المدينة الشبح قصة قصيرة بقلم الدكتور علي القاسمي
قصة قصيرة / المدينة الشبح
أتفرّسُ في الحروف المُتراصّة، أفترسها. ألوكُ أصوات الكلمات المتعاقبة، ألفظها. أتتبَّع معاني العبارات المنسابة، أُدركها. فيتملَّكني العجب لما حدث وكيف حدث. أُلقي نظرةً متسائلةً عبر النافذة المُغبرَّة، فلا تصافح عيناي سوى كثبانٍ رمليَّةٍ صفراءَ، تنداح متراميةً، حتّى نهاية الأفق، حيث تلتصق بوجنة الشمس الغاربة، فتعفّرها. كثبانٌ صامتةٌ ناطقةٌ في آنٍ، كثبانٌ تفوح بعبق الصحراء بجميع أسرارها الدفينة، وبكلّ تاريخها الموغل في قلب الزمن، الغائر في خاصرة الغرابة. أُدير وجهي إلى زوجتي الأمريكيّة المتسمِّرة أمامي المحدِّقة بي، وأترجم لها ما وعيتُ، فتُبرِق الدهشة في عينيْها وتقول:
ـ عجيب، هذا أمر هائل! الآن لستُ نادمةً على الرحلة.
كانتْ قد حاولتْ أن تثنيني عن القيام بتلك الرحلة مُجادِلةً:
ـ إنّكَ ترمي بنفسكَ في لجَّة الخطرِ، حين تجوب مجاهل الصحراء.لأجل ماذا؟ لمجرّد العثور على المدينة التي هاجر منها جدُّك إلى أمريكا. وبمَ يفيدك هذا؟ وماذا ينفع الماضي من الناحية العمليّة؟ إنّنا نخطو حثيثاً نحو عتبة القرن الثاني والعشرين، وأنتَ ابن يومكَ. انظر إلى الأمام، وتطلَّع إلى النجوم الشامخة، ولا تلتفت إلى الخلف، وتحدّق في حضيض الوحل.
وعندما ارتطمتْ كلماتُها وتوسُّلاتها بجدار إصراري الصلد، عدلتْ عن رأيها، وقرّرتْ أن ترافقني في سفرتي، وأخذتْ تساعدني في الإعداد لها.
راحت سيَّارتنا الكهربائيَّة، المجهَّزة خصيصاً للسير في الصحراء وهي تجرّ عربة المؤونة المُلحقة بها، تنساب على الرمال مثل ضبٍّ مرتعبٍ هارب. وكان طنين محرِّكها يتلاشى في فضاءِ الصمت المطبق حولنا. وراحتِ الشمس تدلق أشعتها الذهبيّة الساطعة على الصحراء المتموّجة أمامنا، فتكرعها الرمال العطشى، ولا تذر في قرارة الكأس شيئاً، ما عدا سراباً تلمحه عيوننا، وهو يرتفع وينخفض مثل ماء بحيرةٍ نائية.
كانت المعلومات المنثالة على شاشة حاسوب السيّارة، بجانب المِقود تشير إلى دنوّنا من مقصدنا، ولكنَّنا لم نتبيّن شيئاً. لم تطالعنا أيّ أطلال أو خرائب. وكدنا نرفع راية اليأس على سارية الإعياء، حين بزغت في الأفق البعيد قدامنا، أعمدةٌ رمليّةُ اللون تطاول عنان السماء. حسبناها، أوَّل وهلةٍ، أشباحاً هائلةً متراصّةً، مثل صفٍّ من الكائنات الخرافيّة، القادمة من كواكب أُخرى. ثمَّ ما فتئت أن تبدّت لنا على هيئة عماراتٍ شاهقةٍ، أخذت تزداد ارتفاعاً كلّما اقتربنا منها.
وأخيراً ضمّتنا المدينة وعانقنا أوَّل شارعٍ من شوارعها. شوارعٌ عريضةٌ فارهة، وعماراتٌ كبيرةٌ فخمة. مدينةٌ قائمةٌ بكلّ مبانيها ومرافقها، لم يُصِبْها زلزال ولم يجتَحْها طُوفان. ولكنَّها مهجورةٌ خالية، لا إنسان فيها ولا حيوان ولا نبات. وكانت بعض أبوابها ونوافذها تتحرَّك بفعل الريح الخفيفة، فيصدر عنها صرير/أنين يبذر الرهبة والتوجّس في نفوسنا. وعلى الطرقات، تناثر زجاجُ بعض شبابيكها المُهشَّم، مختلطاً مع أكوام الرمل التي تجمَّعت هنا وهناك. وثمَّة مساحاتٌ فارغةٌ بين العمارات، لا بدّ أنّها كانت منتزهات، أو مواقف للسيّارات، ذات يوم. وبقينا وقتاً طويلاً، ونحن نتوجّس خروج إنسان أو حيوان من أحد الأبواب.
واخترقنا وسط المدينة متّجهين إلى أحيائها الغربية حيث انتشرتِ الإقامات السكنيّة الفاخرة المهجورة. أوقفنا سيارتنا وسط الشارع الرئيس وهبطنا راجلين وسِرنا على الرصيف المُدثَّر بالرمل، بمحاذاة الأبواب. كان بعضها موصَداً وبعضها الأخر مغلقاً وبعضها مفتوحاً على مصراعيْه. وكلّها تحمل قطعاً نحاسيَّةً أو خشبيَّةً كُتِب عليها اسم الإقامة. وأغلب الأسماء مؤنَّثة على غرار (فيلا حصّة) و (فيلا جوهرة 2). ندلف إلى بعض المنازل، فنلقي على جنباتها نظرةً بلون الحزن. وفي كلِّ منعطفٍ، شهقةٌ ودهشة. ووراء كلِّ بابٍ، يتلفَّع سرٌّ لا يخلع رداءه للتاريخ. وعلى كلِّ قطعةِ أثاثٍ فاخرةٍ، غفتْ بردة أسى.
تسمّرتُ في مكاني فجأةً، وأخذتُ أحملق في القطعة المُثبَّتة على أحد الأبواب، وأنا لا أصدّق عينيّ. لقد كانت تحمل اسم أُسرتنا. عجبتُ لكونها تختلف عن أسماء المنازل الأخرى. وتذكّرت ما كان يقوله لي أبي في صغري أحياناً على سبيل اللوم:
ـ تخالف الآخرين دوماً فلا تفعل ما يفعله الناس جميعاً. هكذا كان جدُّك!
وينفذ صوت زوجتي إلى أُذني مقاطعاً تجليات طفولتي:
ـ ماذا دهاك؟ ما لكَ ذاهلٌ هكذا؟
ـ لقد بلغنا مقصدنا، بكلّ بساطة، أكاد لا أصدق نفسي!
دلفنا إلى المنزل، فألفينا أثاثاً بكامل عُدّته، حتّى الستائر المرتعشة بفعل النسيم على الشبابيك، كأن الأهل غادروه ذلك الصباح، لولا غلالةٌ رمليةٌ استوتْ على الأسرَّة والجدران. انتقلنا من غرفةٍ إلى أُخرى، وقلبي يحدوه الحنينُ، فيزداد خفقاناً، ويحرقه الوجد فيذوب ذوباناً. ثمَّ ارتقينا السلَّم إلى الطابق العلويّ. وهناك وجدتُ مكتبة جدّي برفوفها الأنيقة وكتبها المُسفّرة، يتوسّطها مكتبه الذي دوّن عليه معظم مؤلَّفاته، التي من أجلها علّمني والدي العربيّة. وعلى الجانب الأيمن من المكتب، كان دفتر مذكراته. قبضتُ على جمر الحنين بمهجتي، وفتحتُ الصفحة الأولى، بأنامل مرتعشة، مثلما يفتح طفلٌ كتابه الأوَّل في المدرسة. وأخذتُ أقلّبُ صفحاته، وأتفرّس في الحروف المتراصة، أفترسها، والدهشة تجلّل وجهي:
20 أبريل 2031
اقتصادنا راكدٌ تماماً مثل مستنقعٍ آسن.
25 مايو 2031
البترول الذي ننتجه، هو السلعة الوحيدة في العالم التي ينخفض ثمنها باستمرار، خارقاً بذلك جميع المبادئ الاقتصادية. منذ أربعين عاماً، وسعر البرميل في انخفاضٍ دائم، هبط من أكثر من مائة وعشرين دولاراً إلى أقلَّ من دولار واحد!
3 يونيو 2031
مصادر الطاقة البديلة تجعل من بترولنا سلعة بائرة، شيئاً تافها لا قيمة له، مادة قذرة تتجنبها الأيدي، إنّه فحم القرن الحادي والعشرين. حتّى في بلادنا لا نستطيع الاستفادة من البترول. فجميع الآلات والمحركات والسيّارات التي نستوردها، لا تعمل بالبترول مطلقاً.
30 يونيو 2031
العمال والمستخدمون الأجانب يغادرون البلاد بكثافة، لا لتمضية العطلة الصيفيّة مع أهاليهم، وإنّما إلى الأبد، بسبب انخفاض الأجور التي لم يقبضوها منذ شهور. قبل عشر سنوات، كنّا نسعى إلى طرد العمّال الأجانب الذين لا يتوفرون على رخصة إقامة صالحة؛ أمّا اليوم فيصعب علينا استقدام العمّال والتقنيّين اللازمين للتسيير. لقد نضب المال الذي كان يجذبهم إلى المدينة، فغادروها. أمّا نحن، فجذورنا جذورُ نخلةٍ تضرب بعيداً في أعماق التربة، وليس في مقدورها أن ترحل مع الريح كالأشنات.
25 يوليو 2031
اضطر كثيرٌ من الناس إلى تمضية الليل في العراء، ليصيبوا شيئاً من النوم. فقد بلغت درجة الحرارة اليوم ،أكثر من خمسين درجة مئوية. وأجهزة التبريد في عددٍ كبيرٍ من العمارات معطَّلة، بسبب انعدام الصيانة. فأمست الصناديق الأسمنتية المسماة بالشقق، قِطعاً من جهنم لا تطاق.
30 يوليو 2031
الشباب الذين تهاطلوا على المدينة أيام ازدهارها، قادمين من الواحات القريبة والقرى البعيدة، طمعاً في حياة أفضل، شرعوا بالعودة إلى منابعهم. لم يعُد بوسع المدينة أن تقدّم لهم أحلامهم على طبقٍ من ذهب، فتخلّوا عنها. أمّا نحن، فلن ندير ظهورنا إلى مدينتنا. كنّا هنا عندما كانت بيوتنا مبنيّة من الطين قبل خمسين عاماً، وبقينا هنا عندما تحولت إلى إقامات من المرمر والإسمنت، وسنبقى هنا متمترسين في مواقعنا، حتّى بعد أن يتفتت المرمر ويتهرَّس الإسمنت. إنَّ الذي يحزّ في نفوسنا، هو الجفاف الذي أصاب عقولنا. لم يخرج أيٌّ منا بأيِّ بدائل مقبولة.
20 أغسطس 2031
لقد وقع ما كنتُ أخشاه. المياه التي تصلنا من محطة تحلية مياه البحر، أخذت في التناقص، ثمّ في الانقطاع ثلاثة أو أربعة أيام في الأسبوع. نلجأ الآن إلى تخزين الماء في صهاريجَ منزليّةٍ احتياطاً.
15 سبتمبر 2031
ها قد تغيّر طعم الماء كثيراً. إنّنا نشرب ملح البحر في قهوتنا، ولم يعُد بمقدور السكّر تلطيف مذاقها. ولكنَّ الأمرَّ والأدهى هو انقطاع الماء عنا لفتراتٍ أطول فأطول. لا ماء كافٍ للشرب، بله سقي الشجيرات اليتيمة الذابلة في المدينة. إنّها تموت واقفة. إنّه انهيار سدِّ مأرب الجديد.
10 أكتوبر 2031
مئات من الشقق التي غادرها ساكنوها، فارغة؛ وعشرات من العمارت مغلقة بكاملها، لا تجد من يستأجر شققها أو يشتريها بأبخس الأثمان. أزمةُ السكن التي عالجتها صحافتنا بإطناب قبل أربعين عاماً أمست نكتةً قديمةً مؤلمة.
30 نوفمير 2031
لم يعُد هنالك عمّال أجانب في المدينة ليغادروها. ولم يبقَ فيها من المهاجرين إليها ممن لم يعُد إلى واحته أو قريته. لذلك جاء دور أهلها الأصليِّين. فقد سمعتُ أن صديقنا عبد الله قد رحل وعائلته الأسبوع الماضي، دون أن يحاول بيع منزله أو أثاثه ودون أن يودّعنا. أمَّا نحن فباقون هنا. جذورنا ملتحمةٌ مع تربتنا التحاماً لا فكاك له.
31 ديسمبر 2031
غادر جارنا عبد المجيد وعائلته المدينة بسيّارته قبيل الفجر. لم يحتمل رؤية عيوننا وهي تشيّعه. ولم يحتمل الجفاف ونقص الخدمات التي اعتاد عليها. فاختار أن يتلفَّع بسواد الليل خارجاً من المدينة. بيدَ أنّا سنبقى، وستمتد جذورنا إلى أعماق الأعماق باحثةً عن قطرة ماء، ولتتساقط الأوراق الصفراء من أعالي الأغصان.
5 يناير 2032
تواترت الإشاعات حول احتمال انقطاع الماء من محطة تحلية مياه البحر بصورة نهائيّة. والآبار التي ما زالت في أطراف المدينة لا تسدُّ حاجتنا من الماء. شبح العطش يطلُّ علينا مع مطلع العام الجديد.
1 فبراير 2032
منذ شهر جفّ مداد قلمي بصورة مريعة، لأنّ الصحيفة اليومية المتبقية الوحيدة توقّفت عن الصدور في آخر يوم من أيام السنة المنصرمة. كنت أظن أنّني أكتب إشباعاً لحاجة ذاتيّة، أو رغبة في التعبير عن أحاسيسي، أو للهروب من واقعي الخانق إلى عالم متخيل أرحب. ولكنَّني اكتشفت اليوم أنّني كنت أكتب للتواصل مع الآخرين. وعندما انقطعت جسور التواصل معهم أحجمتُ عن الكتابة، أو بالأحرى أحجمتْ عني. لم أعُد أدوّن إلا مذكّراتي الحميمة بين الفينة والفينة. لِمن أكتب؟ غداً ستذرو الرياحُ أوراقي، وتطمس الرمالُ كلماتي.
18 فبراير 2032
أَسرَّ إليّ أخي الكبير اليوم أنّه وأفراد أُسرته عازمون على الرحيل قبل حلول الكارثة، ونصحني بمصاحبته، قائلاً إنّه على الرغم من إصراري فإنّ دودة القلق تمتصّ الدم من وجهي، وإنّ الخوف يتراقص على شفتَي وأصابعي، ولا بدّ من الخروج من مملكة الخوف والقلق. أجبتُه قائلاً إنَّ سعفات النخلة قد تهتز مع الريح، ولكنَّ جذورها ثابتة في الأعماق. قال: "سنرى" وانصرف.
20 فبراير 2032
لم تبقَ لي سوى المذكّرات، هي ملاذي الوحيد. ألجأُ إليها هروباً من الصمت. أحتمي بها من العزلة التي تخنقني، العزلة التي يفرضها الجفاف، العزلة التي تُحكمها الصحراء على خناقي، العزلة الناتجة من تلاشي الحياة الاجتماعيّة في هذه المدينة المُحتضِرة. أبثُّ مذكّراتي أشياءَ لا قيمة لها، أشياءَ تافهة، أشياءَ لا تغيّر المصير المُترصِّد بنا أبداً، ولكنّها تمنحني فرصةً للثرثرة مع نفسي فتعوضني عن الصديق والرفيق، وتجعلني أتأمّل في مشاعري وسلوكي فأشعر أنّني ما زلتُ أحيا.
21 مارس 2032
يا لسخرية القدر! لقد اقتحم مدينتنا مسخ الجفاف ممتطياً صهوة الربيع. اليوم انقطع الماء من محطة تحلية مياه البحر بصفة نهائيّة. وهكذا يتضافر جفاف صنابيرنا مع جفاف أرواحنا.
22 أبريل 2032
أهالي المدينة يغادرونها جماعاتٍ جماعاتٍ كالطيور المهاجرة. إنّه موسم الهجرة إلى جميع الاتجاهات.
5 مايو 2032
درجة الحرارة تتمادى في الازدياد، والماء الذي نستدرُّه من البئريْن المتبقييْن، يوشك على النضوب. والصيف على الأبواب.
6 يونيو 2032
العوائل القليلة المتبقيّة في المدينة تجمّعت في شارعنا، وانتقت الإقامات التي تناسبها فيه، وأطلقنا عليه شارع الصمود.
1 يوليو 2032
معظم الصامدين يتحدّثون الآن عن التوجّه إلى الخارج لتمضية العطلة الصيفية. إنَّها مجرد ذريعة. ولكنّني لا أستطيع التخلّي عن مهد الذكريات.
8 يوليو 2032
لم تبقَ في شارع الصمود إلا عائلتنا. إنّه سجن انفرادي قضبانه مشرعة على الصحراء، وعزيمتنا يحملها صاروخ منطلق إلى تخوم الاستسلام.
11 يوليو 2032
ما فائدة انغراز جذور النخلة في أعماق التربة، عندما ينقصم جذعها، وتهوي إلى الأرض؟ الجفاف يطلّ علينا بوجهه الكالح، من كلّ حدب وصوب.
14 يوليو 2032
الجفاف يغيّض آخرَ قطرة في آخر بئر. الجفاف يشرب دماء قلبي. الجفاف ينشّف مداد قلمي. إنّي راحل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ