أستاذتي قيثارة العراق عاتكة الخزرجي
أستاذتي قيثارة العراق عاتكة الخزرجي
نقلا عن موقع النور
لأخرجنَّ مِن الدُّنيا وحبُّكمُ بين الجوانحِ لم يشعرْ بهِ أحدُ
العباس بن الأحنف
اللقاء الأوَّل:
أكتب هذه المقالة عن أستاذتي المرحومة الشاعرة الدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي، قيثارة العراق، لعلّي أستطيع أن أردَّ بعض جميلها عليَّ، وأنوّه بشيءٍ من كريم فضلها الذي غمرتني به، وأعرب عن امتناني لما تعلّمتُه على يديْها من أدبٍ ومعرفةٍ وشمائلَ وخلائقَ إنسانيةٍ سامية.
التحقتُ بدار المعلِّمين العالية في بغداد في أيلول 1957، قادماً من بلدةٍ صغيرةٍ في الفرات الأوسط. وكان من حُسن حظّي أنَّ أستاذتنا لدرس اللغة العربية في السنة الأولى هي الدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي التي كانت قد عادت من باريس قبل عامٍ واحدٍ فقط، بعد أن حازت شهادة دكتوراه الدولة في الآداب من السوربون، وعُيِّنت أستاذةً في دار المعلِّمين العالية.
كانت الدكتورة عاتكة الخزرجي تعاملنا ــ نحن طلابهاــ بلُطفٍ ورقَّةٍ واحترام، كما لو كنّا أولادها الأعزاء أو إخوتها الصغار، وتُشعِرنا واحداً واحداً بأنَّنا أفرادٌ على درجةٍ كبيرة من الأهمِّية والكرامة. كانت تدرّسنا ذلك العام شعر الشاعر العباسي، العباس بن الأحنف (ت نحو 194هـ/ 807م)، بوصفه نموذجاً للأدب العربي والحضارة الإسلامية وقِيمها ومُثلها في أزهى عصورها، عصر هارون الرشيد. وكانت عاتكة قد اكتشفت، وهي ما تزال فتاة صغيرة، شاعريّة العباس بن الأحنف الفذة وأغرمت به، وتألَّمت لما أصابه من آلام حبِّه الخائب لمعشوقته "فوز". ولهذا كان هذا الشاعر هو موضوع رسالتها للدكتوراه في السوربون. طلبتْ منا ذات يوم حفظ قصيدةٍ من قصائد العباس بن الأحنف. وعندما سألتْ في اليوم التالي ما إذا كان أحدنا قد حفظها، رفع بعضنا أصابعه، وكنتُ من بينهم. ويبدو أنّني كنتُ أرفع إصبعي بشيءٍ من الإلحاح، ولم أنتبه إلى أنَّ غيري قد سبقني إلى ذلك. فطلبتْ من أحد الطلّاب تلاوة القصيدة، وفي الوقت نفسه التفتتْ إليّ وخاطبتني بلطف وبابتسامةِ اعتذار قائلة: " أنتَ مسك الختام." ولكن عندما جاء دوري، ارتُجَّ علي ولم أستطِع تذكّر القصيدة. فقالت ملتمسةً لي العذر: " كثيراً ما يحصل هذا عندما نحفظ النصَّ جيِّداً."
كانت الدكتورة عاتكة الخزرجي تجمع في شخصيتها الجميلة بين غنج الفتاة البغدادية المترفة والأناقة الباريسية الجذّابة، والخُلق الإسلامي المحافظ. كانت في ذروة شبابها لم تتعدَ السنة الحادية والثلاثين من عمرها المبارك، تصفِّف شعرها الفاحم السواد على شكل زهرتي دالية تحتضنان وجهها الصبوح ذا الملامح الجميلة المتناسقة الساحرة، الذي تشرق فيه ابتسامتُها الصغيرة الحيَّية المرسومة بعنايةٍ على شفتيْها الحمراويْن المكتنزتيْن. وعندما تكبر ابتسامتها، تكشف عن أسنانٍ لؤلؤيةٍ ناصعة البياض، وتبدو غمّازتان أخّاذتان على الخدَّين الأسيليْن. قوامها لدن رشيق لا يشتكي منه طولٌ ولا قصر، مع بروزٍ ملحوظ في صدرها الناهد. تمشي بخطواتٍ رشيقةٍ خفيفةٍ مموسقة كما لو كانت تؤدِّي رقصة الفرح على ألحان شِعرها المنغَّم، ويفوح خلفها عطرُها الباريسي النادر الفريد. في تلك الأيام كان يكفيني أن أقترب من غرفة أساتذة اللغة العربية في بناية دار المعلمين العالية، لأعرف ما إذا كانت الدكتورة عاتكة قد وصلت أم لا ( وفي هذه اللحظات التي أكتب خلالها هذا المقال بالحاسوب في المقهى الشتوية في شارع محمد السادس في مدينة مراكش الرائعة، تناهي إليَّ، على بُعد المسافة، أريجُ عطرك الفوّاح، يا عاتكة، بعد أكثر من خمسين سنة من الفراق). كانت تحدّثني بصوتٍ خفيضٍ رخيمٍ ذي رنين عذب يشيع المرح في الجو، وأنا أرافقها بعد الدرس من غرفة الصفِّ إلى موقف السيّارات حيث سيّارتها الصغيرة. ولكن لم أكُن قد تعلّمت آنذاك ما يكفي من الشهامة واللياقة واللباقة لأفتح لها باب السيّارة، بل كنتُ أقف مشدوهاً أراقبها بحسرةٍ وهي تفتح باب السيّارة وتمتطيها وتغادر. باختصار، كانت عاتكة ــ في نظري ــ أجملَ امرأة تقود سيّارتها أو تمشي بين الرصافة والجسر، بل حتّى أحلى وأملح وأفصح وأكثر جاذبية من جميع طالباتها اللواتي كنَّ يصغرنها بأكثر من عشر سنوات. كنتُ أنظر إليها مأخوذاً منبهراً كما لو كنت أقف مبتهلاً أمام صورة مقدّسة، فائقة الحسن خلابة الجمال، أبدعها الخالق المصوِّر الأعظم.
مولدها المبارك وموهبتها الشعرية:
وُلدت عاتكة في بغداد سنة 1924 في أسرةٍ ميسورة. إذ يروي الناقد العراقي الموصلي المتميّز سيّار الجميل، أنَّه عثر في دفاتر قديمة تعود لجدِّه الأديب علي الجميل ما يفيد أنَّ وهبي الخزرجي، والد عاتكة، كان صديقه وكان يشغل ُمنصب متصرِّف (محافظ) الموصل إبان العهد العثماني.
ويبدو أن والد عاتكة كان رجلاً متديناً تقيّاً، فقد أرّخ ولادة عاتكة ودعا لها بهذه العبارة : " سترها الله تعالى، وجعلها خادمة له، ولحبيبه صلى الله عليه وعلى آله وسلّم"، وأن عاتكة تأثّرت بما سمعته، عن سيرته وتديّنه، من أُمِّها الصالحة التي أحسنت تربيتها. ففي جوابها على قصيدة الشاعر المصري الكبير، عزيز أباظة، الذي بعث إليها بتحيّةٍ شعرية، فردَّت حالاً بقصيدةٍ لها نفس الوزن وذات القافية:
أنا يا مولاي بنتُ الصِّيدِ والغرِّ الأُبـاةِ
بنتُ ذاكَ القانتِ الحرِّ الكريمِ الخلواتِ
مَن يُقيم اللَّيلَ بالذِكرِ ووحي الصلواتِ
خاشعاً لله في المحراب، بَرَّ الدعــواتِ
وأبي ما ماتَ بل عاشَ بِسَمْتي وسماتي...
فقدتْ عاتكة والدها بعد ستة أشهر من مولدها. وقد أورثها اليُتم المبكِّر أسىً شفيفاً وحسرةً دفينة، حوّلتهما أحاسيسُها المرهفة ومشاعرُها الرقيقة إلى شعرٍ حزين، حتّى أصبح الألم والحزن والحبُّ بمعناه الواسع (حبّ الأُمّ والأهل، حبّ الوطن، الحبّ الإلاهي) من موضوعات شعرها الرئيسة. وراحت تسمّي نفسها " ابنة الآلام والشعر والحبِّ"، كما في قصيدتها " هوى الوطن" التي تخاطب فيها حمامةً على غصنها أو تخاطب نفسها، فهي تلك الورقاء الحزينة:
قِفي أَنشديني من لحونكِ ما يُصبي فأنـتِ ابنـةُ الآلام والشـــعرِ والحـــــبِ
قفي أســعدي قلباً برته يدُ الأســـــى ومثلكِ من يأسو الجراحات في القلبِ...
أورثها اليتمُ المبكّر أسىً مُقيماً وجُرحاً أليما، تتذكَّره كلّما رأت أُمّها التي تداري دمعها ومصيبتها، كيما تبتسم لابنتها الصغيرة وتشجّعها على القراءة والدرس، حتّى أضحت الأمومة موضوعاً من موضوعات شعر عاتكة. ففي قصيدة " نشيد الأمومة" تعبّر عاتكة عن حبِّها الطافح لأمّها وافتتانها بها وامتنانها لها:
أنتِ معنى الحبِّ، بل معنى الحياه أنتِ نورٌ فاض من نورِ الإله
أنـــتِ، يا أمـــــاه، من قلبـــــي مُنــــــاه أيعيـــــــش المرءُ دون الأملِ ؟
أنتِ بعــد الله رمــزٌ يُـــعبَــدُ تفتديه مهجٌ بل أكبُدُ
أنتِ يا أُمــــاه سـرٌّ سـرمدُ ظلَّ فيه الفكر منذ الأزلِ
ويلاحظ أن هذه القصيدة نوع من الرباعيات الذي تلتزم فيها الأشطر الثلاث الأولى بقافيةٍ واحدة في حين يلتزم الشطر الرابع بقافيةٍ مختلفة هي قافية القصيدة كلّها. وكان هذا النوع من الرباعيات يكثر في شعر أدباء المهجر اللبنانيّين، كما في قصيدة إيليا أبو ماضي " الطلاسم: لستُ أدري" التي كان لها صدىً كبيرٌ في العراق آنذاك في مضمونها وشكلها، وأجاب عليها عدد من الشعراء العراقيين بقصائد على غرارها عنوانها " أنا أدري"، كما صاغ الشاعر محمد صالح بحر العلوم على غرار شكلها قصيدته المشهورة " أين حقي؟"
لم تقرأ عاتكة في طفولتها أدب المهجريِّين فحسب، بل قرأت التراث الأدبي العربي، قديمه وحديثه، أيضاً؛ لأنّها كانت شغوفة بالقراءة، مولعة بالدراسة. فهي لم تكتفِ بقراءة ما في مكتبة الأُسرة من كتبٍ فحسب، بل استعارت كذلك مختلف الكتب والدوريات من زميلاتها في المدرسة الابتدائية والثانوية لتتذوقها وتلتهمها وتعيدها إليهنَ بسرعة. لقد كانت عاتكة نحلةً تقتات على مختلف الأزاهير فتمتص رحيقها لتحوّله إلى عسل شعري رائع المذاق. ويتلمس بعض النقّاد، أثرَاً للرصافي في شعرها المبكّر الذي يتناول الفقراء والمساكين، والنساء البائسات اللواتي طحنهن الترمّل ونخلتهن الوحدة، كما في قصيدةٍ تقول فيها عن أُمّها:
وألقـــــتْ عليّ الأمُّ نظــــــرة أيــــــــــــمٍ
|
قرأتُ بها يتمي وتاريخ حسـرتي
|
وكم كنت آسي إذ أشـــــاهد طفلة
|
تصيح: أبي، إذ يبتديها بطلفتي
|
فأُســــــرعُ في ذلٍّ ويأسٍ ولــــــهــــفةٍ
|
أُسائلُ أُمِّي، إذ أُغالب دمعـــــتي
|
حنانيكِ يا أُمّي، أما لي من أبٍ
|
أما لي من كفٍّ تكفكفُ عبرتي
|
فقد كان الرصافي مولعاً في هذا النوع من الشعر القصصي الذي يصوّر آلام البؤساء والمهمشين في المجتمع كما في قصيدته " الأرملة المرضعة"، وقصيدته " اليتيم في العيد". وإذا كان هنالك من شبه بين بعض تعبيراتها في هذه القصيدة وبعض تعبيرات الرصافي، فهذا أمر طبيعي نسميه اليوم بالتَّناص لكثرة قراءات الدكتورة عاتكة.
إلتحاقها بدار المعلِّمين العالية:
أكملت عاتكة تعليمها العامّ (الابتدائي والثانوي) في بغداد، وعُرِفت خلاله بتفوُّقها على زميلاتها، وسموِّ فكرها وعمقه، وجودة إنشائها، وروعة إلقائها، فقد قالت الشعر في سنٍّ مبكّرة. ثمَّ دخلت دار المعلِّمين العالية حوالي سنة 1941 وكانت فتاةً خجولةً حيَّية تلبس عباءتها حتّى في غرفة الدرس، على الرغم من أنَّ بعض بنات جيلها كنَّ يخلعن العباءة عند دخولهن حرم دار المعلِّمين العالية. ولم تخلع عاتكة عباءتها إلا عند ذهابها إلى باريس للدراسة. فقد كانت عاتكة محافظة في سلوكها وتصرُّفاتها، وظلَّت كذلك طوال حياتها، ولكنّها كانت متحرِّرة ثوريَّة في شِعرها الذي تناولت فيه موضوعاتٍ وطنيةً واجتماعية، وتتَّسم بجرأةٍ وشجاعةٍ أدبيتيْن عندما تلقي شعرها بصوتها الرخيم وطريقتها المنغّمة.
كانت دار المعلمين العالية موئل الشعراء والأدباء من الطلبة الأوائل الأذكياء الذين يؤمّونها من جميع أنحاء العراق، لأنّها تتوفر على قسمٍ داخليٍّ يؤمِّن السكن والطعام للطلبة، ولأنَّها تضمن لهم وظيفة مدرسٍ في المدارس الثانوية حال تخرجهم فيها. وتقوم وزارة المعارف بتوزيعهم على جميع مدارس ألوية (محافظات) العراق. وفي السنوات الأربع التي أمضتها عاتكة الخزرجي في دار المعلّمين العالية، كانت هذه الدار تحتضن روّاد الشعر الحرّ في العراق ، مثل زملائها نازك الملائكة (1923 ــ 2007)، وبدر شاكر السياب (1926 ــ 1964)، ومثل عبد الوهاب البياتي (1926 ــ 1999)، ولميعة عباس عمارة (1929 ـــ )، وشاذل طاقة ( 1929ـــــ 1974)، ومحمد جميل شلش ( 1930 ـــــ )، وعبد الرزاق عبد الواحد (1930 ـــ )، وغيرهم كثير من خارج دار المعلمين العالية، مثل بلند الحيدري (1926 ــ 1996)، وكاظم السماوي ( 1919ــ 2010 )، وكاظم جواد ( 1929ـــ 1985 ). وكلهم ينشرون أشعارهم في دوريّات العراق والمجلات الأدبية اللبنانية مثل "الآداب"، وكانت عاتكة في طليعتهم. وكان هؤلاء الشعراء هم الذين ابتكروا الشعر الحرَّ وحملوا مشعله. ومع ذلك، فإنَّ عاتكة الخزرجي ظلّت محافظةً وفيةً لتقاليد الشعر العربي العمودي، ولكنّها حدّثته بموضوعاتها الجديدة، وبأسلوبها المتميِّز، وأحاسيسها المرهفة، وعاطفتها المتأجّجة. كانت ترى أنَّ شكل الشعر العربي بقافيته وأوزانه قادرٌ على التعبير عن مختلف الموضوعات في متباين الأزمان، ولا ترى في الشعر الحرِّ إلا هروباً من القافية والبحور الخليلية التي يصعب ضبطها على غير الشعراء المطبوعين، وتقول في ذلك: " إنَّ صعوبة الوزن والقافية لا يشكوها شاعرٌ مبدع، وإنَّما هي عقبة كأداء في وجه المقلِّدين... وجمال شعرنا العربي آتٍ من هذا الإيقاع الموسيقيِّ المنغَّم، وإعجاز شعرنا العربي آتٍ من رصانة قوافيه واتساق أنغامه..."
وعلى الرغم من أنَّ العراق عرف في تلك الفترة عدداً من الشواعر اللامعات، فإنَّ عاتكة الخزرجي كانت بينهن مثل نجمة الضحى، أكثرهن لمعاناً، وأروعهن إبداعاً. يقول الدكتور صفاء خلوصي في مفتتح مقالةٍ كتبها بالإنكليزية، إبان دراسته الأدب المقارن في جامعة أكسفورد، ونشرتها مجلة الجمعية الآسيوية الملكية سنة 1950، وكانت عاتكة ما تزال طالبة في دار المعلِّمين العالية:
" مهما قيل عن رباب، وأم نزار، ونازك، [وصدوف]، والشواعر الأخريات، فإنَّ إمارة الشعر تعود بلا شك إلى ملكة الشعر الحديث غير المتوجة، عاتكة وهبي الخزرجي."
في حقيقة الأمر، كان مستواها الشعري يضعها آنذاك في مصاف كبار شعراء اللغة العربية. يقول الناقد المصري الدكتور عز الدين إسماعيل، وهو نفسه شاعر مُجيد، في دراسة له عن ديوانها الأوَّل " أنفاس السَّحر" (1963)، في مقالة نُشِرت في مجلّة "الرسالة":
" نجد فيه [ في الديوان] شاعرةً قد تكاملت لها كلُّ الأدوات الفنية، وأحرزت كلَّ المهارات الحِرَفية، حتّى ليصعب في كثير من الأحيان أن نفرّق بين شعرها وشعر الفحول من شعراء عصرنا."
قلنا إنَّ عاتكة هي " ابنة الآلام والشعر والحب"، كما وصفت نفسها. وإذا كانت الآلام تأخذ نصيباً كبيراً من شعرها الاجتماعي الذي وصفت فيه معاناة المهمَّشين والبائسين والمساكين، فإنَّ الحبَّ يتجلى في حبِّ الأُمِّ والناس والوطن. ويتَّسع مفهوم الوطن لدى عاتكة، من بغداد إلى العراق إلى الوطن العربي الكبير. فقصائدها في محبَّة بغداد كثيرة مشهورة، مثل قصيدة "بغداد" التي تقول فيها:
قســـــــماً بـــِالإله عــــــــزَّ وجــــــــلّا إنّ قلبي عن حبّها ما تسلّى
هي منّي روحي وما أنصف التعـ ــبيرُ، لا بلْ أعزّ منها وأغلى
هي عندي دنيا من الحُسنِ طابت وزكــت نبتـــةً وفرعاً وأصـــــــلا
وتجلّى الحبّ في شعرها كذلك عندما ألّفت مسرحيتها الشعرية " مجنون ليلى"، وكانت ما تزال طالبةً في دار المعلِّمين العالية. ظنَّ بعضهم أنّها تأثّرت فيها بمسرحية أمير الشعراء أحمد شوقي " مجنون ليلى" التي اشتهرت بعد أن غنّى المطرب الكبير محمد عبد الوهاب عدداً من قصائدها مثل " جبل التوباد" و "تلفتت ظبية الوادي"، وغنّى المشهد الثالث من الفصل الأوّل منها الذي سماه " أوبريت مجنون ليلى" وضمّنه في فيلم " يوم سعيد" المنتَج سنة 1939 . ولكن الناقد المصري بدوي طبّانة الذي كان أحد أساتذة عاتكة في دار المعلِّمين العالية يقول إنَّ مسرحيَّتها تختلف عن مسرحيَّة شوقي في الفكرة والتصوير، "على الرغم من أنّهما قد تلتقيان في بعض المواضع". وأحسبُ أنَّها استقت مسرحيتها الجميلة من أخبار المجنون في كتاب " الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني الذي كان في مكتبة والدها وقرأته وهي طالبة صغيرة، وكذلك من ديوان المجنون نفسه الذي حفظت كثيراً منه، حتّى إنّها ضاهت بعض قصائده، كقصيدته اليائية المشهورة، في مسرحيتها عندما تقول:
" المنظر: ليلى، قيس مقبل من بعيد وعليه حلّتان من حلل الملوك، وهو يتغنى بشعره مقترباً من خيام ليلى ..."
وما كان إلا نظرةٌ وجوابها فعلّقـــتها إذ علقـــتها حـــبــــالـــيــــا
وقد زانــها دلّ تحلّيـــه رقــةٌ وليس سوى ذاك الدلال سبـــانيا
وأسكرني منها عبيرٌ لأجله سلوتُ الأقاحي بل سلوتُ الفواغيا...
وقد مُثّلت هذه المسرحية في بغداد ولقيت نجاحاً كبيراً، ما شجّع عاتكة على كتابة مسرحية شعرية أُخرى بعنوان " عليّة بنت المهدي". وعليّة هي أخت الخليفة هارون الرشيد وكانت شاعرةً أديبةً لها معرفة بالموسيقى والغناء، ولها صوتٌ رخيم، وعرِفت بتديُّنها وتقواها. ولعلَّ هذا ما جذب عاتكة إليها بحيث أرادت أن تتماهى معها في مسرحيَّةٍ شعريَّة. وهنالك سبب أهم ّلاهتمام عاتكة بعلية بنت المهدي. فقد توصّلت عاتكة في بحثها المعمَّق في شعر العباس بن الأحنف وحياته إلى أن صاحبة الشاعر العباس بن الأحنف التي يسمّيها " فوز" ما هي إلا عليّة بنت المهدي, وأنه كان يخفي حبَّه لها ولا يصرح باسمها لمكانتها الاجتماعية المرموقة، ولئلا يُسيء إلى سمعتها وما عُرفت به من تديُّنٍ وتقوى. وقد توصَّلت عاتكة إلى هذا الاستنتاج عن طريق دراسةٍ مقارنةٍ لأشعار العباس الغزلية، وأحداث حياته وحياة عليّة بنت المهدي.
ولكنَّ عاتكة لم تتمَّ هذه المسرحيّة، ونشرت مقاطعَ منها في ديوانها الأوَّل " أنفاس السحر" .
وحبّ عاتكة حبٌّ صوفيُّ ينمو ويكبر حتّى يسع الكون كلَّه، فهو يتدرَّج من حبِّ الأمّ والأهل، إلى حبِّ بغداد، وحبِّ العراق، وحبِّ العرب، وحبِّ الأمة العربية الإسلامية بأسرها، وحبِّ الإنسان. وتقول عن حبِّها للعراق:
وطني العراق أحبُّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهُ أو تبلـــغ الروح التراقي
أهوى النخيل على الضفاف بحضن دجلة والسواقي
ويمتدُّ حبُّها من العراق ليشمل العروبة بأسرها وجميع الأُمَّة العربية الإسلامية:
هواي بها، إني نـــــــذرتُ جوانحي إلى كلِّ شبرٍ في العروبة ممتــــــــدِّ
إليكم إلى الصحراء للرملِ للربى لموج الخليج الثرِّ، للرَّوحِ من نجدِ...
إلى كلِّ عرقٍ في العروبة نابضٍ وكلِّ فؤادٍ يذكر اللهَ بالحمــــــــــــــــــــدِ
وفي السنوات الأربع (1941 ــ 1945) التي أمضتها عاتكة في دار المعلِّمين العالية، كانت القضية الفسلطينية ملتهبة في وجدان العرب، فكتبت عاتكة ــ في تلك الفترة وبعدها ــ عدداً من القصائد لفلسطين صبّت فيها جام غضبها على بريطانيا التي وعدت الصهاينة بدولةٍ، وساعدتهم على إقامتها على أرضٍ مغتصبةٍ من أهلها الفلسطينيّين. ولا بدَّ من تأجيج ثورة عاتية تسحق الطغاة المتواطئين مع المستعمِر جميعاً. تقول في قصيدتها الطويلة " فلسطين هيا ثورة عربية" :
إليك عن الشكوى فلسطين إنَّنا نفوسٌ ستحيا أو تكون حطاما...
لقد جمعتنا يا فلسطينُ نكبةٌ كما تجمعُ الأحزانُ شملَ يتامى
فلسطين هيــــــا ثورة عربية تصيِّرُ أبـــراج الطــغاة ركاما...
وكانت عاتكة ترى أن ردَّ الأُمَّة العربية على التحدّي البريطاني الصهيوني ينبغي أن يتمثّل في وحدةٍ عربيةٍ تمنحنا القوَّة والهيبة، فتقول:
فلسطين حتّام السكوت عليهم وقد حسبونا لا نطيق كلاما
ومبدأ الوحدة الكبرى يقرِّبنا قرباً تَخالُ به الإيوانَ أهراما
بيدَ أن عاتكة كانت تدرك آنذاك أنَّ الوحدة العربية لا تتحقّق في مجتمعاتٍ ترزح تحت وطأة الجهل والمرض، وتنشغل قياداتها بسرقةِ أموال الشعب واختلاس خزينة الدولة. ولهذا كثر شعرها الاجتماعيُّ الذي يندِّد بهذه الأخلاق:
وأنّى لمثـــلي أن تســـالم دهـــــــرها وليس له إلا الســـفاهة مقـــصدُ؟
وأنّى لمــثـــلي أن تســــــرَّ بِأُمَّـــــــــــةٍ بها الفردُ عبد المال، والمالُ سيدُ؟
ويختار من هام الفقير دعامـــةً فيبني عليها قصره ويشيِّـــــــــــــــــدُ
أناسٌ تلاهوا بالضلال عن الهدى فليـــــس بــــهم إلا كــفورٌ ومفســـــــدُ
ولهذا فهي تستنهض الهمم، وتدعو أُمَّتها إلى ثورةٍ خُلقية من أجل الرجوع إلى الدِّين والخُلق القويم:
بلادكم يا قوم أمست عليلة ترجّي دنو البرء، والبرءُ يبعدُ
تمنيتُ لو عاد فينا محمدٌ إذن لأتى بعد الضلالة يرشدُ...
فعودوا إلى إيمانكم بعد رجعةٍ فعودكمُ للحق يا قوم أحمدُ
وهكذا كانت عاطفتها القومية مقرونةً بإيمانها الإسلاميِّ العميق. وهذا واضح من إهدائها ديوانها الأوَّل " أنفاس السحَر": " إلى كلِّ ناطق بالضاد، ومؤمن بلغة القرآن، ومبارك لوحدة العرب، أهدي تسبيحةً لي في محراب الأدب."
وجعلها إيمانها بالوحدة العربية تكنُّ محبَّةً خاصةً لمصر بوصفها قلب البلدان العربية وأكبرها وأغناها فكراً وفنّاً، فتقول من قصيدة طويلة بعنوان " مصر ساحرة التاريخ":
حبيبة الروح، يا روحي ويا ذاتي الشوق يعصف بي لولا غلالاتي
يا مصرُ، يا قِبلة للفـــنِّ باركـــها روح القـــــدير بآي عبــــــرَ آيـــــاتِ
ابتعاثها إلى فرنسا لنيل الدكتوراه في الآداب:
تخرّجت عاتكة في دار المعلِّمين العالية سنة 1945، كما ذكرنا، وعُيّنت مدرِّسة للغة العربية وآدابها في مدرسةٍ ثانويةٍ للبنات في بغداد ( كانت المدارس الثانوية في العراق آنذاك منقسمة إلى قسميْن: للإناث وللذكور). وبعد أن أمضت خمس سنوات في التعليم حصلت على منحةٍ دراسية من مديرية البعثات في وزارة المعارف، للحصول على دكتوراه الدولة من السوربون في باريس.
في العراق الملكي، كان هنالك تقليد سنّه الملك فيصل الأوَّل، يقضي بإرسال البعثات الطلابية في الآداب إلى فرنسا، إلى السوربون في باريس بالذات، في حين يُبتعث طلاب العلوم إلى بريطانيا أولاً وأمريكا وألمانيا ثانياً. وأحسب أنَّ الملك فيصل الأوَّل اختار ذلك لا لشهرة السوربون في الآداب فحسب، بل كذلك لئلا يربط السياسة العراقية كلَّها ببريطانيا، على الرغم من أنّه حليفها وهي التي أتت به إلى عرش العراق.
ولهذا نجد أنَّ معظم كبار أساتذة الآداب في العراق آنذاك هم من خريجي السوربون ابتداء بشاعر ثورة العشرين ومؤرِّخها محمد مهدي البصير (1895 ــ 1974 ) الذي حاز الدكتوراه منها سنة 1937/1938، وعلّامة العراق الدكتور مصطفى جواد ( 1904ــ 1969 ) الذي نال شهادته منها سنة 1939. أما زملاء الدكتورة عاتكة الخزرجي، من العراقيين في السوربون فمنهم الكاتب المتخصِّص في الأدب الأندلسي الدكتور صلاح خالص (1925ــ 1987 ، دكتوراه سنة 1952)، والناقد الدكتور علي جواد الطاهر ( 1911 ـــ 1996، دكتوراه سنة 1954)، واللغوي الكبير الدكتور إبراهيم السامرائي ( 1923 ـــ 2001، دكتوراه سنة 1956). أمّا أستاذتي الدكتورة عاتكة الخزرجي، فقد نالت الدكتوراه سنة 1955.
عندما حصلت عاتكة على البعثة (المنحة) إلى جامعة السوربون، أخذت تتهيّأ للرحيل وتتهيّب منه، لأنّها ستفارق أحبّاءَها: أمَّها، بغداد، العراق. وهكذا كتبت قصيدة "قبل الرحيل" تخاطب فيها بغداد:
هاتِ العهود على الوفاء وهاكِ وإليــكِ ذي يُــمناي في يُمـنــاكِ
قسماً بحبِّكِ والذي برأ الهــوى وأذابَ روحي في سعير لظاكِ
لأظلُّ أرعى العهدَ شأنَ متيَّمٍ آلى علــــى الأيـــام أن يــهــــــواكِ
وعندما وصلت إلى باريس، شعرت بوطأة الفراق على الرغم من جمال المدينة وأنوارها وكونها بنت الحضارة وعاصمة الفنِّ في الدنيا بلا منازع؛ وأخذت تحنُّ إلى بغداد والتاعت روحها بالشوق المضطرم. وظهرت في شعرها موضوعة الحنين:
أواه لو تدرين كم ضاقت بها ســبل الحياه
وبدت لها بنتُ الحضارةِ وهي قفر في فلاه
وتشوّقت تبغي الفراتَ فلم تجدْ إلا صـداه
تقضي التقاليد الجامعية في السوربون والجامعات العريقة في أوربا مثل أكسفورد وكيمبرج، أن طالب الدكتوراه لا يتمُّ تسجيله إلا عندما يوافق أحد أساتذة الجامعة المختصّين بموضوع الطالب على الإشراف على دراسته وأطروحته. وكان أكبر المستشرقين الفرنسيين آنذاك لويس ماسينيون ( 1883 ــــ 1962)، وهو متخصِّص في التصوّف الإسلامي. ولكن عاتكة الخزرجي اختارت أن يشرف على دراستها وأطروحتها المستشرق ريجي بلاشير (1900 ـ 1973) المشهور آنذاك بترجمته الفرنسية الأدبية لمعاني القرآن الكريم، وكتابه عن المتنبي. ويعود هذا الاختيار لسببيْن:
الأوَّل، إنَّ لويس ماسنيون كان أستاذاً في (الكوليج دي فرانس) التي كان التدريس فيها يعتمد على البحث، والتي لا تبعد بنايتها سوى خطوات عن بناية السوربون في شارع المدارس Rue des écoles في المقاطعة الخامسة في باريس. مع العلم أنَّ أساتذة السوربون قد يحاضرون في الـكوليج دي فرانس التي قد يحاضر أساتذتها في السوربون.
الثاني، إنّ لويس ماسنيون أكثر تخصُّصاً في الدراسات الإسلامية منه في الأدب العربي، خاصَّةً التصوّف الإسلامي، وهو مشهور بدراساته عن الحلّاج وتحقيقه لديوانه " الطواسين"، في حين أن ريجي بلاشير معروف بميوله الأدبية على الرغم من ترجمته لمعاني القرآن الكريم بالفرنسية، وكتابه عن النبي محمد (ص) في دراسات المستشرقين.
أضف إلى ذلك أنَّ عاتكة كانت تريد أن تكتب أطروحة الدكتوراه عن الشاعر العباسي، العباس بن الأحنف، والذي كتب مقالة " العباس بن الأحنف" في " دائرة المعارف الإسلامية " هو ريجي بلاشير، وليس ماسنينون.
لكلِّ هذه الأسباب، توجّهت عاتكة إلى المستشرق ريجي بلاشير راجيةً منه أن يُشرف على دراساتها وأطروحتها في السوربون عن العباس بن الأحنف.
وقد اختارت عاتكة شعر العباس بن الأحنف ليكون موضوعاً لأطروحتها لأسبابٍ ذاتية وموضوعية متعدِّدة أهمُّها:
أوَّلاً، أنه بغداديٌّ عراقيٌّ، مثل عاتكة؛ ومحبٌّ لبغداد شغوف بالعراق، مثل عاتكة.
ثانياً، كان شبيهاً بعاتكة، أو أن عاتكة تشبهه في العفّة والطهارة والترف ونبل الروح المفعمة بالحبِّ والخير والجمال. فهو عفيف الروح كريم النفس، واقتصر شعره على الغزل والوصف. يقول عنه الجاحظ: " لا يهجو ولا يمدح، ولا يتكسب ولا يتصرّف، وما نعلم شاعراً لزم فنّاً واحداً فأحسن فيه وأكثر." ويرى البحتري أنّه أغزل الشعراء. وكان في غزله سامياً طاهراً حتّى تحسبه أحد الشعراء العذريّين. وأشاد به المبرّد في كتاب "الروضة" وفضَّله على نظرائه حين قال: "العباس من الظرفاء، ولم يكن من الخلعاء، وكان غزلاً ولم يكن فاسقاً، كان ظاهر النعمة، ملوكي المذهب، شديد الترف".
ثالثاً، إنّه مظلوم تماماً إذا ما قورن بغيره من الشعراء الذين هم أقلّ منه منزلةً وشاعريةً، فمعظم شعره قد ضاع، ولم يبقَ منه إلا المختارات التي انتقاها ورواها أبو بكر الصولي (ت 335 هـ/ 964م)، وهو من أحفاد أخوال الشاعر، بعد حوالي قرنيْن من وفاة الشاعر.
رابعاً، لا يوجد له ديوانٌ محقَّق تحقيقاً علمياً، فديوانه مطبوع مرتيْن: مرّة في مطبعة الجوائب سنة 1880، وهي مليئة بأخطاء التحريف والتصحيف والسهو والجهل التي اقترفها النسّاخ؛ ومرّة في بغداد سنة 1947 بتحقيق عبد المجيد الملا الذي احتفظ بأخطاء طبعة الجوائب ولم يُجِد الشرح.
ومن شعر العباس بن الأحنف الذي يدلّ على أخلاقه النبيلة والذي أوصتنا أستاذتنا عاتكة بحفظه لسلاسة لغته وسمو معانيه:
أبكي الذين أذاقـــــــــــوني مودتـــــهمْ حتّى إذا أيقظوني للهوى رقــــــدوا
واستنهضوني فلما قمتُ منتصباً بثقلِ ما حمّلوا من ودِّهم قـــــعدوا
جاروا عليّ ولم يوفوا بعهدهِـــــمُ قد كنتُ أحسبهم يوفون إن وعدوا
لأخــــــــرجن من الدنيا وحبــُّـــكم بين الجــــوانحِ لم يشعرْ به أحــــــــدُ
ومن شعر العباس بن الأحنف الذي يجري مجرى المثل والذي ضمّنتُ بعضه في كتابي " معجم الاستشهادات"، قوله:
أرى الطريق قريباً حين أسلكه إلى الحبيب، بعيداً حين أنصرِفُ
وقوله:
وما الناسُ إلا العاشقون ذوو الهوى ولا خيرَ فيمن لا يُحبُّ ويعشقٌ
وقوله:
بكيتُ إلى سرب القطا حين مرَّ بي فقلتُ، ومثلي بالبكاء جــــديرُ:
أسربَ القطا، هل مَن مُعيرٍ جناحَهُ لعلّي إلى مَن قد هويتُ أطيرُ
ولهذا كلِّه كانت أطروحة عاتكة تتألَّف من عمليْن هامَّيْن: تحقيق ديوان الشاعر تحقيقاً علميّاً، ودراسة معمَّقة في عصره وحياته وشعره والكشف عن الشخصية الحقيقية لحبيبته فوز.
وعلى الرغم من أنَّ المستشرق بلاشير كان على علم بموهبة عاتكة الشعرية ومطَّلع على إبداعها قبل قدومها إلى باريس، فإنّه كان متردِّداً في الإشراف على رسالتها. لنترك بلاشير نفسه يتحدّث عن أسباب تردُّده. يقول بلاشير في تصديره لأطروحة عاتكة وهو يخاطبها:
" يا آنستي العزيزة:
لقد عرفكِ عالم المستشرقين الصغير قبل مجيئك إلى باريس بشاعريتك اللامعة المبكِّرة، ولا أخفي عنك أن هذه الموهبة نفسها هي التي أخافتني وأثارت في نفسي بعض الظنون والرِّيب، فتساءلتُ: أيكون لطباعكِ وإحساسكِ وحبّكِ لمُختار الكلم أن تخضع لمقتضيات التحقيق العلمي وأن تنثني للضبط المطلوب من العالم اللغوي، فلا تثورُ على طول الأناة التي يحتّمها كلُّ جهد علمي؟ أسئلة كانت تختلج في نفسي دون أن أفاتحك بها. وقد أعلمني الاختبارُ أن سكوتي كان من ذهب."
وبلاشير على حقٍّ، فما ذكره حقيقةٌ معروفة؛ فكثيرٌ من الشعراء لا يطيقون البحث العلمي الدقيق، ومن يتعوّد على هذا البحث منهم قد يفقد شاعريَّته، لأن الشعر هو قمة الخيال ويسعى إلى خلق عالمٍ مثاليٍّ، أمّا البحث العلمي فهو في عمقِ الواقع ويسعى إلى الوصول إلى حقيقة علمية موضوعية. وأنا شخصياً أعرف عدداً من الشعراء الذين انخرطوا في إعداد أطروحة الدكتوراه، فتضاءلت شاعريَّتهم أو اختفت تماماً. ومن هؤلاء الشعراء الدكتور صالح جواد الطعمة الذي كان قد تخرج في دار المعلمين العالية سنة 1952 بعد أن نشر ديوانيْن من الشعر الغنائي الرائع هما " ظلال الغيوم" (1950) و" الربيع المحتضر" (1952) ، ثم ابتُعِث إلى جامعة هارفرد مباشرةً بعد تخرّجه فأمضى خمس سنوات ونال الدكتوراه سنة 1957، ولم يصدر له أي ديوان شعر بعد ذلك.
ولكي أعطي فكرةً عن متطلباتِ البحث العلمي في حالة الدكتورة عاتكة، أقول: لا توجد آنذاك إلا ثلاث مخطوطات من ديوان العباس ابن الأحنف: الأولى مخطوطة مكتبة " كوبريلي زادة" في إسطنبول التي اعتمدت عليها عاتكة في تحقيق الديوان، ومخطوطة ثانية في المكتبة التركية ذاتها، ومخطوطة ثالثة محفوظة بدار الكتب المصرية بالقاهرة، وهي لا تختلف عن المخطوطة الثانية. وكان على عاتكة أن تدرس كلَّ مخطوطة على حدة، وتصفها، وتقارن بينها وبين المخطوطتيْن الأخرييْن وتصحِّح أخطاءها، وتذكر جميع التعليقات التي أوردها النساخ على كلِّ واحدة منها بما في ذلك أبياتٌ شعريةٌ ركيكةٌ تهجو العباس بن الأحنف، فالموضوعية تتطلَّب ذكر ما لك وما عليك. ومن أمثلة التصويبات التي قامت بها عاتكة وتنمُّ عن درايتها اللغوية وجهدها الكبير في التدقيق، الخطأ الذي ورد في البيت الثاني من هذه المقطوعة للعباس:
إنّي وإن أظهــــرتُ هـــجرانـــــها وطال شوقي وصباباتي
أصبحتُ في المصرِ لي جارة خزراء لا تؤتي ولا تاتي
لَحافظٌ ما كان من عهـــــدها أُصدِقها في كلِّ حالاتي
فهاتان الكلمتان اللتان تحتهما خط، كُتبتا في المخطوطة المعتمدة: (فأصبحتْ) و (جارة عورا)، وفي المخطوطتين الأخرييْن (جارة حورا). صححتْهما عاتكة في ضوء المعنى العام والوزن وما ورد في معجم " أساس البلاغة": "عدو أخزر العين، ينظر شزراً، وأمرأة خزراء". وكلُّ محقِّق يعلم أن تصحيح كلمة مثل هذه قد يتطلَّب سهر ليالٍ لا حصر لها من البحث والتنقيب والتأمُّل.
ومع أن عاتكة قد أوغلت في مجاهل البحث العلمي، فإنها لم تفقد شاعريتها الفذة، بل ألهمتها إقامتها في باريس موضوعات جديدة إضافة إلى موضوعاتها الأثيرة القديمة. ولعلها بذلك تكون الاستثناء الذي يؤكِّد القاعدة. ومن هذه الموضوعات الحنين الذي أشرنا إليه، وكذلك موضوعة التصوف الإسلامي التي نحسب أنها كانت نتيجة تربيتها، ومحاضرات ماسينيون عن التصوف الإسلامي في الكوليج دي فرانس التي كان يستمع إليها كثيرٌ من طلبة السوربون كذلك، خاصة من الطلبة العرب.
ومن شعرها الصوفي:
أحبك ربّاه فوق الهوى أيا من به كنتُ والحبُّ كان
جمالك يا ربِّ عم الوجود فليس لقبحٍ به من مكان
وكذلك قصيدتها " إلى يثرب" التي تقول فيها مخاطبةً ورقاءها:
هبيني جناحاً كي أطير ليثربِ عساني أداوي ما بقلبي المعذبِ
حمامةَ هذا الدوح رفقاً بخافقٍ يحنُّ لترْبٍ عاطر الروح طيّبِ
يلجّ به شوق ويحدو به الهوى وتغري به النكباءُ في كلِّ مذهبِ
وقد أساء بعضهم فهم شعرها الصوفي فظنّه شعراً غزلياً برجل معيّن، ولهم العذر في ذلك إذ أن صورتها الجميلة أسهمت في سوء الفهم، إضافة إلى أنَّها لم تدوّن تاريخ كلِّ قصيدة ولا المناسبة التي قيلت فيها. ومن الشعر الذي يحسبه بعضهم غزلاً في رجلٍ معين وأعدّه شخصياً من الشعر الصوفي في الحبِّ الآلهي قولها:
هذي فتاتك في السرير تذوب من وجدٍ وحسره
تهفو إلى لقياك ظمأى تستقي غاديك قطـــــــــره
ماذا عليكَ إذا عطفتَ وزرتنا في العمر مــــــرَّه؟
حصولها على الدكتوراه وتخرّجها في السوربون:
تمَّت مناقشة أطروحة عاتكة في السوربون سنة 1955. وكان النظام الجامعي في فرنسا آنذاك يتوفَّر على نوعيْن من شهادة الدكتوراه: الأول، دكتوراه الجامعة Doctorat d'Universite ( ويقابله في امريكا شهادة الماجستير M.A. or M.Sc.). والثاني، دكتوراه الدولة Doctorat d'etat ( ويقابله في امريكا شهادة دكتوراه الفسفة Ph.D.) . ويعتمد نوع الشهادة التي ينالها الطالب على المراحل التي قطعها، والمدّة التي أمضاها في البحث، ونوعيَّة البحث.
وقد حازت عاتكة شهادة دكتوراه الدولة في الآداب. وأهدت رسالتها إلى أستاذها ر. بلاشير :
" إلى أستاذنا الشيخ الجليل والعلامة الكبير المستشرق الفرنسي الشهير " ر. بلاشير، " مترجم القرآن وصاحب كتاب المتنبي، أرفق هذا الكتاب الذي هو ثمرة من روض فضله، وقطرة من فيض بحره، مشفوعاً بهذه التحية:
يا حكمة الله قد سويت في بشر ما كنت في الناس إلا آية الحِقبِ
كم قد سهرت الليالي شأن ذي شغف وما شغفتَ بغير العلم والأدب
حاشا لمثلك أن يهفو لغانية أو أن يحن اشتياقاً لابنة العنب
شبابك النضر كم أفنيتَ زاهره في خدمة الضاد أو خدمة العرب
ترجمتَ قرآنها لله ترجمة آياً من السحر أو آياً من العجب
ما إن تدبرتُها إلا هتفتُ لها لله معجزة في معجز الكتب
عاتكة الخزرجي"
عاتكة أستاذة في كلية التربية:
بعد أن أمضت عاتكة سنتين في التدريس بدار المعلمين العالية 1956 ـــ 1958، وقع الانقلاب العسكري على الملكية في العراق، المسمى بثورة 14 تموز 1958، وأُنشئت جامعة بغداد من تجميع الكلّيّات الموجودة، وضُمّت إلى الجامعة دار المعلِّمين العالية باسم كلية التربية. وبعد سنةٍ واحدة من ذلك التاريخ، حصلت رائدة الشعر الحرّ نازك الملائكة ( 1923ـــ2007) على شهادة الماجستير من جامعة ويسكونسن ـــ ماديسون في الولايات المتّحدة الأمريكية سنة 1959، وعادت إلى بغداد لتُّعيَّن في كلية التربية (دار المعلمين العالية ) التي تخرّجت منها سنة 1944. وهكذا تكون كلية التربية قد حظت بأهمّ شاعرتيْن في الوطن العربي آنذاك.
وبقيت عاتكة استاذة في كلّية التربية. وكانت تغتنم أحياناً عطلتها الصيفية في السفر إلى القاهرة أو باريس للبحث في المكتبات أو لقاء الزملاء من الشعراء والأدباء. ومع ذلك فقد كانت متحفِّظة في علاقاتها بالناس لئلا تطالها الألسنة. ففي القاهرة، مثلا، لم تكن تنزل في فندق، بل في دارٍ للراهبات يكري بعض غرفه لمسافرات ينتقيهن.
كانت لها أشعار في الثورة الجزائرية ( 1952 ـــ 1961)، وفي سنة 1971 ، زارت عاتكة الجزائر مع وفد رسمي في إحدى المناسبات، وكتبت، وهي في الطائرة راجعة إلى بغداد، قصيدة طويلة تمتح من رقّة الشاعرة وبهائها:
إنّي ـ وحقِّكَ ـ إذْ أشـدُّ الرحـلَ تمتلئ المحاجرْ
كيفَ السبيلُ إلى الرجوعِ، وذا فؤادي في الجزائرْ؟
قسماً بمن عقد القلوبَ على الصفا عقدَ الخناصرْ
فتألَّفتْ رغم الشتات أواصرٌ تدعو أواصــرْ...
إنّي ـ وحقِّكَ ـ إذْ أشـدُّ الرحـلَ تمتلئ المحاجرْ
كيفَ السبيلُ إلى الرجوعِ، وذا فؤادي في الجزائرْ؟
قسماً بمن عقد القلوبَ على الصفا عقدَ الخناصرْ
فتألَّفتْ رغم الشتات أواصرٌ تدعو أواصــرْ...
وفي أواخر السبعينيّات من القرن الماضي أوفدتها الحكومة العراقية للتدريس في دار الحديث الحسنية في العاصمة المغربية، وهي معهد للدراسات الإسلامية العليا، وكانت الباحثة الأديبة المصرية المرموقة الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، إحدى أستاذات هذه الدار. وعندما قدمتُ إلى المغرب أواخر سنة 1978 للعمل خبيراً في مكتب تنسيق التعريب بالرباط، وسمعتُ بنبأ وجود أستاذتي الدكتورة عاتكة هناك، اتصلتُ هاتفياً بصديقي مدير الدار الدكتور فاروق النبهان ورجوته أن يتحدّث مع الدكتورة عاتكة عن رغبتي في إقامة حفل عشاء لأساتذة الدار تكريماً لأستاذتي الدكتورة عاتكة، ويرجوها أن تحدّد الموعد المناسب لها. فقال إنّه سيفعل. ولم يجبني، فاتصلتُ به بعد مدّة فقال إنها أخبرته بأنها ستحدّد الموعد المطلوب. ولكنها لم تفعل. وبعد مدّةٍ وجيزة، أخبرني الدكتور فاروق النبهان إن الحنين إلى بغداد استبدَّ بالدكتورة عاتكة فعادت إلى العراق. ولم ألتقِها.
وقد عثرتُ في إحدى مكتبات الرباط على نسخة من ديوان العباس بن الأحنف بتحقيق الدكتورة عاتكة، وهي مصوَّرة سنة 1977 بالأوفست في مطبعة المحمدية بالمغرب نقلاً عن الطبعة العراقية، ما ينمّ عن أن الدكتورة قد استخدمت الديوان كأحد المراجع في دروسها في دار الحديث الحسنية، ووفّرت نسخاً منه مطبوعةً بالأوفست لفائدة طلابها.
شعرها وقيمته الفنّية:
أصدرت عاتكة ثلاثة دواوين، بالإضافة إلى مسرحيّتها الشعرية " مجنون ليلى". وهذه الدواوين هي: " أنفاس السَّحر" (1963)، و " لألاء القمر" (1971)، و " أفواف الزهر" (1975) ـــ (لاحظ السجع والموسيقى الداخلية في العناوين الثلاثة). وفي سنة 1986 صدرت أشعارها الكاملة في بغداد في سبع مجلدات.
يرى النقّاد أنّ شعرها واقعيٌّ أصيلٌّ مطبوعٌ بعيد عن التكلّف، ويمتاز بالمحافظة على تقاليد الشعر العربي، ويزدان بموسيقى عذبة فيها براعة الإيقاع وروعة النغم. وتميل الشاعرة إلى الشعر القصصي الراسخ في الشعر العربي.
وفي نظري، أن أهمَّ نقدٍ وجّه إلى شعر أستاذتي عاتكة، هو الذي كتبه الناقد الصديق المرحوم الدكتور عز الدين إسماعيل، أحد رواد التحليل النفسي في الأدب، وهو نفسه شاعرٌ مُجيد. ففي مقالٍ له نشره في مجلة " الرسالة " المصرية حول ديوانها الأوّل "أنفاس السحر"، يعترف بأن الشاعرة تتحرّك في قصائد رشيقة في ألفاظها وموسيقاها، ذات نسيجٍ متين كلِّ المتانة، وأن الشاعرة حصلت من الثقافة الشعرية القديمة والثقافة اللغوية قدراً تُغبط عليه، وأنَّ روحها امتزجت بالشعر حتى صار جزءاً من كيانها بحيث إنَّ قراءة أيّة قصيدةٍ تملأ روحها بالشعر، وتنطلق منها ذبذبات نفسية تجعلها تضاهي تلك القصيدة في ألفاظها وتراكيبها وصورها. وحتّى إذا انطلقت الشاعرة من تلقاء ذاتها ومن مثيرات روحها الشخصية، فإنها تتأثِّر بمخزون ذاكرتها مما تحفظ من التراث الشعري العربي القديم، فتتأثِّر بتقاليده وتنفعل بمعانيه وموسيقاه وتراكيبه وصوره بما فيها من استعارات وتشبيهات. ولكنَّ هذا مع الأسف يُفقدها خصوصية التجربة وإبداع الجديد. ويقول الناقد " ينبغي أن نفرّق بين الاتصال بثقافتنا القديمة واستيعابها، وبين محاكاتنا لها وذوبان شخصيتنا فيها. قد كان الشعر العربي حريّاً أن يرتاد آفاقاً جديدةً لولا تسلُّط مبدأ المحاكاة ذاته على نفوس معظم الشعراء عبر العصور المختلفة."
وعلى الرغم من أننا نجد في شعر عاتكة قصائد كثيرة لم تتأثَّر فيها بموضوعات التراث الشعري العربي القديم، كما في قصيدتها التي تناجي فيها مكتبها ذي الأوراق البيضاء لأنَّ الإلهام لم يوافِها، وعلى الرغم من أنني ـــ بوصفي لغوياً ـــ أعد المحاكاة (بالإضافة الى القرآن الكريم) من الوسائل التي حافظت على اللغة العربية ألفاظاً وتراكيب ووهبتها قوةً لمقاومة التغيير السريع ومنحتها عمراً مديداً، فإنَّ في ما قاله المرحوم الدكتور عز الدين إسماعيل شيئاً من الحقيقة.
خاتمة:
عندما أتذكَّر أستاذتي عاتكة اليوم، فأنا لا أتذكَّر عاتكة الشاعرة، بل أتذكّر عاتكة الإنسانة، تلك المرأة الجميلة التي عشقتُ جمالها الهادئ، وأناقتها الفريدة، وخُلقها الفذّ، وأدبها الجمّ. أتذكّر تلك الأستاذة الرائعة التي بقيتُ أحاول، طوال السنوات التي أمضيتُها في التعليم، محاكاةَ لطفها وعطفها ومحبتها لطلابها، وحرصها على إفادتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعض المراجع:
ــ الدكتور عز الدين إسماعيل، " مع أنفاس السحر"، مجلة الرسالة، العدد 1036، 21/11/1963، ص 9 ـ 12.
ــ الدكتورة عاتكة الخزرجي، " الشخصية التاريخية لفوز" ، مجلة الرسالة ، العدد 1063، 21/11/1963، ص 12 ــ 16.
ــ الدكتور بدوي طبّانة، أدب المرأة العراقية في القرن العشرين ( بيروت: دار الثقافة، 1974) ط 2، ص 137ــ 176.
ــ ديوان العباس بن الأحنف، شرح وتحقيق عاتكة الخزرجي ( المحمدية/ المغرب: مطبعة فضالة، 1977).
S. A. Khulusi, " 'Ātika: A Modern Poetess" , Journal of the Royal Asiatic Society of Great Britain and Ireland, No. 3/4 (Oct., 1950),pp. 149-157Published by: Cambridge University PressStable
التعليقات
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|