فطور الصباح قصة قصيرة للدكتور علي القاسمي نقلاً عن صحيفة المثقف، مع تعليقات لبعض النقاد.
نقلاً عن صحيفة المثقف، مع تعليقات لبعض النقاد.
فطور الصباح
تعالَ معي لنتناول فطور الصباح، فأنتَ ضيفي اليوم. لنذهبْ إلى أحد المقاهي المُكتظَّة بِروّادها من الموظَّفين والعاطلين. إنَّهم يتناولون فطورهم، أو بالأَحرى يحتسون قهوتهم مُتمهِّلين طوال الصباح. فمدينتنا مدينةٌ سياحيّةٌ من الدرجة الأولى. سُيّاحها هم أهلها من الشباب والشيوخ. وأنا وأنتَ سنمضي الصباح كلَّه في مقهًى كذلك.
ولتمضية الوقت، دعني أقرأُ لكَ قصيدةً بالفرنسيَّة لجاك بريفير عنوانها " فطور الصباح ". فعنوانها يتَّفق والمَقام الذي نحن فيه، والشاعر كان يكتب قصائده في مقاهي باريس وحدائقها العامَّة. وإذا كنتَ لا تُجيد الفرنسيَّة، فسأقرأً لك القصيدة ذاتها بالعربية. فقد نقلها إلى العربيَّة الشاعر نزار قباني وأعطاها عنوان " الجريدة ". فَعَلَ ذلك رأفةً بأمثالكَ ممن لم يتقنوا الفرنسيّة بسبب تغيّب المُعلِّم المُستَمرّ. وضمّها قباني إلى ديوانه، ولكنَّه نسي أن يكتب كلمة " ترجمة " عليها. لا بدّ أنَّك سمعتها من قَبل بصوت المُغنِّية ماجدة الروميّ.
وإذا كنتَ لا تُحبِّذ الشعر وتفضِّل الإنكليزيَّة، فلنقرأ قصَّة قصيرة للكاتب الأمريكيّ رون كارلسون بعنوان " قراءة الجريدة ". ماذا قلتَ؟ أنتَ تجهل اللغة الإنكليزيّة. لا عليك، لا تهتمْ ولا تغتمْ، لأنَّني بصدد سرقة موضوع هذه القصَّة ونقله إلى العربيّة الآن بعنوان " فطور الصباح". مجرَّد تغيير في العناوين وتُصبِح كاتبًا. وعلى كلٍّ، فالصحف لا تدفع حقوق المؤلِّف. أنتَ تسرق أفكار غيركَ، والناشرون يسرقون حقوقكَ.
لم تُعجبْكَ قصَّتي؟ لماذا؟ ليست لها مواصفات القصَّة؟ لا عليك، سنسمِّيها " سرد "، فهي من فنون ما بعد الحداثة، ومصطلح "سرد" يغطّي كلَّ ما هو ليس بقصَّة وتريده أن يكون قصَّة، تماماً مثل مصطلح " تشكيل " في الرسم. فأنتَ، مثلاً، تستطيع أن تُصبِح رسّامًا إذا وضعتَ شخبطات داخل إطارٍ أنيقٍ، وعرضتَها في معرض فخم، وقلتَ إنَّها " تشكيل ". وإذا كان لك أصدقاء من نقّاد الفنّ، فسيخرجون بتحليلاتٍ وتأويلاتٍ لشخبطاتك لم تخطرْ لكَ على بال.
ماذا قلتَ؟ لا تريد أن تسمع شيئاً من الأدب الفرنسيّ ولا الإنجليزيّ؟ إذن سنقتل الوقت بقراءة الصُحُف العربيّة. لا تظنُّ أنَّني سأشتري الصُحُف. عبقريَّة البطالة تخترع أساليب فذَّة. سنستعير جميع الصُحُف من البائع مقابل نصف درهم فقط، وبعد أن نطَّلع عليها، نعيدها إليه، وهو بدوره يعيدها إلى الموزِّع غداً صباحًا بوصفها " مرجوعات لم تُبَع". جميعهم يفعلون ذلك، ونحن كذلك. ألم أقُل لكَ إنَّ البطالة أُمُّ الاختراع.
أنتَ تفضِّل مشاهدة المارَّة والتعليق عليهم، أَلَيسَ كذلك؟ إذن، هذا المقهًى يُطل على الشارع العامِّ. ولكن، ينبغي عليَّ أن أحذِّركَ مُسبقًا. إذا رأيتَ شابًّا يوقف فتاةً مارَّةً في منتصف الطريق، ويُشهِر سكينًا في وجهها، ويأمرها بتسليم حقيبتها اليدويَّة وحليّها المزوَّرة، فلا تتحرَّك من مكانك، لأنَّ الفتاة ستسلمه الحقيبة بِيدٍ مرتعشةٍ وابتسامةٍ شاحبة، ويمرُّ المشهد بسلام. أمّا إذا كنتَ فُضوليًّا وتدخَّلتَ فيما لا يعنيك، فقد يحدث ما لا يُحمَد عُقْباه. افعلْ تماماً كما يفعل الشرطيّ، وهو يمرّ على المشهد بعيون مُغمَّضة. عذره أَنَّه أنهى نوبته قبل لحظات. إنّها الحكمة بعيْنها. أو افعلْ كما أفعل أنا: احتسي قهوتي قبل أن تبرد.
ماذا قُلتَ؟ النادل أتى بالقهوة باردة؟ لا تهتمّ بذلك، لأنَّها ستبرد على أيّ حال، فنحن سنمضي الصباح كلَّه في هذا المقهى. ضعها أمامك فقط مُتظاهراً بالتلذُّذ باحتسائها. لا تشرب قهوتك بسرعة. في العجلة الندامة وفي التأنِّي السلامة. وإذا لم يُعجبك هذا المقهى، سنذهب بعد الظهر إلى مقهىً آخر، فالمدينة كلُّها مقاهٍ: بين كلِّ مقهى ومقهى مقهى.
إذن لنبدأ بقراءة عناوين أخبار الصفحة الأولى في هذه الجريدة. هل أنتَ مستعدٌّ لسماع أخبار الأُمَّة هذا الصباح؟ توكَّل على الله:
ـ " بروفيس مروفيس ينجو للمرَّة الثانية خلال أُسبوعَين من هجومٍ بالقنابل."
لا تعرف مَن هو بروفيس مروفيس؟ إنَّه جنرال استولى على السلطة بانقلابٍ عسكريٍّ، وحَكَمَ بالإعدام على رئيس الحكومة المُنتَخَب. المسكين الأخير كان قد فازَ بالانتخاب. لكنْ، بالرشوة والتزوير.
ـ "عشرات القتلى من اللبنانيِّين بسقوط طائرة بوينغ في طريقها إلى بيروت."
السبب؟ بسيط جداً: الطائرة مُستهلَكة، وأموال الصيانة أخطأتْ طريقها واستقرتْ في جيوب بعض مسئولي الشركة.
ـ " طائرات إسرائيليّة تغتال ستة فلسطينيِّين بينهم أربعة أطفال، بإطلاق صاروخ على سيّارتهم في شارعٍ بغزة، وتجرح عشرين من المارَّة."
الخبر عاديّ لا يحتاج إلى تعليق. اعتدنا عليه، لا جديد فيه. نسمع مثله كلَّ صباح منذ ثلاث سنوات.
ـ " قوات الاحتلال الأمريكيّ تقتل ثلاثين عراقيّاً وتعتقل مائة وستين آخرين شمال بغداد..."
إنَّهم سادة العالَم، إنَّهم رعاة البقر. يسرحون ويمرحون كما يحلو لهم. لا مانع ولا رادع. والعالم مزرعةٌ كونيّةٌ صغيرةٌ لتسمين أبقارهم. ونحن جميعاً مِلك أيديهم.
ـ " اكتشاف مقابر جماعيّة جديدة في العراق."
تعلّم أساليب الحُكم الصالح، يا صديقي! فقد يركبك الحظ وتصبح رئيس جمهوريَّتنا المَلكيّة في المستقبل القريب. ماذا تقول؟ لا، أنا لستُ مازحاً.
ـ " تقرير دوليّ: 351 ألف طفل عربيّ مُصاب بالأيدز/السيدا."
هذا معناه أنَّنا تعلَّمنا حكمةً نردِّدها منذ ألف عام: " النظافة من الإيمان".
هل تريد أن تسمع مزيدًا من الأخبار؟ لا؟ لنغيِّر الموضوع إذن: والآن كيف نبحث عن عمل؟!
بقلم : علي القاسمي
.....................
ــ القصة من مجموعة " دوائر الأحزان" التي صدرت طبعتها الأولى في دار ميريت، القاهرة 2007.
يرجى التفضل بالاطلاع على القراءة النقدية لهذه القصة:
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.
المشاركون في هذه المحادثة
تعليقات (17)