومؤرخ العِلم الأمريكي توماس كوهن (1922 ـ 1996) صاحب كتاب " بنية
الثورات العلمية" الذي برهن فيه على أن التطوُّر العلمي ليس بالضرورة
تراكمياً وتدريجياً، وإنما قد يتأتّى من ثورات بنيوية يتم فيها تغييرُ نسق البحث
وآلياته. وأصبح للقطيعة المعرفية مفهوم مختلف شيئاً ما لدى كل واحد من هؤلاء المفكرين
الثلاثة.
وعندما استعار
الباحثون العرب مصطلح " القطيعة المعرفية " من أولئك المفكِّرين
الغربيين، طبقوه على التراث بطرق مختلفة.
والسؤال الذي
وجَّهتَه إليَّ هام جداً وهو: هل نستطيع إحداث القطيعة مع التراث بصورة فعلية؟
وتتطلب الإجابة على هذا السؤال أن نشير،
أولاً، إلى أن الإنسان يمتاز عن الحيوان في القدرة اللغوية وقابلية التفكير
والعمل. فالحيوان لا يستطيع الاستفادة من خِبَر وتجارب أسلافه من الحيوان، ويقتصر
الإرث الذي يناله على الإرث البيولوجي؛ في حين أن الإنسان قادر على الاستفادة من
معارف إسلافه وخبراتهم وأفكارهم، والإضافة إليها وتطويرها بتجاربه ومعارفه وعلمه،
من أجل بناء حاضره وتقدمه في مستقبله. وحتى لو أراد القطيعة مع بعض المعارف أو
القيم أو طرائق التفكير التي ورثها عن الأسلاف، لا بُدَّ له أولاً أن يتلقّاها
وينقدها ليعرف عجزها لكي يتخلى عنها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإننا لا
يمكننا، حتى لو أردنا، إحداث قطيعة تامة مع بعض عناصر التراث، مثل اللغة والقيم
والعادات والتقاليد والمشاعر، لأن هذه العناصر يستغرق نشوؤها وتكوّنها حقباً
تاريخية طويلة ولا يمكن إلغاؤها بضربة لازب، فأنت تستطيع أن تنقل البدوي من خيمته
إلى عمارة شاهقة خلال ساعات، ولكنك لا تستطيع تغيير قيمه ومثله وتجعله يتحدّث بلغة
شكسبير أو موليير بنفس السرعة.. فاللغة، مثلاً، وهي أهم عناصر التراث، لأنها
وسيلته الأساسية في نقل المعرفة وتراكمها من جيل إلى جيل، ولا يمكن القطيعة معها
واستبدالها بلغة أخرى دون حدوث صعوبات خطيرة على مستوى التفكير وتمثُّل المعلومات
والإبداع، ودون المخاطرة بهُوية الأمة وتماسكها. وهنا يكمن أحد أسرار وأسباب
تخلُّف الأمة العربية علمياً وتكنولوجياً في العصر الحاضر؛ فالحكومات العربية تصر
ـ مخالفة بذلك إجماع علمائها ومفكريها ـ على استخدام لغة المستعمِر القديم
(الإنكليزية أو الفرنسية) في تدريس العلوم والتكنولوجياً، دون أن تدرك أن تراث كل
أمة من الأمم يشتمل على منظومة مفهومية خاصة بها تنسجم وتتفاعل مع بنية لغتها،
واستبدال وسيلة نقل المعرفة وتمثّلها (اللغة) يؤدي إلى بطء في الفهم، وصعوبة في
التمثّل والإبداع، وعرقلة في تبادل المعلومات بين الأفراد والمؤسسات، ما يستحيل
معه إقامة مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشرية المنشودة.
نعم، تستطيع
أن تقوم بقطيعة فعلية مع بعض أساليب اللغة، وليس مع اللغة برمتها. تستطيع، مثلاً،
أن تتخلى عن أسلوب السجع المرصع بالمحسّنات البديعية، وتستعمل بدلاً منه أسلوب
النثر المُرسل الذي يواكب سرعة العصر ومتطلباته.
وفي حقيقة الأمر لم يدعُ المرحوم الدكتور
الجابري إلى قطيعة تاريخية تامة مع التراث، وإنما إلى قطيعة معرفية مع نماذج معينة
من التراث. فقد أعلن في مقدمة كتابه " نحن والتراث" بكل وضوح أنه
يدعو إلى " إحداث قطيعة ابستمولوحية تامة مع بنية العقل العربي في عصر
الانحطاط وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر." وهو لم
يدعُ إلى عدم قراءة التراث، وإنما يريد " قراءات معاصرة" عقلانية
تاريخية، وليست " قراءة سلفية
للتراث "... من أجل إقرار طريقة "ملائمة" في التعامل مع
التراث". فالقطيعة التي يدعو إليها الجابري " ليست القطيعة مع
التراث بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحوّلنا من كائنات
تراثية إلى كائنات لها تراث"، كما قال بالحرف الواحد في تلك المقدمة.
إذن، فهو يدعو إلى تجديد التراث، وفق رؤية
معاصرة بحيث ننتقي منه النماذج الإيجابية التي تساعدنا على بناء حاضرنا ومستقبلنا،
ونترك نماذجه السلبية أو نعدّلها. فتجديد التراث يعني اختيار النماذج النافعة من
تراثنا اختياراً قائماً على الفهم والتمييز والنقد والمفاضلة بين العناصر
التراثية، وجعل الصالح منها منطلقاً إلى الإبداع والابتكار بطريقة تعبر عن ذاتية
الأمة.
س 4 ـ أمام
واقع أن المجتمع المغربي ، تتعايش بداخله ثقافات
وعادات مختلفة... وأمام أنه ليست اللغة العربية،
اللغة الوحيدة السائدة فيه، ما هي محددات الإنسان المغربي ؟ و كيف يمكن في اعتقادكم
تحديد هوية الأمة المغربية ؟
ج
4 ـ
لستُ مؤهلاً للإجابة على هذا السؤال، فأنا
أتشرَّف بضيافة المغرب العزيز لي. والمغرب
بلد عريق الحضارة، سامق الثقافة، ولود للمفكّرين البارزين القادرين على تحديد
خصائص الإنسان المغربي وتحديد هوية الأمة المغربية المجيدة. وقد فعلوا ذلك، وكان
المرحوم الدكتور الجابري أحدهم.
ولكنني بوصفي أحد المشتغلين بعلوم
اللغة، أستطيع أن أتحدث عن التعدّد اللغوي وكيفية التعامل معه من منظور ما يُسمى
بالتخطيط أو التدبير اللغوي.
في تقرير التنمية البشرية لعام 2004
الذي أصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة بعنوان " الحريات الثقافية في
عالم متنوع"، والذي اضطلعتُ بمراجعة ترجمته، تشير إحصائيات الأمم المتحدة
إلى أنه لا توجد دولة واحدة على الإطلاق من بين الدول الـ 177 التي شملها التقرير،
تمتاز بنقاء العرق، أو وحدة اللغة، أو انفراد الثقافة. فكل دولة مهما كانت صغيرة
تتوفر على أكثر من عرق بشري، وأكثر من لغة. فالتعدد اللغوي والعرقي ظاهرة عالمية
عامة. ويدعو هذا التقرير إلى تنمية اللغات وثقافاتها الوطنية الموجودة إلى جانب
اللغة الرسمية والثقافة السائدة في كل بلد، لأن الحقوق اللغوية والثقافية جزء من
حقوق الإنسان التي يساعد احترامها على القضاء على التوترات الاجتماعية وتسريع وتيرة
التنمية البشرية.
وإذا أخذنا البلدان الأعضاء في جامعة
الدول العربية في النظر، وجدنا أن اللغة العربية ليست هي اللغة الوحيدة فيها، بل
توجد لغات وطنية أخرى إلى جانبها مثل اللغة السريانية القديمة (الأرامية) في
سوريا، والآشورية في العراق، والنوبية في مصر، والأمازيغية في بلدان شمال أفريقيا،
إضافة إلى أن اللغة العربية نفسها تعاني الازدواجية اللغوية، أي أن لها مستويين
أحدهما معياري (فصيح) والآخر دارج (عامي)، وظاهرة الازدواج اللغوي، هي الأخرى،
ظاهرة عالمية، خاصةً في اللغات الكبرى.
ولهذا وُجد علم التخطيط اللغوي الذي
تضطلع به الدولة لضمان الحقوق اللغوية لجميع مواطنيها، وفي الوقت نفسه لضمان مصلحة
الأمة بما فيها مصلحة جميع أفرادها.
ويُعرّف
"التخطيط اللغويّ" بأنه نشاط رسميّ تضطلع به الدولة وتنتج عنه خُطَّةٌ
تنصبّ على ترتيب المشهد اللغويّ بما فيه اللغة المشتركة (أو الرسمية) واللغات
الوطنية واللغات الأجنبية. وينتج عن التخطيط اللغوي سياسةٌ لغويةٌ للدولة تلتزم
بها في جميع مرافقها، في التعليم والإعلام والإدارة والحياة العامة.
يراعي التخطيط اللغوي، عادة، تنمية اللغات الوطنية وعدم
التفريط بها حتى إذا وجدت في البلاد لغة رسمية لها مكانة متميزة. وفي الوقت نفسه ينمّي اللغة
الرسمية بوصفها أداة إدماج اجتماعي ولغة تواصل مشتركة. وقد أصدرتُ مؤخراً في بيروت
كتاباً بعنوان " لغة الطفل العربي: دراسات في
السياسة اللغوية وعلم اللغة النفسي" (بيروت: مكتبة لبنان، 2009)
يتناول هذا الموضوع بالتفصيل.
وتمرّ جهود التخطيط اللغويّ،
عادة، في مراحل عديدة، أهمُّها: مسح الاحتياجات وتحليلها، باستخدام منهجيّات
التحليل السياسيّ والاجتماعيّ لأنماط التواصل في البلاد؛ واختيار لغة رسميّة
مشتركة للبلاد بحيث تُستخدَم هذه اللغة
الرسميّة في جميع مرافق الحياة الثقافيّة والتربويّة والإعلاميّة والاقتصاديّة،
إلخ.، وإخضاع اللغة الرسميّة المشتركة لجملة من الإجراءات لتمكينها من القيام
بدورها، مثل تيسيير قواعدها، وتوحيد مصطلحاتها العلمية، وتنمية مفرداتها وبنياتها
وأساليبها، وتوفير وسائل طباعتها وحوسبتها وذلك لتمكين اللغة من أداء وظيفتها
التواصليّة في مقامات مختلفة وأغراض متعدّدة وعلى أوسع نطاق؛ وإنشاء المؤسَّسات
التي تساعد على تيسير استعمال اللغة المختارة وإشاعتها، مثل تأسيس المجامع
اللغويّة، وتصنيف المعاجم المتنوّعة، وكلّ ما من شأنه أن يصون اللغة وييسِّر استعمالها.
ومن حسن حظ الدول الأعضاء في جامعة
الدول العربية، أن الثقافات الوطنية المتعددة فيها تشترك في ثقافة كبرى عامة هي
الثقافة الإسلامية. فأكثر الناطقين باللغات الوطنية غير العربية، يعدّون لغة
القرآن الكريم جزءً من ثقافتهم الخاصة ويستعملونها في صلواتهم اليومية. أضف إلى
ذلك أن جميع المسلمين في العالم من إندونيسيا وماليزيا إلى نيجيريا واتحاد أفريقيا
يعتزون كذلك بلغة القرآن الكريم، ويتعاطفون مع قضايانا العادلة بفضل مشاعرهم تلك.
وبعد هذا كله، فإن اللغة العربية تعدّ في طليعة اللغات العالمية لا بفضل عدد
الناطقين بها الذي يتجاوز الـ 350 مليون فحسب، بل كذلك لأسباب عقائدية وجغرافية
وتاريخية واقتصادية ولسانية. ولهذا كله تبوأت مكانتها بوصفها إحدى اللغات الرسمية
الست في مؤسسات منظومة الأمم المتحدة. وقد توصَّل العالم اللغوي الكندي جون ماكي
في سبعينيات القرن العشرين، طبقاً لمعادلة صممها لترتيب اللغات العالمية حسب
أهميتها، إلى أن العربية هي اللغة العالمية الثانية، بعد الإنجليزية وقبل
الإسبانية.
والاهتمام الذي ينبغي أن نوليه اللغة
العربية لتكون أداة فعالة لإقامة مجتمع المعرفة وتحقيق التنمية البشرية المنشودة،
لا ينبغي أن يقلل من الاهتمام الواجب أن تحظى به لغاتنا الوطنية الأخرى، وتدريسها،
وإقامة المؤسسات التي تعنى بها، وتنمية ثقافاتها. كما لا ينبغي أن يقلل من
اهتمامنا بتعليم اللغات الأجنبية، وليس التعليم بها.
ومن أمثلة
السياسات اللغوية المعاصرة الناجحة، تلك التي تبنتها كوريا الجنوبية التي كانت تعدّ
أفقر دولة في آسيا سنة 1960 وأصبحت اليوم أغنى سادس دولة في العالم، بفضل سياساتها
التنموية البشرية الجيدة التي اتخذت من اللغة الوطنية أداة لنشر التعليم الجيد
الشامل على نفقة الدولة، والأخذ بآخر معطيات العلوم والتكنولوجية في الزراعة
والصناعة والخدمات، والالتزام بالديمقراطية في جميع مناحي الحياة. كانت اللغة
الكورية شبه ميتة، لأن الاستعمار الياباني خلال النصف الأول من القرن العشرين ألغى
اللغة الكورية وأحلَّ محلها اليابانية. إضافة إلى أن الكورية ذات لهجات دارجة
متعددة. فقررت الدولة استخدام اللغة الكورية الفصيحة المشتركة في التعليم والإعلام
والحياة اليومية. وتوجد في كوريا 111 محطة إذاعة وتلفزة كلها تستخدم اللغة الكورية
المشتركة، مع أن الدولة لا تمتلك إلا محطة واحدة وبقية المحطات يملكها الخواص.
وتتولى الدولة ترجمة أفضل الكتب العالمية إلى اللغة الكورية سنوياً.
أجرى الحوار: خلدون المسناوي
جريدة الإتحاد الإشتراكي