قصة قصيرة بعنوان الذكرى للدكتور علي القاسمي
قصة قصيرة
الذكرى
نقلا عن موقع صحيفة المثقف.
أَحْسَستُ بقلبي يضطرب ويخفق بشدّة، مثل جناحَي عصفورٍ مذعورٍ، وأنا أَمدُّ يداً مرتعشةً إلى مطرقة الباب، فيشلُّها الخوف فلا تكاد تلمسها. لم يكُن أَحدٌ يدري ما وراء ذلك الباب الموصد دومًا، ولم يفضّ امرؤٌ سرَّ المرأة الوحيدة التي تقطن تلك الدار العالية الأسوار. فهي لا تزور جيرانها ولا يزورونها، ولم يشاهدها أيٌّ منّا في أَزِقّة البلدة الصغيرة، بل لا نعرف حتّى اسمها. فلم تكُن من أهالي البلدة التي تربط معظمَهم أواصرُ القربى، وإنّما وفدتْ عليها من مدينةٍ من المدن قبل بضع سنوات.
وكنّا ـ نحن الأطفال ـ نتحاشى السير على الرصيف المحاذي لحائط دارها، ونتَّجه تلقائيًّا إلى الرصيف الآخر، عندما نقترب منها. وكان بعضنا يتهامس عن جِنِّيَّةٍ أو مجنونةٍ، حين يمرُّ بالقرب من جُنينة المنزل القابعة وراء أشجار الصفصاف السامقة التي تنسدلُ أَغصانُها مثل ذؤاباتِ شَعرٍ طويلٍ يغطّي وجه صاحبته.
ولكنّي لا بُدَّ أن أستعيد كُرتي الجديدة التي قذف بها سوءُ حظّي عبر الجدار إلى داخل تلك الدار، حينما كنتُ ألعب بها وحدي عصر ذلك اليوم القائظ. وأخيرًا جمّعتُ كلَّ شجاعتي ورغبتي في أطراف أناملي، وقبضتُ على المطرقة، وطرقتُ طرقةً واحدةً مبتسرة، وانتظرتُ بتوجُّس. ومرَّت لحظاتٌ حسبتُها ساعاتٍ، دون أن يُفتَح الباب، فأَعدتُ الطَّرق ثانيةً وانتظرت، وثالثةً وانتظرت. وبينما كنتُ أهمُّ برفع المطرقة من جديد، فُتِحت الباب فجأةً، فجفلتُ إلى الوراء متعثِّرًا. وحدَّقْتُ أمامي، فاصطدم بصري بجسمٍ متلفِّعٍ بالسواد. وأخذتُ أرفع رأسي رويدًا رويدًا، حتى التقت نظرتانا. إنَّني الآن أمامها وجهًا لوجه. ولشدَّ ما كانت دهشتي حينما رأيتُ أنَّ لتلك المرأة وجهًا حنونًا وابتسامةً ودودًا.
وتلعثمتُ وأنا ألقي التحية عليها وأُردِفُ قائلاً:
ـ آسف، يا سيدتي، لقد سقطتْ كرتي في جُنينتكم.
ـ لا بدّ أنَّك الصغير علي ابن جارِنا الحاج محمَّد. أهلاً بك. ادخل واستعِد كُرتَكَ.
كنتُ آمُل أَنْ تأتيني بها هي، وأَنْ أبقى أنا خارج الباب في الزقاق، متأهبا لإطلاق ساقيّ مع الريح إنْ حصل ما يُريب. ولكنَّها أصرَّت بلطفٍ على أن أدخلَ وألتقطَ كرتي بنفسي، مشجعة إياي بابتسامةٍ عذبةٍ ونظرةٍ رؤوم.
تردَّدتُ وهلةً قبل أَنْ أجتاز عَتبةَ الدار بِوَجَلٍ، لأُلفي نفسي في جُنينةٍ واسعة لم تُشذّب نباتاتُها منذ مدَّةٍ طويلة، فَنَمَتْ أعشابُها وتشابكتْ شجيراتُها مكوِّنةً عدَّة أجمات، فاستحال العثور على كُرتي. وأخذتُ أفتِّش عنها بين الأعشاب وخلف جذوع الأشجار بإحدى عينَيَّ، في حين ظلَّتْ عيني الأخرى ملتصقةً بالمرأة تراقبها وتُحصي حركاتها.
وفي طرفِ الجُنينة القريب من باب الدار الداخلي أُقيمتْ طاولةٌ مغطّاةٌ بغطاءٍ حريريٍّ مزخرفٍ تحيط بها أربعة كراسٍ، وعليها إبريق شاي وعددٌ من الفناجين وقالب حلوى كبير. وجلستِ السيدة إلى المائدة، وقد صبّتْ لنفسها فنجانَ شاي، ولكنَّها لا ترتشفه، وأمامها قطعة حلوى في صحن صغير، ولكنَّها لم تأكل منها.
بدا لي وجهُها طبيعيًّا مثل وجوه أمَّهاتنا في البلدة. وإذا كان ثمّة ما يميزه عن غيره من الوجوه، فغلالة الحزن التي لا تُخطئها العين، والتجاعيدُ الكثيرة التي رسمتْها السنون حول عينيْها وعلى سحنة وجهها. غير أنَّ ابتسامتها الحنون لم تفارق شفتيْها.
ـ ربَّما اختفت كرتك وراء تلك الورود.
واتجهتُ إلى حيث أشارتْ بيدها. ولَشَدَّ ما كانت فرحتي حين عثرتُ على كرتي. التقطتُها ودلفتُ مسرعًا نحو الباب. وفي طريقي سمعتُها تقول:
ـ ألا تريد أن تتناول قطعةَ حلوى قبل أن تذهب؟
وتريّثتُ قليلا، وتنازعتِ الإجاباتُ المتناقضة لساني برهةً قبل أن أقول:
ـ شكرًا.. لا.. شكرًا.
ـ إنَّها حلوى طازجة صنعتُها بنفسي هذا اليوم. تعالَ، خُذْ شيئًا منها، قبل أن تعود إلى والديْكَ وتبلغهما سلامي.
وطمأنتني نبرات صوتها الهادئة وجِلستها المسترخية على كرسيِّها، ولم أستطِعْ مقاومة منظر تلك الحلوى الشهيَّة. فاقتربتُ منها بِوَجَل، آملا أن تناولني قطعةً منها لأخرج بها مسرعًا. قالت:
ـ تفضّلْ، اجلسْ إلى الطاولة، فقد ترغب في تناول كأسٍ من الحليب مع الحلوى.
وألفيتني أجلس على الكرسيِّ الأبعد عنها. وقطعَتْ لي قطعةً كبيرةً من الحلوى، شرعتُ في التهامها في الحال، وسمعتُها تقول:
ـ أنت تُذكِّرني بفريد.. ولدي فريد. رحلَ عنّا وهو في سِنِّك. كم عمرُك، يا علي؟ عشر سنوات؟
ـ نعم.
ـ لقد غادرنا فريد وعمره عشرة أعوام بالضبط.
ووجدتُني أسألها، وفمي ممتلئ بالحلوى:
ـ إلى أين ذهب؟
ـ إلى رحمةِ الله.. اختطفه منّي الموتُ الذي لا يرحم.
وبعد هنيهةِ صَمْتٍ، نهضتْ وهي تقول:
ـ دعني أُريك شيئًا.
وما إن نهضتْ حتى هببتُ واقفاً مستديرًا نحو الباب، وعيناي ترمقان بقية قطعة الحلوى التي لم آتِ عليها بعد.
ـ لا، لا تذهبْ.. اجلسْ وأَكملْ قطعتكَ من الحلوى.. سأعود بعد قليل.. سأُريكَ صورته.
وولجتْ البيتَ ورجعتْ بعد لحظاتٍ، وهي تحمل مُجلَّدَ صور (ألبوم) ضخمًا. وجلستْ بالقرب مني وفتحتْ المُجلَّد في وسطه، باحثةً فيه عن صورة ما، ثم قالت:
ـ لا، الأفضل أن نبدأ من البداية.
وعادت تفتح المُجلَّد من أوَّله.
ـ انظر، يا علي! هذا هو والدي. كان رجلاً وسيمًا فارع الطول. كان يحبُّني حبًّا جمًّا، ويُدلِّلني ويغمرني بالهدايا والحلوى والقُبل كلَّ يوم. ولكنَّه مات وهو في عنفوان شبابه،وأنا صغيرة. لم يكُن شابًا، ولكنَّه لم يكُن كهلاً ولا شيخًا عندما أصابته سكتةٌ قلبيةٌ قاتلة.. آه لو تدري، يا علي، كم حزنتُ عليه وافتقدتُه.. وما أزال أفتقده.
وقلبتْ الصفحة وأَرتني صورةً لامرأةٍ جالسة، وهي تحتضن طفلةً صغيرة، وقالت:
ـ وهذه هي أُمّي، وهي تضمُّني إلى صدرها. كانت امرأةً جميلةً، ولها عينان دعجاوان، ويتوِّج وجهَها المستديرَ الناصعَ البياض،شعرٌ طويلٌ فاحمُ السواد، فتبدو كالقمر. ولكنَّها ماتتْ بعد بضعة أشهر من وفاة والدي، كأنّما لم تحتمل فراقه، أو كانت تتعجَّل اللحاق به. ولكنّها تركتْني يتيمةَ الأب والأم. أنا لا أقول ذلك على سبيل اللوم، فقد تحابّا بإخلاص، وكان والدي يُخاطبها دائمًا بكلماتٍ رقيقةٍ، لم أسمع مثلها حتى اليوم.
وتصلّبتْ أصابعُها على الورقة التالية، كأنّها لا تريد أن تقلبها. ثمَّ نظرتْ إليّ وقالت:
ـ دعني أعطيك قطعةً أخرى. أَرى أنّها أعجبتكَ، أليس كذلك؟
وهززتُ رأسي موافقًا ولم أفُه بشيء.
ـ وهذا هو أَخي الكبير. كان يكبرُني بعامَيْن فقط. وكنّا نلعب سويةً، ونمرح كثيرًا. وكان يرافقني إلى المدرسة كلَّ صباح ونعود إلى البيت معًا بعد انتهاء الدروس. وكان يصطحبني في الأعياد إلى ساحة المدينة، حيث نركب دواليب الهواء ونلهو بالمراجيح. ولكنَّه مات وهو على وشكِ التخرّج في كلِّيَّة الطبّ. كان يأمُل أنْ يكون طبيبًا يداوي المرضى ويخلِّصهم من مخالب الموت، بَيدَ أنَّ الموت كان الأسبق إليه.
ولمحتُها ترفع منديلَها إلى وجهها وتمسح عينيْها، ثمَّ تقلب الصفحة مسرعة.
ـ وهذا هو زوجي وهو على صهوة جواده. لقد كان فارسًا مولعًا بركوب الخيل. كلَّما عاد من عمله امتطى جواده الأدهم، وذهب إلى المزارع المتاخمة لشاطئ النهر. لم يدرِ أنَّ الموت كان يترصَّده هو الآخر. سقط من جواده على رأسه على إثر قفزةٍ غير موفقة، ولم يكُن يرتدي خوذتَه. كان واثقًا بنفسه جدًّا. مات ولم يمضِ على زواجنا أكثر من عامٍ واحد.. وكنتُ حاملاً بفريد.
وأشاحتْ بوجهها عنّي، وهي ترفع منديلَها مرّةً أُخرى إلى عينيْها. ثمَّ قلبتِ الورقة فلاحتْ صورةٌ كبيرة تملأ الصفحة بأكملها.
ـ أرأيتَ؟ ألمْ أقُلْ لك إنَّكَ تشبه فريدًا كثيرًا؟ هذه آخر صورة له وعمره عشر سنواتٍ تمامًا. كان هو كلَّ ما تبقّى لي من أهلي. وكان في غاية الوداعة، ومجتهداً كذلك. كان الأوَّلَ في مدرسته. لو عاش لأصبح اليوم طبيبًا أو مهندسًا. مَن يدري!؟
وخنقتْها العَبرات، فرفعتْ منديلها إلى وجهها مرَّةً أُخرى، وغطَّتْ وجهها بيديْها. وكنتُ قد أتممتُ قطعتي الثانية من الحلوى فنهضتُ، ولكنَّها قالت لي:
ـ تريّث قليلا.. سأقطع لك قطعة أخرى من الحلوى تحملها معك إلى منزلك. يمكنك أن تأخذها معك غدًا إلى المدرسة. سألفُّها لكَ بعناية. هكذا كان يفعل فريد. لا تنسَ أن تبلّغ سلامي إلى والديك.
وشيَّعتني إلى الباب وهي تقول:
ـ يمكنكَ أن تأتي هنا متى ما شئت.
ووضعتْ يدَها على رأسي برفق، وقبّلتْ وجنتي بحنان، وأَوصدتْ الباب خلفي في تُؤدة.
وفي الزقاق، شاهدني أَحدُ الرفاق من الأطفال، وأنا أخرج من دارها، فقال لي بدهشة:
ـ هل رأيت الجِنِّيّة؟!
أجبتهُ باقتضاب:
ـ إنَّها على غير ما كنّا نظنّ.
ومضيتُ إلى منزلي بصمت.
***
بقلم: علي القاسمي - الرباط
أديب وباحث أكاديمي عراقي يقيم في المغرب.
ا
صالح البياتي