موعد في كراتشي بقلم الدكتور علي القاسمي
موعد في كراتشي
نقلا عن موقع صحيفة المثقف
في أواخر الثمانينيّات تبنَّتْ أربعُ منظَّماتٍ دوليّةٍ ـــ بدعمٍ من بعض الدول الكبرى ــ حركةً تربويّةً شعارها " التعليم للجميع "، تمخّض عنها عقد مؤتمرٍ عالميٍّ في جوم تيان، وهي بلدةً ساحليّةٌ سياحيّةٌ في تايلند. وشاركتْ في المؤتمر وفودٌ من جميع دول العالَم، بلغ تعداد أعضائها حوالي ألف وخمسمائة شخص، من بينهم رؤساء دول، ووزراء تربية وتعليم، وخبراء تربويّون، ومراسلو وسائل الإعلام.
الهدف من المؤتمر إقناع دول العالّم الثالث بضرورة محو الأُمّيّة قبل مطلع الألفيّة الثالثة، وذلك بتعميم التعليم الابتدائيّ في أراضيها، وتيسيره لجميع الأطفال ليتعلّموا القراءة والكتابة. ويتطلّب تحقيقُ ذلك الهدف من الدول النامية إنفاقَ أموالٍ طائلةٍ على بناء المدارس، وتدريب المعلِّمين، وإعداد المواد التعليميّة، وطباعة الكتب المدرسيّة. ولمّا لم يكُنْ في وسع تلك الدول الفقيرة توفير الأموال اللازمة، لأنّها تنفق معظم ميزانيّاتها على التسلّح والأمن، فإنَّ حركة التعليم للجميع اقترحت حلولاً عمليّة.
تتلخَّص الحلول في توفير الأموال اللازمة عن طريق إعادة هيكلة ميزانيات التربية والتعليم، وتوزيع النفقات فيها بصورةٍ عادلةٍ، ومعاملة جميع المواطنين بالتساوي. فبدلاً من إنفاق معظم ميزانيّة التربية على التعليم العاليّ والبحث العلميّ الذي لا يستفيد منه إلا نسبةٌ ضئيلةٌ جداً من المواطنين، تُحوَّلُ معظم الميزانيّة إلى التعليم الابتدائيّ لفائدة الجميع. وبدلاً من تدريب معلِّمين على مستوى عالٍ ودفع رواتبَ كبيرةٍ لهم، يُستخدَم مساعدو معلِّمين من خريجي المدارس الثانويّة برواتبَ منخفضةٍ. وبدلاً من تعميم تعليم ابتدائيّ يُكتفَى بتعليم أوليّ لأربع أو خمس سنوات يعلِّم جميع الأطفال القراءة والكتابة.
ذهب بعض المشكِّكين إلى أنّ الهدف المُعلَن لتلك الحركة هو " كلمة حقٍّ أُريد بها باطل". وأنّ الغاية الحقيقيّة هي وضع حدٍّ لمحاولات الدول النامية لاستنبات التكنولوجيا، وولوج عالم الصناعة عن طريق التعليم العاليّ والبحث العلميّ، لتبقى تلك الدول متخلِّفة دوماً، وسوقاً لاستهلاك المصنوعات الغربيّة، وتصدير اليد العاملة الرخيصة إلى البلدان الغربيّة (قديماً، كان الرومان يجلبون العبيد من تلك الدول النامية ذاتها للقيام بالأعمال الشاقّة والخسيسة في حين ينشغل السادة الرومان بالسياسة والديمقراطيّة والحرب).
ولكي تُهيِّئ الحركةُ جميعَ الدول النامية لقبول البيان العالميّ عن " التعليم للجميع " الذي كان سيصدر عن المؤتمر في جوم تيان، عقدتْ سلسلةً من اللقاءات الإقليميّة التمهيديّة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينيّة والبلاد العربيّة، شارك فيها وزراء التربية في كلّ منطقة، إضافة إلى خبراء "التعليم للجميع" الذين قدَّموا ما يدعم وجهة نظرهم من دراساتٍ معزَّزةٍ بالإحصاءات، والأشكال البيانيّة، والأمثلة التوضيحيّة.
عُقِد لقاء المنطقة الآسيويّة في دكا، عاصمة بنغلاديش. وبحكم عملي آنذاك، شاركتُ في هذا اللقاء. فبعد رحلةٍ جويَّةٍ دامت أكثر من اثنتي عشرة ساعةً، تخلَّلها تغيير الطائرة في مطار أوربي وتوقُّفٌ في مطارٍ عربيّ، وصلتُ إلى مطار دكا، واستقبلني المنظِّمون واصطحبوني إلى الفندق. وعندما دخلتُ بهو الفندق، وقع نظري على شخص ذي ملامح آسيويّة يجلس هناك، وتطلّع إليّ هو الآخر فالتقت عيوننا وتعانقت نظراتنا.
حالما انتهيتُ من إجراءات التسجيل لدى موظَّف الاستقبال في الفندق، نهض الرجل ذو الملامح الآسيويّة من مقعده، واقترب منّي وسلَّم عليّ، وقال باسماً:
ـ اسمك إمّا خالد وإمّا علي.
قلتُ:
ـ علي. لماذا؟
قال:
ـ لأنّني عندما استيقظتُ هذا الصباح، قلتُ في نفسي إنّني سألتقي اليومَ بشخصٍ أُحبُّه اسمه خالد أو علي، وسأقدِّم له هديّة هي عبارة عن اسمه مخطوطاً بالخط الديوانيّ الجليّ المُزخرَف والمُشجَّر بطريقةٍ بديعةٍ. فالخطّ العربيّ هوايتي.
ثمَّ فتح حقيبته اليدويّة وأخرج منها قطعتيْن من الورق المقوَّى الأبيض مُزيَّنتيْن بخطّ جميل، إحداهما " خالد " والأخرى " علي". ناولني الأخيرة وقال:
ـ هذه هديّة التعارف.
وفيما رحتُ أتمتم بكلمات الشكر، تبادر إلى ذهني أنّ الرجل يتكسَّب بهذه الطريقة. وربما اطّلع على قائمة الوفود الواصلة إلى الفندق ذلك اليوم وأعدّ القطع المخطوطة طبقاً لأسماء الوافدين. وهممتُ بإخراج محفظتي من جيبي لإعطائه بعض النقود. لكنّني، ولكي أواصل الحديث معه، قلتُ له قبل إخراج محفظتي:
ـ الآن أنتَ تعرف اسمي، فهل لي أن أتشرّف بمعرفة اسمك الكريم ليتمّ التعارف؟
أجاب ببساطة:
ـ أنور دِل.
عند سماعي هذا الاسم تجمّدتْ أصابع يدي على المحفظة، ولم أسحبها من الجيب الخلفيّ لسروالي، وقلتُ مُستفسراً:
ـ البرفسور أنور دِل، الأستاذ بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس؟
بلعتُ ريقي، ثمَّ أضفتُ تحوّطاً:
ـ أم أنّه مجرُّد تشابه أسماء؟
قال:
ـ تماماً، أنا البرفسور أنور دِل.
حمدتُ الله في نفسي لأنّني لم أُخرِج محفظتي ولم أُعطِه النقود. فالرجل من الشخصيّات الأكاديميّة المرموقة في الولايات المتحدة وهو من أصل باكستانيّ (حوالي 40 بالمائة من أساتذة الجامعات الأمريكية الكبرى يتكلّمون الإنكليزيّة بلكنة أجنبيّة، وهذا ما نسّميه بالعربيّة "هجرة العقول أو هجرة الأدمغة " أو ما يسمّيه بعض الساخرين بالمساعدات العلميّة التي تقدِّمها الدول النامية أو النايمة إلى أمريكا). وكنتُ أثناء دراستي في جامعة تكساس، قد قرأتُ بعض مؤلَّفاته واطّلعتُ على بعضها الآخر، لأنّها ذات صلةٍ، من قريب أو من بعيد، بموضوع تخصّصي. فأعماله تتناول نظريّة المعرفة؛ ليست تلك المعرفة التي نكتسبها عن طريق الحواس والتجارب المختبريّة، ولا المعرفة التي نحصل عليها بالاستدلال المنطقيّ والتوصّل إلى النتائج من مقدِّماتها، وإنّما تلك المعرفة التي تتأتّى لنا من الغوص في داخل ذواتنا واستخدام القوى الخيِّرة الكامنة في نفوسنا. إنّها المعرفة الحدسيّة، أو المعرفة القلبيّة كما يسميها البرفيسور أنور دِل (بالمناسبة، " دِل " باللغة الأورديّة تعني "القلب").
أمضيتُ عصر ذلك اليوم مع البرفيسور أنور دِل، وعلِمتُ منه أنّه جاء إلى دكا للمشاركة في الاجتماعات التي كانت ستبدأ صباح اليوم التالي، بوصفه خبيراً تربويّاً. وفي المساء ألحّ عليّ لتناول طعام العشاء معه على مائدة السفير الباكستانيّ في دكا. وعندما اعتذرتُ بشدّة، لأنّني لم أكُن مدعوّاً من لدن سعادة السفير، أخبرني أنّه أبلغ السفير بأنَّه سيصطحبني، وأنّ السفير صديق حميم له، وأنّه يعدّ نفسه صهراً للسلك الدبلوماسيّ، فزوجته هي أخت سفير بنغلاديش في موسكو (تزوجها ــ وهي بنغالية ــ عندما كانا يدرّسان معاً في جامعة لاهور، قبل انفصال بنغلاديش عن باكستان عام 1971). وكنتُ قد أطلعتُ على ترجماتٍ أنجزتْها زوجتُه من اللغة البنغالية إلى الإنجليزية لبعض أشعار رابندرانات طاغور (1861ـ 1941) الذي حاز على جائزة نوبل للآداب عام 1913 عندما كانت الهند وباكستان وبنغلاديش موحَّدة تحت الاستعمار البريطانيّ، تقديراً لروعة أشعاره الروحيّة. وظلَّ طاغور، أمداً طويلاً، الشاعر الشرقيّ الوحيد الحائز على جائزة نوبل (كأن فوزه بتلك الجائزة آنذاك رسالة ضمنيّة من أصحاب الجائزة إلى الشرقيّين للبقاء في حدود عالَمهم الروحيّ، وترك تدبير العالَم الماديّ للدول الغربيّة).
توطّدت الصداقة بيني وبين البرفيسور أنور دِل خلال أيام اللقاء الأربعة. وأهدى إليّ مزهريّة صغيرة من المرمر وطلب إليّ أن أضعها على مكتبي في منزلي، فهو يحتفظ بمثيلتها على مكتبه في منزله في مدينة سان دييغو في كاليفورنيا. وقال:
ـ وهكذا، فعندما تنظر إلى هذه المزهريّة، وأنظر أنا إلى أُختها في الوقت نفسه، سنتواصل روحيّاً، رغم المسافات البعيدة التي تفصل بيننا.
بعد انتهاء الاجتماعات، أخذ أعضاء الوفود يودّع بعضهم بعضاً. وجئتُ لأودّع صديقي الجديد البرفيسور أنور دِل. ولشدَّ ما أدهشني قوله:
ـ لا تودّعني هنا. سنذهب معاً إلى كراتشي لتناول طعام العشاء مع شيخي في منزله هناك. أودّ أن أعرّفك به.
أجبتُ بلطف:
ـ شكراً، يا أستاذ أنور على دعوتك الكريمة، ولكن عليَّ أن أسافر مساء هذا اليوم بطائرة الخطوط الفرنسيّة إلى باريس، ومن هناك سأعود على متن طائرة الخطوط الملكية المغربيّة إلى الرباط حيث تنتظرني مواعيدُ عملٍ كثيرة.
قال مبتسماً وهو ينغّم كلماته:
ـ قلبي يحدّثني بأنَّك صاحبي في سفري إلى كراتشي، سواء أردتَ ذلك أم لم تُرِد.
(وذكّرني كلامه ذاك ببيتَ شعرٍ للقطب الصوفيّ ابن الفارض:
قلبي يُحدّثني بأنـَّـكَ مُتلفي روحي فِداكَ عرفتَ أم لم تعرفِ)
قلتُ له بشيءٍ من الإصرار:
ـ مستحيل.
قال بلهجة الواثق مما يقول:
ـ ليس ثمّة شيءٌ مستحيل في الوجود. كلُّ شيءٍ ممكن.
وطبعاً كان من المستحيل عليّ أن أغيّر خططي وسفري قبل ساعتين من إقلاع طائرتي.
وفي المطار، توجّهتُ إلى منضدة الخطوط الفرنسيّة، ودفعتُ بتذكرتي إلى المضيّفة هناك؛ غير أنّها أخبرتني أنّ رحلتي قد تأجّلت حتّى يوم غدٍ لأسباب تقنيّة. وأضافت أنّها تستطيع تحويل تذكرتي ـ إذا أردتُ ـ إلى خطٍّ آخر هو : دكا ـ كراتشي ـ لندن ـ الدار البيضاء. وأوضحتْ أنّها حاولتِ الاتصال بي هاتفيّاً في الفندق صباح ذلك اليوم عدّة مرّاتٍ لإبلاغي بالأمر دون جدوى، وأنّ الطائرة المتّجهة إلى كراتشي ستغادر بعد ساعتيْن فقط، وأنّ عليّ أن أُمضي الليلة في فندق قرب المطار في كراتشي على حساب الشركة، ثمَّ أواصل السفر في الصباح إلى لندن فالدار البيضاء.
لم يكن لي خيار آخر فقبلتُ.
بعد أنْ ارتقيتُ سلَّم الطائرة وتوجّهت إلى مقعدي، فوجئتُ بالبرفيسور أنور دِل جالساً في المقعد المجاور. قال مبتسماً والسرور بادٍ على وجهه:
ـ ألم أقُل لكَ إنّ قلبي يحدّثني بأنّك رفيقي في رحلتي إلى كراتشي؟
حين هبطنا في مطار كراتشي قبل منتصف الليل، لم يدَعني البرفيسور أنور أذهب إلى الفندق، لإيداع حقائبي على الأقل حتّى الصباح، قائلاً وهو يلوّح لسيّارة أُجرة:
ـ لا وقتَ لدينا لذلك. سنأخذ الحقائب معنا. فهم ينتظروننا على مائدة العشاء.
حالما توقّفتْ سيّارة الأجرة التي تقلّنا، أمام المنزل المطلوب، فتح شيخٌ وقور الباب، وهو يقول بفرحٍ غامر:
ـ أنور، أهلاً وسهلاً. قلبي يحدّثني منذ الصباح بأنّك ستزورنا اليوم. وقد طلبتُ من أولادي وأزواجهم أن يأتوا هذه الليلة لتناول العشاء مع عمّهم أنور.
***
قصة قصيرة
بقلم: علي القاسمي
.......................
ـ هذه القصة من مجموعة قصصية عنوانها " حياة سابقة" نُشرت عدّة مرات في الدار البيضاء، وبيروت، والقاهرة، ونجران.
المشاركون في هذه المحادثة
تعليقات (16)