الخَطَـر قصة قصيرة بقلم الدكتور علي القاسمي
" نقلاً عن صحيفة المثقف".
الخَطَـر
- د. علي القاسمي
سرى
الخبر في بلدة "العريقة" بسرعةٍ مَهُولةٍ كما تسري النّار في هشيم حَلفاءَ
جافةٍ، على حدِّ تعبير الدكتور عبد الحكيم، الطبيب الوحيد في البلدة، الذي
لاحظ أنَّ الناس أخذوا ينتقلون مسرعين مذعورين من زقاقٍ إلى زقاقٍ، ومن
منزلٍ إلى منزلٍ، ومن حارة إلى حارة، لإبلاغ النبأ إلى ذويهم، وأصدقائهم،
ومعارفهم، ليلزموا الحذرَ، ويأخذوا احتياطاتهم؛ ونتجَ عن ذلك جوٌّ من الهلع
والهستيريا الجماعيّة بين الأهالي، فوقعتْ حالاتُ إغماء عديدة، خاصّةً بين
النساء والفتيات والأطفال، حسبَ ما ذكره السيد عبد المعين مأمور المستوصف
الذي تشكّى من عدم كفاية الأدوية، وقلَّة المخزون من غاز النشادر الذي
تعالَج به حالات الإغماء عادةً؛ ونُقِل عن السيد عبد الشافي، المُمرض
الوحيد في المستوصف، أَنَّه اُضْطُرّ إلى العمل طَوال النهار وحتّى ساعةٍ
متأخِّرةٍ من الليل دون أن يُتاحَ له وقتٌ للراحة أو لتناول وجبات الطعام.
وفي مقهى الأماني الواقع على ربوة تُطلُّ على البلدة، كان
جَمعٌ من الأصدقاء يتحلّقون في المساء حول إحدى المناضد التي وُضعت عليها
قطعُ لُعبةِ الدومينو دون أن تمتدَّ إليها أيديهم، بل ودون أن يتناولوا
الشاي الذي وضعه النادل أمامهم منذ وقتٍ ليس بالقصير، كما ذكر النادل عبد
الودود الذي قال إنَّ شغلهم الشاغل كان الحديث عن الخطر المُحدِق بالبلدة،
وإنَّ أحدهم اسمه عبد الرزاق، وهو بقّالٌ في السوق، تحدّثَ عن ازديادٍ
كبيرٍ في مبيعات المواد الغذائية، لأنَّ كثيراً من الناس يفضّلون خزنَ ما
يكفي من المؤونة، تحسُّباً لاحتمالِ لزومِ منازلهم حتّى يزول الخطر، وأضاف
معلِّقًا: أن يموتَ الإنسانُ وهو شبعان خيرٌ من أن يموت وهو جوعان.
ويُستخلَص مما قاله عبدُ اللطيف، بوّابُ المدرسة، بشيءٍ من الاستياء، أنَّ
كثيرًا من الآباء امتنعوا عن إرسالِ أبنائهم إلى المدرسة بعد أن شاع النبأ.
ولكنَّ عبد الرزاق أَيّدَ موقف الآباء مُعلِّلاً ذلك بأنّهم يفضِّلون أن
يعيش الولد وهو جاهل على أن يموت وهو عالِم. فخالفه عبد اللطيف مُردِّداً
مقولة " العِلم حياةٌ والجهل مماتٌ"، وهي مقولةٌ ابتكرها معلِّمُ اللغة
العربيَّة في مدرسة البلدة (كما أخبرهم بذلك عبد السميع) وطلبَ من التلاميذ
من ذوي الخطّ الحَسِن أن يكتبوها على بضعِ قطعٍ من الورق المقوّى،
ويعلِّقوها على جدران المدرسة في أماكن متعدِّدة. ويُقال إنَّ هذا
المُعلِّم كثيراً ما يقف أمام إحدى هذه القطع وهو يحدِّق فيها مبهوراً،
تعبيراً عن إعجابه ببلاغة حكمته النادرة، وعُمق بُعدها الفلسفي، كما
يتندَّر بعض التلاميذ المشاغبين.
ونُقِل عن الأستاذ عبد الزاكي، أحد معلِّمي المدرسة الأربعة،
أنَّ الأستاذ عبد العليم، مديرَ المدرسة، أَمرَ بإحضار التلاميذ الثلاثة
الذين أشاعوا الخبر أوَّلَ مرَّةٍ، إلى مكتبه لاستجوابهم بنفسه بحضور جميع
معلمي المدرسة، وأنَّ التلميذ عبد الجبار، وهو في السنة السادسة الابتدائية
ويبلغ من العمر حوالي اثني عشر عاماً أَكّدَ للمدير أَنَّه كان يتنزَّه مع
زميليه عبد القوي وعبد الرحمن، عندما رأوا الوحش على ضفة النهر (ويبعُد
هذا النهر عن البلدة بسبعة أميال)، وأنَّ سعادة المدير أراد أن يعرف حجمَ
الوحش وشكلَه بالضبط، فأخبره التلميذ عبد الجبار أنَّ طوله حوالي ثلاثة
أمتار (ولكنَّ زميله عبد الرحمن قاطعه مُصرّاً على أنَّه أطول من ذلك بكثير
وأنه ضخم الجُثَّة كذلك)، وأنَّه كان يزحف بسرعةٍ مثل جنديّ مهاجم، وعلى
ظهره درعٌ مدوَّرٌ (فقاطعه عبد الرحمن مرَّة ثانية قائلاً إنَّه ليس
مدوَّراً بالضبط ولكنَّه يبدو صلباً مثل قطعة فولاذيّة) وإنَّه أخرج رأسه
من تحت الدرع، ثمَّ مدَّ رقبته مسافة متر أو مترين إلى الأعلى في الهواء
واستدار نحوهم وتوجَّه إليهم؛ وأضاف عبد القوي الذي كان يتحين الفرصة ليقول
شيئاً ما: فأطلقنا سيقاننا للريح، وقد تقطَّعتْ أنفاسُنا قبل أن نصل
البلدة. وطبقاً للأستاذ عبد الوهاب، المُعلِّم الأقدم في المدرسة الذي كان
في مكتب المدير مع بقية المعلِّمين حينئذٍ، فإنَّ الخوف كان يُطلُّ من عيون
التلاميذ، ووجوههم مُصفرَّة، وأيديهم مرتجفة، وهم يَرُوون ما شاهدوه،
وأنَّهم لا محالةَ صادقون.
وروى الذين نقلوا وقائع ذلك الاستجواب، أنَّ الأستاذ عبد
الزاكي أراد أن يعرف ما إذا كان ذلك الوحش الذي شاهدوه قد خرج من النهر، أم
قَدِمَ من جهة أُخرى؛ ولكنَّ التلاميذ لم يعرفوا من أين أتى بالضبط. وسارع
عبد الجبار إلى القول، إنّنا رأيناه أوَّل مرَّة رابضًا على ضفة النهر،
ولم يتحرَّك إلا بعد أن أحسَّ بوجودنا، فأخرج رأسه من تحت الدرع وأداره
نحونا، وصوَّب نظراته إلينا، واتَّجه نحونا. وهنا تساءل الأستاذ عبد
الوهّاب عن جدوى السؤال قائلاً: ليس المُهمّ الجهة التي وصل منها، الشرق أو
الغرب، الشمال أو الجنوب، وإنّما المهمّ هو وجوده هناك على ضفة النهر الذي
لا يبعد عن القرية سوى بضعة أميال، وقد يكون الآن على مشارفها ونحن ما
زلنا نتناقش. فردَّ الأستاذ عبد الزاكي بقوله، طبعاً، يا أستاذ، الفرق كبير
بين ما إذا كان هذا الوحش من الحيوانات البرية أو من الحيوانات البحرية
وتسرَّب لسبب أو لآخر إلى النهر سابحاً ضدَّ التيار. ولكنَّ الأستاذ عبد
القادر، معلِّم العلوم، الذي ظلّ مُطرقاً طوال الوقت، رفع رأسه في تلك
اللحظة وقال، وهو يمطُّ كلماته ويشدِّد على مواضع النبر فيها: إنّني أظنُّ،
بلْ أعتقد جازمًا، أنَّ ما شاهده التلاميذ الثلاثة ليس حيواناً بريّاً،
ولا مائيّاً، ولا برمائيّاً، كما يتبادر إلى الذهن أوَّل وهلة، وإنّما هو
من كائنات الكواكب الأخرى، ومن المحتمل جدّاً أنَّه هبط بأحد الأطباق
الطائرة أو بمركبة فضائيّة أخطأتها عيون التلاميذ بسبب الدهشة التي
اعترتهم، أو أنّها كانت قد أُخفيت في الغابة القريبة بخُبثٍ ودهاء؛ ومن
الممكن أن لا يكون هذا الكائن الذي رآه التلاميذ وحيداً بل مدعَّماً بعددٍ
من الكائنات الشبيهة له، المتوارية عن العيون، بكيفيَّةٍ ما، بطاقة إخفاء،
مثلاً. ونُقِلَ عن مدير المدرسة أنَّه بعد هنيهةِ تردُّد، سأل الأستاذَ عبد
القادر ما إذا كان يظنّ أن رقبة ذلك الكائن الطويلة التي خرجت من تحت
الدرع هي بمثابة ماسورةِ مدفعٍ ثقيلٍ يستطيع أن يوجِّه نيرانه منها إلى
البلدة فيدمِّرها. ولكن الأستاذ عبد القادر، حسب ما رواه التلاميذ الثلاثة
الذين كانوا ما يزالون في مكتب المدير حين جرى ذلك الحديث، أحجمً عن الجواب
مُعلِّلاً الأمر بأنّه لا يمكنه التكهُّن بسلوك الكائنات القادمة من
الكواكب الأُخرى، إذ لا تتوفَّر دراساتٌ علميّةٌ كافيةٌ عن طبيعة تلك
الكائنات، ودرجة عدوانيّتها لسكان الأرض؛ فقد يبتسم أحدُهم ويبشّ في وجهكَ،
ثمُّ ينفخ عليك نفخةً تُحيلكَ إلى رمادٍ متطاير، وقد يزمجرُ أحدهم غاضباً
ثُمَّ يُخرِج يده من تحت ردائه حاملةً باقة زهور فيقدِّمها لك.
ويبدو أنَّ وقائع هذه الجلسة في مكتبِ مديرِ المدرسة قد
انتشرتْ في البلدة عن طريق عائلاتِ التلاميذ الثلاثة والمعلِّمين الذين
شاركوا فيها، ولم يعُد الناس يتحدَّثون عن وحشٍ كاسرٍ، وإنّما عن مخلوقٍ
مخيفٍ من الكواكب الأُخرى. وذكرَ العمُّ عبد الحافظ، حارسُ البلدة، أنّه
شاهد عدداً من الأشخاص وهم يغادرون البلدة ليلاً باتّجاه المدينة التي تقع
على بُعد أربعين ميلاً إلى الشمال الغربيّ، وهم يمتطون دوابهم أو يركبون مع
عائلاتِهم وحيواناتهم المنزليَّة في عرباتٍ تجرُّها الحمير والثيران
والخيول. وعلَّق رفيقه عبد الستار الذي كان معه في مقهى البلدة، على ذلك
الخبر بقوله: ألَمْ تسمع بالمَثَل المشهور "الهزيمة نِصْـف الغنيمة"؟ وحكى
جليسهم السيد عبد المهيمن الذي يعمل آذنا في مركز الشرطة بالبلدة، أنَّ
الشرطة الأربعة قالوا صراحة إنَّهم لا يستطيعون أنْ يفعلوا شيئاً بدون
أوامر محدَّدة واضحة تصدر إليهم من رئيسهم، ولكنَّ هذا الأخير، وهو برتبةِ
مفوَّض شرطة وقائم بمأموريّة المركز، ليس موجوداً في البلدة آنذاك، لأنَّه
كان يتمتَّع بعطلته السنويَّة لمدَّة شهر مفتوح (أي خمسة أسابيع تقريباً
لعدم احتسابِ عُطل نهاية الأسبوع ضمن مدَّة العطلة السنويَّة)، وكان يمضي
عطلته تلك مع أبويه في مدينتهم التي تقع شمال شرقيّ البلاد، وقد اصطحب
زوجته وأطفاله معه. وحسب رواية عبد المهيمن فإنَّ أحد هؤلاء الشرطة الأربعة
كان قد عاقبه رئيسُه ذات مرَّةٍ، بقطعِ أجرةِ ثلاثة أيام من راتبه، لأنّه
تصرَّف من تلقاء نفسه وبدون أوامر من رؤسائه، حينما أوقف كبشاً هاجم أحد
المارّة وانهال عليه نطحًا، وقد نبَّهه رئيسُه إلى ضرورة إجراء التحقيق مع
الكبش وصدور مذكرةِ توقيفٍ بحقّه من قِبل القاضي قبل توقيفه، احتراماً
لحقوق الحيوان المنصوص عليها في لائحة جمعيّة الرفق بالحيوان التي أُغلق
مقرُّها منذ سنين طويلة.
وحكى بعض المصلِّين أنَّ الشيخ عبد المؤمن الذي عيّنته وزارة
الشؤون الدينيَّة مؤخَّراً إماماً في مسجد البلدة، والذي حصل على ترقية بعد
أسبوعَين من تعيينه، قد كرًّس خُطبة الجمعة للبلاء الذي يوشك أن يحيق
بالبلدة ويمحقها، وشدَّد في خُطبته على أنَّه نوع من العقاب الربّانيّ بعد
أن عمَّ الفساد بين العباد في البلاد، وزَيَّن لهم الشيطانُ معصيةَ الخالق
عزّ وجلّ وأُولي الأمر منهم. وقال أحد المصلِّين الذي فضّل عدم ذكر اسمه،
إنَّه مما لا شكَّ فيه أنَّ الإمام كان يلمِّح إلى ما قيل عن بعض شباب
القرية الذين لا يقفون منحنين عند المرور أمام تماثيل وليّ الأمر المنتشرة
في أزقة القرية بأعداد تفوق أعداد المارة، وهم لا يفعلون ذلك طبعاً إلا
عندما يكونون متأكِّدين من أن أحداً لم يرَهم.
وقد اجتمع شيوخ البلدة تلك الليلة، طبقاً لرواية السيد عبد
الوديع، لتدارس الأمر بعد أن ثبتَ لديهم أنَّ البلدة سيجتاحها ذلك المخلوق
القادم من الكواكب الأُخرى، وفي الاجتماع اقترح عبد الهادي أن تُرتَّب
هجرةٌ جماعيّة لسكّان البلدة حفاظاً على أرواحهم وممتلكاتهم وأعراضهم؛
واعترض عبد القهّار على هذه الفكرة مشيراً إلى الصعوبات العمليَّة في
تطبيقها؛ وقال عبد الرفيع: لا بُدَّ أن نتساءل عن هدف هذا المخلوق
الكواكبيّ من المجيء إلى بلدتنا؛ ماذا يريد منا؟ فإذا عرفنا العِلّة أصبح
العلاج سهلاً. فأجاب عبد الرؤوف قائلاً: وماذا يريد منا غير خيراتنا
وأموالنا؟ هذا أمرٌ لا نقاش فيه؛ فردَّ عبد الرفيع بنبرةِ ارتياح، إذن،
نعطيه كلَّ شيءٍ، بل نفوّض أمر البلدة إليه لكي ننقذ أرواحنا. وهنا انبرى
عبد الغنيّ، عمدة البلدة، وانتزع إعجاب الشيوخ برأيه عندما قال: إنَّ هذا
المخلوق سيكون مسروراً إذا قدَّمنا له فروض الطاعة والولاء، وعرضنا عليه
كلَّ ما يرغب فيه من أموال ونفائس، وأضاف: أقترحُ أنْ نبادر بالذهاب إليه،
رافعين الرايات البيضاء، مهلِّلين فرحين، والبسمة على شفاهنا وفي عيوننا،
وهي علامات سيدرك مدلولها، وستُشيع السرور في نفسه، فيرضى علينا، فيصرف
شرّه عنا.
وحسب ما رواه عبد المنّان فإنَّ الناس تجمّعوا ذلك الصباح،
وانتظموا جميعاً في صفٍّ واحدٍ، وساروا نحو النهر، وهم يحملون رايات بيضاء،
ولافتات عريضة كتبوا عليها بخطٍّ واضح: مرحباً بكم في بلدة العريقة
(فصحَّحه عبد الحليم قائلاً، إن معظم اللافتات كانت تقول: حللتم أهلاً
ونزلتم سهلاً )، وتابع عبد المنّان كلامه قائلاً: وساروا في اتِّجاه النهر،
والتلاميذ الثلاثة، عبد الجبّار وعبد الرحمن وعبد القويّ، يشيرون بأصابعهم
إلى الجهة التي رأوا فيها المخلوق الفضائيّ أوَّل مرَّة.
وعندما صاروا على مقربةٍ من النهر، لاحَ لهم شيءٌ داكن اللون،
يتحرَّك هابطاً إلى ضفة النهر، كما ذكر عبد اللطيف الذي كان يسير إلى جانب
أحمد، وكان أحمد هذا معروفا في القرية بكثرة القراءة وعدم اختلاطه
بالآخرين، فلاحظ عبد اللطيف أنَّ لون وجهه قد امتقع، ثُمَّ تباطأت خطواته
وارتعشت يداه، فظنَّ أنَّ أحمد انتابه خوفٌ شديد، فأمسكَ بذراعه لكي
يُهدِّئ من روعه، ولكن أحمد سرعان ما انهار على الأرض، وهو يردِّد كلمات لم
يفهمها عبد اللطيف أوَّل الأمر، فانحنى عليه ووضع أذنه بالقرب من شفتيه
ليسمع ما يقول. وفي تلك اللحظة تجمهر بعض أهالي البلدة على أحمد المُلقَى
على الأرض ليعرفوا ما حلَّ به، ويقول عبد اللطيف إنَّهم سمعوه يردِّد
عبارة: "يا للعار، إنَّه مجرَّد غيلم كبير. غيلم. غيلم" . وبدلاً من أن
ينظروا في حاله ويسعفوه، التفتوا إلى معلِّم اللغة العربيّة ليسألوه عن
معنى "غيلم" فقال المعلِّم بشيءٍ من الخجل: " السلحفاة الذكر".
قصة قصيرة
بقلم: علي القاسمي - الرباط
..........................
ـ من مجموعة علي القاسمي القصصية " دوائر الأحزن" الصادرة عن
دار ميريت بالقاهرة 2007، وعن دار الثقافة بالدار البيضاء 2010، وعن مكتبة
لبنان ناشرون في بيروت 2013.
تعليقات (5)