رواية (مرافئ الحب السبعة) بين ثقافة السرد وسرد الثقافة..الدكتور فيصل غازي النعيمي
رواية (مرافئ الحب السبعة) بين ثقافة السرد وسرد الثقافة..الدكتور فيصل غازي النعيمي
نقلا عن موقع النور
" قراءة كتاب تعني إعادة كتابته"
سارتر
الدكتور فيصل غازي النعيمي
جامعة الموصل ـ العراق
رواية "مرافئ الحب السبعة "رواية المتناقضات الكبيرة (السردي/ الشعري/ الدرامي/ السيري /المعرفي)، رواية الغربة والحنين، رواية الحب الكبير والعشق المستحيل، رواية الكراهية للقمع والظلم وانتهاك الحريات وتدمير الإنسان والزيف والكذب والنفاق، رواية الفرد ورواية الجماعة ، رواية أحادية الصوت ورواية التعدد في الأصوات، رواية الحضارة ورواية الوحشية، رواية الموت والحياة، النور والظلام، الجهل والمعرفة، الإشراق والخفوت؛ كل هذه التناقضات عملت على تشييد المعمارية الفريدة والأصيلة لهذه الرواية.
يسير علي القاسمي في اعماله السردية الكثيرة والمتنوعة على وفق مبدأ إنساني/ فني واضح ومحدَّد الأهداف، ويعبِّر عن هذا المبدأ بشكلٍ سردي يصنع فرادته من تجربة ثقافية وإنسانية واسعة وعميقة تؤسِّس لموقف لا يحيد عنه. فالقاسمي يناضل عبر الكتابة حتى يبقى حيّاً ولا تقتله الغربة. ولو استعرنا المفاهيم اللسانية والسيميائية التي تؤكد على العلاقة الحتمية بين الدال والمدلول، يمكننا عند ذلك أن نعدّ عنوان الرواية "مرافيء الحب السبعة" المفتاح الأساس في قراءة هذه المدونة السردية. وسنحاول ان نبتعد قليلا عن استراتيجية المؤلِّف الهادئة في تشييده التركيبي للعنوان، وتحديدا مجاورته بين الدالين (مرفأ ـ حب) وربطهما بعد ذلك بالعدد (سبعة) ذي المرجعيات المقدسة (دينياً وشعبياً). فالعدد (سبعة) يحيل على وفق مرجعيته النصية على سبع مدن هي (بغداد ـ بيروت ـ نيويورك ـ أوستن ـ الرباط ـ فاس ـ الرياض)؛ ولكن النص لا يتوقَّف عند هذه المرجعية فحسب، بل ينفتح على قدسية هذا العدد منذ الحضارة السومرية مازجاً بين المقدس والشعبي فالديني (القرآني ـ الصوفي) يتجاور مع مدلولات هذا العدد السحرية: ((هذه هي السنة السابعة من عمر غربتي . نعم ، سبع سنين وأنا أحمل على عاتقي الواهي عبء غربتي الذي هدّ حيلي. اما آنَ الأوان لألقي هذا الحمل الثقيل من منكبي؟ يراودني أمل سومري في أنني سأستريح في السنة السابعة، كما كان السومريون الذين ابتكروا تقسيم الزمن والحساب، يستريحون من العمل في اليوم السابع، كما خلق إلهُهم الكونَ في سبعة أيام واستراح بعدها. سبعة، هذا الرقم المقدس لدى السومريين، ألا يستطيع أن يثبت قدسيته عندي ويعيدني إلى وطني ، فالنجوم التي قدّسها السومريون سبعة، تماما كما ذهب العرب بعدهم إلى أن الثريا في السماء تتألَّف من الأخوات السبع، وحتى الجفاف في زمن يوسف لم يدم أكثر من سبع سنوات، جاء بعده الخصب والنماء، ترى هل ينتهي جفاف روحي بعد هذه السنوات السبع من الغربة، فقد أتت بقراتُ الغربة العجاف السبع على بقية الفرح في حشاشتي، يا إلهي. أُصلّي صلاة الاستسقاء، لعلّ سحابة مرت في أعالي وطني، تتصدَّق عليَّ هنا، من سماء المستحيل، بقطراتٍ تحمل مذاق الفرات وطعم الوطن. انظر إليّ يا ربي، فأنا مثل سالك الصوفية المتقرب إليك، مررت بجميع المقامات السبع، وأنا في المقام السابع، ألا تسبغ عليّ شيئا من الرضا وتعيدني إلى وطني، كما أعدتَ يوسف إلى أهله بعد السنة السابعة)).
وبما أنَّ الاختيار فعل قصدي فإنّ بنية العنوان المتعالية نصياً على بقية أجزاء المدونة تمارس دور المراوغة من جهة ودور الإغواء (الثقافي) من جهة ثانية. فلو ربطنا (مرافيء الحب السبعة) مع النص المقتبس السابق لوجدنا تغيرا كبيرا في المدلولات التي قد تغيّر البنية العنوانية نفسها (على مستوى القراءة) وفقا لجدلية الحضور والغياب ، فالمرافئ ما هي إلا منافٍ قسرية أو اختيارية؛ والحب بمعناه الإنساني الضيق (علاقة بين رجل وامرأة) قد تحقّق في هذه المرافيء (وداد ـ سوزان ـ أثيرة)؛ لكن انفتاح دلالات العنونة وقدرتها على المراوغة تحيل العنوان إلى (منافي المعرفة السبعة).
فالغربة هي المحرِّك الأساس للفعل السردي في هذه الرواية مع ملاحظة ما يتبعها من حنين وقلق وعدم تكيف مع البيئة الجديدة على الرغم من المغريات المادية والمعنوية. فالبحث عن الحب يوازيه في عالم الرواية البحث عن المعرفة وكلاهما يدخلان في حرب معلنة مع الغربة، مما يتيح للذات أن تستكين في مرفأ معين (مع ان هذا لم يحصل في المتخيل السردي). وإذا ابتعدنا قليلا عن مرجعيات النص الظاهرة وإغواء العنونة المثيرة فإنّ شخصية (سليم) تعود بجذورها إلى (السندباد البحري) صاحب الرحلات السبع وهو يعود الى بغداد والبصرة محملا بالمعرفة المدهشة التي يحوِّلها إلى حكيّ فنتازي، لكنَّه في الوقت نفسه يؤسس لقيمة أخلاقية/ سردية تتعلَّق بإقحام الثقافي في السردي. وإذا كانت رحلات السندباد السبع قسرية في ظاهرها بسبب العامل الاقتصادي، فإنها تحولت إلى موجِّهات إنثروبولوجية للمحكي السردي في حكايات الليالي العربية. وهذا ذات الشيء في رواية "مرافيء الحب السبعة": فالغربة والرحيل عن الوطن كان بفعل قسري وإن احتوى على هامش من الطواعية. فالحياة في الغربة أفضل من الموت في الوطن، على ما في هذه الحياة من موت معنوي؛ لذلك صاغ المؤلف هذا الخروج بتعبيريةٍ دراميةٍ كثيفةِ الترميز وبسيطةِ التركيب. وهو يذكرنا بـ (الأندلسيين) و(الفلسطينين) الذين حملوا المفاتيح والذكريات معهم عند خروجهم الأخير من أوطانهم. ومن هنا احتشدت مفردات (حفنة من التراب ـ خوصة خضراء ـ ريشة بطة ـ شال الأم الأسود) بوصفها مفردات ذات طاقات إيحائية عالية وفي الوقت نفسه تحمل تاريخا فرديا للشخصية الرئيسة (سليم). فالمفردة هنا ليست كوناً قائماً بذاته، بل هي تاريخ يستدعي بعضه بعضاً في عملية بنيوية تتقصّد استدعاء علاقات الحضور والغياب والاستبدال والتجاور. فالمفردة مشحونة بالمرجعيات المتعدِّدة والمتواشجة وبذلك لا قيمة لها في المقطع السردي إلا من خلال تواجدها النصيّ المفعَّل بعلاقاتها مع السابق واللاحق (( لم أحمل معي شيئاَ يذكَر من قريتي يوم غادرتُها هارباً متخفياً، مجرَّد أشياء صغيرة ليست ذات شأن، لكنها كانت تعني لي الكثير الكثير. وضعتُ في حقيبتي حفنة تراب من بستاننا، وخوصةً خضراء انتزعتُها من إحدى سعفات نخلتنا برفق، بيدٍ مرتعشة وشفتيْن واجفتيْن كأنني أعتذر لها عمّا أفعل أو كما لو كنت أتلو عليها بكائيات الوداع، وريشةً من ريشات بطتي الأثيرة كانت ملقاة على حافة حوض السباحة في حديقة المنزل، وشالاً أسود لأمي أخذته من صندوق ملابسها دون أن أُخبرها، طويتُ فيه نايي وخبّأتُه وسط ملابسي في الحقيبة. ولكنّ قصدي الحقيقي منه أن ألف به رأسي إذا ما داهمتني الحمّى يوماً ما أو ألمّ بي الصداع، لعل رائحة أمي العالقة بي تشفيني مثل تميمة او بلسم سحري)) .
ومن هنا تتأكّد المقولات الانسانية عن أن الانسان لا ينفصل عن وطنه وتاريخه، وتحديداً تاريخ الطفولة، مهما حاول ذلك.
وبعد هذه العتبة المقدِّماتية عن عنونة الرواية ومقولاتها المركزية ذات الطبيعة الإنسانية المتأرجحة ما بين الخصوصية والشمولية، يتبيَّن لنا أنّ المؤلِّف اشتغل بحرفية عالية وتقنية مدهشة على ثلاثة خطوط في هذه الرواية من الصعب الفصل بينها ،لأنها متداخلة ومتشابكة في صياغة سردية اهتمت بتعدُّد الأحداث (المتكلِّم ـ الغائب ـ المخاطَب) وأساليب سردية متنوعة (البوح ـ المذكرات ـ الرسائل ـ السرد الشعري ـ السرد الدرامي ـ السرد التوثيقي ـ السرد المعرفي) وهذه الخطوط هي :
•1. الفاعلية الإنسانية:
سردُ (علي القاسمي)، منذ قصصه القصيرة، يحمل قيماً أخلاقية يؤسِّس لها عبر النزعة الإنسانية التي تهيمن على فضاءات السرد وتوجِّهه على المستوييْن الموضوعاتي والجمالي، لذلك تظهر موضوعات (الحب المستحيل ـ وهي تشكل الفاتحة والخاتمة النصية للرواية) و(حب الوطن والأحزان الدورية لهذا الوطن عبر تاريخه الطويل). ويتداخل الحب بمعانيه المتعدِّدة بالخطاب السياسي في هذه الرواية؛ فـ (مرافيء الحب السبعة) تكشف عن الوجه القبيح للسياسة، وهي صرخة هادئة في وجه الطغيان العسكري الذي اجتاح المنطقة العربية منذ منتصف القرن الماضي تحت شعارات الاستقلال من الاستعمار. فتحوّلت الانقلابات العسكرية إلى وجه آخر لهذا الاستعمار، حيث القهر والتخلف، وانتهاك إنسانية الإنسان، وتدمير حريته، ونفيه قسريا عن وطنه. من هنا تربط الرواية عبر خيوط خفية بين الانقلاب العسكري في العراق وبين انقلاب الصخيرات الفاشل في المغرب .... إنّ القيم السياسية التي يقدِّمها نص الرواية (الحرية ـ الاستعباد ـ القهر ـ السجن ـ المنفى ـ الملاحقات ـ القتل) تتداخل مع الموضوعات الأثيرة لدى (القاسمي) التي كشفنا عنها سابقا في خطابه القصصي، لكنه يعيد صياغتها في نص الرواية من دون تكرار فج، بل ضمن منظومة فكرية وطنية إنسانية عميقة تؤسّس لبناء الانسان وتطرح إشكالية علاقة المواطن مع موطنه تبعا لمقولة فكرية ترى أنّ أزمة الحرية هي أزمة ثقافة قبل أن تكون أزمة سياسة. فالتراكمات التاريخية والاجتماعية والثقافية هي التي أدت إلى انحسار الحريات في المجتمعات العربية. ولهذا فإنّ العقل الواعي والعقل الباطن لشخصية (سليم) لا يكفان عن وضع المقارنات بين طبيعة المجتمع العربي وطبيعة المجتمع الامريكي تحديدا في مسألة حقوق الإنسان. هذا الخط السياسي المعبَّر عنه بوجوه مختلفة يتعاشق تماما مع خطاب الحب الذي يتسع لأكثر من تجربة إنسانية وعلى مستويات مختلفة. فالحب الكبير هو حب الوطن وبحث الإنسان اللامنتهي عن الكرامة التي توازي الخلود في ملحمة كلكامش. ويبدو أن التدرُّج المنطقي هو أساس بناء الرواية ما بين (الرحلة والعودة) وبينهما (المعرفة وخيبة الأمل). وبالتأكيد فإنّ شخصية سليم لا توازي شخصية (كلكامش) ولا حتى في الفعل السردي باستثناء الانتماء إلى فضاء وطن واحد هو العراق، فنصف الإله عاد منتصرا (إلى حدٍّ ما) في النص الأسطوري بينما (سليم) اتخم بالغربة والمعرفة وفقدان الأحبة وصولا إلى الحنين الطاغي لأرضه في النص السردي المتخيل: ((لستُ أول عراقي يفد إلى بيروت ولن أكون آخرهم، فمنذ زمن السومريين كان الناس يطلبون بلاد الأرز لاجئين ومستوطنين ومغامرين. إلى هنا وصل جلجامش برفقة صديقه الوفي انكيدو باحثا عن نبتة الحياة. ...ففتحت وهادك لاحتضاننا، وصافحتنا بطيب رباك وبسمات أهلك. ...
دخل كلكامش واقترب من أمه. وقال:
يا ننسون ! لقد اعتزمتُ أمرا جسيما
اعتزمتُ سفرا بعيدا، إلى موطن خمبابا
إنني مقدم على قتال لا أعرف عاقبته
ومزمع على السير في طريق لا أعرف مسالكه. )).....
اذاً يتجاور الخطاب الروائي السياسي مع خطٍّ عشقي يعتمد المفاجأة وشعرية لغوية شديدة الحساسية تخالف بنائياً باقي خطوط الرواية وتحيل على رؤية ذاتية غنائية تختزل العالم في حبّ (سليم) المنشطر ما بين حب الوطن وحب المرأة، فالبعد والغربة والنفي السياسي واغتيال صديقه هي الحوافز الاساسية في تنشيط ذاكرة (سليم) وحنينه الدائم إلى الوطن. أما الخطاب العشقي الأنثوي فقد أخذ لوحده خطاً سردياً على المستويين النصي والموضوعاتي، فالحيز النصي الخاص بتجربة العشق (تحديدا مع شخصية أثيرة) لم يتداخل مع السرد العام إلا بعد منتصف الرواية، وشكّل لنفسه ما يشبه الحيز الخاص حيث اللغة الشعرية المناجاتية لِطيف الحبيبة ما يذكّرنا بقصة (آلام فرتر) لجوته، و(قصة حب مجوسية) لـعبد الرحمن منيف، وقصص جبران، ورومانسيات الفترة الخمسينية في الرواية العربية مع محمد عبد الحليم عبدالله ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس.
لكن ما يميّز الخطاب العشقي، في هذه الرواية، اللغة المتدفقة والجارحة والمتفجعة والمتفجرة الدلالات، فنحن أمام قصائد شعر نثرية تشبه إلى حدّ ما (كتابات غادة السمان في كتابها الفريد (حبّ). ولا أجد لهذه الكتابة العشقية ما يشابهها على المستوى اللغوي إلا كتابات ادور الخراط وجمال الغيطاني وبهاء طاهر. فشعرية الكتابة (المناجاة) تكشف عن شعرية الحب بوصفه فعلاً إنسانيا قابلا للتعبير عنه وغير قابل للتكرار. ومن هنا فإنّ اللغة الروائية (الشعرية) تحفّز الوضعيات السردية وتستدعي الذاكرة بكل تفاصيلها على وفق أسلوبٍ سردي مركب ما بين التجلي والخفاء: ((لو كنتِ أنتِ طرقتِ الباب ، لرمَّمتُ حطام نفسي، ولملمتُ روحي المبعثرة، ورسمتُ على شفتَي بسمة، وخلعتُ المصاريع، وقلعتُ العتبات، وأوسعتُ لك المداخل والممرات، وفرشت لك أهداب العين والجفن.
لو كنتِ أنتِ طرقت الباب، لنثرتُ تحت رجليكِ الفلَّ والريحان، وغسلتُ قدميك بحليب القبرة وعسل الملكات ودموعي، ونشّفتُهما بالآهات وزهر الياسمين وشقائق النعمان، وعطّرتُهما بالعود والمسك والزعفران.
لو كنتِ أنتِ طرقتِ الباب، لأوقدتُ لك الأصابع شمعاً وأنرتُ دربكِ الى سويداء القلب ودثّرتُك فيه، وأشعلتُ لك مهجتي بخورا، وانشغلتُ بكِ انشغال الصوفي بعبور المسالك واختراق الحجب الى شواطيء أفقكِ الخفي البهي.
لكن ، لكن طيفكِ، يا أثيرة، هو الذي أطلّ عليّ في غير الأوان، ليسخر من محاولاتي البائسة للنسيان، ويريق شرايين الذكرى في فضاء حجرتي، ويؤثّث سريري بالحمّى وأوجاع الذكريات))
ويأخذ الحبُّ في نص الرواية بعدا شموليا بعيدا عن تقييده بموضوعة الأنثى والجسد، فينفتح على آفاق قصية لا تحدُّها الحدود، تبدأ مع حب القرية والنهر والمدينة وحتى الحيوانات الأليفة وصولاً إلى الحب الكبير مع الوطن. ويلاحظ أنّ الوطن عند القاسمي ليس رقعة جغرافية محدودة بقدر ما هو حضارة ممتدة الجذور وذكريات منقوشة على جدران القلب لا يمكن لعاديات السنين أن تمحوها: ((يا وطني المستحيل ! إني أفتش عنك منذ سنين، بين ركام الذكريات ، وأبحث عنك في فضاءات الأوجاع ، والأحزان، والفجائع ، والمذابح، والمقابر الجماعية. أتلقط أخبارك في النسيم القادم من الشرق، لعلّي أشمُّ روائحك يا وطني الجريح، فلا يصلني إلا صدى أنينك، وأنت تحت سكاكين العتاة والطغاة والغزاة، يا وطني الذبيح. أتوسل إليك ، يا وطني المستحيل، خذني إليك مرّة ،ضمني اليك ضمة ...))
وبين الحب الطفولي وحب الوطن، يتجلّى حبُّ الأم بوصفه معادلا موضوعيا لكل شيء جميل في الوطن للأصالة والمحبة والأمان. وهنا يعمد الكاتب الى توظيف بنية متدرجة تكشف عن الدلالات العميقة للنص الروائي ، فتتراتب مفردات معينة لتشكل البنية الأساسية لخط الحب الإنساني حيث (الوطن/ البيت/ الأم/ النخلة/ الشال) :((في تلك الليلة تحوَّل الشعور الذي ينوء به قلبي إلى صداع يمزق رأسي، وحمى تلهب جسدي. لا بدّ لي من أخذ الدواء المعتاد. فتحتُ حقيبتي، أخرجتُ شال أمي، وضعته على وجهي وأنا مستلقٍ على السرير، شممتُ رائحة الحناء المنبعثة منه، تغرغرتُ باسمك يا أمي سبع مرات (...)، وانتظرتُ ليغادرني الصداع، وأفتكُّ من الحمّى..... ولكن حالما لامستْ أطراف شال أمي جفوني، أخذتِ الألوان تتكشَّف أمام بصيرتي لأرى أمي وهي تجلس في باحة المنزل في ظل نخلتنا الباسقة والى جانبها أختي الصغرى، سليمة. (....) كنت أراهما قريبتين مني تماما على بعد خطوة، وتكاد يدي تلامس خدَّ أمي لتمسح دمعةً انحدرت من عينيها))
تتعملق صورة الأم في ذاكرة سليم وتقترن بصورة الوطن وتاريخه الحزين الطويل وتكاد صورة هذه الأم أن تتماهى مع صورة الوطن لتعبّر عنه بصبرها وجلدها وقوتها وحنانها وأخيرا موتها الفاجع، الأم هنا تذكرنا بصورة الأم القوية ولكنها ليست (الأم) عند مكسيم غوركي المؤدلجة بل بـ (حكيمة بنت الشيخ جابر) في رواية عبد الرحمن الربيعي (خطوط الطول ...خطوط العرض) حيث ترمز إلى الوطن بمعاناته اللامحدودة وتاريخ المآسي الذي استدار عليه ولازمه منذ العصور السحيقة وحتى راهننا المعاصر...
الأم هنا شخصيةٌ وموقف ، شخصية تنتمي إلى فضاء معلوم وترتبط بشخصية فاعلة في المتخيل السردي ، لكنها لا تتوقف عند هذا الحدّ بل تتحول إلى موقف إنساني وفكري يندمج في الخطاب السردي عبر لعبة تخييلية/واقعية تؤطِّر الماضي الذاكراتي وتحلِّق في المستقبل.
•2.السيري في السردي:
إنّ كسر نوعية النص الروائي عبر تفاعله مع أنواع أدبية متاخمة له ليست بالعملية الجديدة في تفاعلها وتداخلها، لاسيما اعتماد النص الروائي على الجانب الذاتي المعبر عنه بالسيري منذ المدونات السردية العربية الأولى في هذا المجال (علم الدين، والأيام، وعصفور من الشرق). والتفاعل بين السيرة والرواية يأخذ منحيين:
الأول، يتعلّق بالمماثلة الأسلوبية والفنية؛
والثاني، المنازعة ما بين منطقتي الواقع والتخييل وصولاً إلى مفاهيم الإبداع والصدق والمطابقة والكذب.
ومن البديهي أن التنافذ بين السيري والروائي، وتداخل السيري في النصوص الروائية، يأتي من الطبيعة الإجناسية للرواية وقدرتها التخيلية التي تساعد المؤلِّف على التحرُّر من قيود الرقابة بتجلياتها المختلفة والمتنوعة.
لا ينفصل هذا الخط السردي عن سابقه، بل يؤازره في البناء الروائي العام. فالقاسمي يمتح من تجربته الحياتية كثيرا في مشروعه السردي (ويبدو ذلك واضحا بشكل جلي في مدونته القصصية ). فالمشروع السردي لديه لا يتعارض (في الغالب) مع سيرته لذلك يمكن للقارئ أن يماثل بين حيوات شخصياته (الرئيسة تحديدا) وبين حياة المؤلِّف الخاصة. وهذه المماثلة الدالة على وجود سرد مركب ما بين الواقعي والمتخيل، منحتِ النصَّ الروائي قدرا كبيراً من الحيوية والحميمية على اعتبار أن المؤلِّف استعان بخبراته الشخصية وأدوار من حياته في متخيله السردي. ولا أعتقد أنّ القاسمي شكَّل استثناء في ذلك، فالتجربة السيرية كانت المعين الأساس لأغلب التجارب الروائية العظيمة. وفي هذا الصدد يقول الروائي سليمان رحيموف: ((لقد استقيت من الحياة الجانب الكبير من الأشياء التي خلقتها))؛ أي إنّ التجربة الحياتية (المميزة) تؤسِّس لعملية الخلق الإبداعي. ومن هنا يمكن تلمُّس (أصداء) لسيرة المؤلف تسربت بقصد ومن غير قصد الى هذه المدونة الروائية التي حشد فيها القاسمي الكثير من التناقضات والتي أسهمت في بناء هذا العالم الروائي المتفرِّد، وتحديدا الجمع بين السيري والروائي.
إنّ عملية المماثلة والمطابقة بين سليم الشخصية الرئيسة في رواية (مرافيء الحب السبعة) وبين حياة (الكاتب) يمكن تلمُّس نتائجها على أكثر من مستوى (سردي/ معرفي/ مكاني/ زماني) مما يمنح النص جزءا لا بأس به من الميثاقية السيرية. فـ(سليم) أستاذ جامعي عراقي يقيم بالمغرب، ترك العراق لأسباب سياسية نهايات العقد السادس وبدايات العقد السابع من القرن الماضي ينتمي إلى محافظة القادسية، أكمل دراساته العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، وكل هذه علامات سيرية توافق إلى حدّ التطابق مراحل في حياة المؤلف (علي القاسمي)، فضلا عن بعض الاشارات الظاهرة أو الخفية التي تؤكِّد المماهاة ما بين المؤلف والشخصية كالاهتمام بالمعجميات وهي صفة رئيسة وعلامة فارقة يعرف بها (المؤلف) :((لا أدري ما الذي يربط بيني وبين الماء. هذا الماء الذي يعرفه الكيميائيون بأنه سائل لا طعم له ولا لون له، هو الذي يلوِّن حياتي بالأحاسيس العميقة ويهب وجودي مذاقا وطعما ومعنى. ما رأيت الماء إلا أحسست بنوع من اللذة الخفية، وما غاب عن نظري بضعة أيام حتى شعرت بنوع من التوتر النفسي الذي تولِّده حاجتي الى رؤيته متدفقا متموجا مترجرجا جاريا. كنت في طفولتي أعتقد أن اللذة والألم من مشتقات الماء، أو أن الماء من مشتقاتهما، فعندما طلب منا معلم اللغة العربية في المدرسة الابتدائية أن نبحث عن تعريف الماء في المعجم، لم أكن أعرف الجذر الذي تندرج تحته كلمة الماء، فبحثت عنها تحت مادتي (ل ذ ذ) و(أ ل م) في المعجم، وعجبت عندما أخبرنا المعلم أن كلمة الماء توضع في المعجم تحت الجذر (م و ه) وأنّ حرف الهاء الأخير يظهر في صيغة الجمع مياه)).
إن السيري الذاتي يشتغل في المقتبس السابق بروح المفارقة بشقيها السردي والحياتي مستفيداً من التجربة الذاتية في اطارها الاوسع يمهد لظهور لغة (البوح) وهي لغة سردية/ شعرية تميل الى التكثيف وإيراد التفاصيل الصغيرة في آن واحد، مما يؤشّر توجها فنيا وإنسانياً لدى المؤلِّف .
•3. الثقافي في السردي:
يبدو أنّ النص الروائي المعاصر الأكثر قدرة على امتصاص المعلومات والمعارف والعلوم وإعادة بثها من جديد وبطريقة فنية. ومسألة تداخل الثقافي مع السردي تنبع من إشكالية طرح خطابين مختلفين في الرؤى والأهداف والمقاصد والبنى الأسلوبية. وبالتأكيد فإن الثقافة لا تهدف إلى البعد التراكمي فقط عند الإنسان وعالمه. فالثقافة حصيلة معرفية وهي لازمة شرطية للإبداع الحقيقي المتجذر والمتجدد. فلا يمكن إنكار الدور الفاعل الذي تلعبه الثقافة في تشكيل وعي المبدع ومن ثم المرجعيات المختلفة السياقية والجمالية. ورواية (مرافيء الحب السبعة) تطرح إشكالية ثقافية/ سردية تتعلَّق بحدود العلاقة والتمايز والاندماج بين المعرفي والحكائي؛ وهذه خاصية أسس لها القاسمي في أعماله القصصية؛ وهي قضية ليست بالهينة، بل تتطلب وعياً سردياً عن طريق امتلاك القضايا الرئيسة للفن الروائي ومحاولة دمجها (جمالياً) بالواقع الحياتي والمعرفي من دون إثقال السرد بكم المعلومات. فالرواية بطابعها الحواري قادرة على التمثيل الثقافي، لكن ضمن قدرات واعية تحفظ للنص السردي توهجه الحكائي بما يتناسب ورؤية المؤلِّف والسياق الثقافي والنصي للمدونة الروائية. ولا تقتصر الفاعلية التمثيلية للنص الروائي على المرجعيات السردية ، بل تنفتح على حقول معرفية ثقافية واجتماعية وأخلاقية ودينية وسياسية واقتصادية وتعليمية مما يفسح المجال للتمثيل الثقافي عبر النوع السردي ان يتجاوز مفاهيم النقد التقليدية (النقل عن الواقع). وهذا ما فعله القاسمي في نص الرواية فـ (سليم/ المؤلِّف/ الراوي) يذكِّرنا بالرحالة العرب، ونص الرواية أقرب من الناحية السوسيو ـ ثقافية إلى أدب الرحلة الذي يهدف إلى إغناء المتن الحكائي بالتجارب الحياتية والثقافية. لذلك نجد المجاورة في نص واحد ما بين الثقافة الواسعة والطابع الحكائي مما يولد نوعاً من المثاقفة القائمة على الحوارية الفنية بالمعلومات والمعارف لكن هذه المعلومات مرتهنة بالشرط السردي الجمالي: ((ثم وصلنا إلى جامع القرويين، الذي يعدّ أقدم جامعة في العالم، وقلتِ لي إن رجلاً من أهل القيروان في تونس اسمه محمد بن عبد الله الفهري قدِم إلى المغرب أيام الأدارسة، واستقر في فاس رفقة زوجته وابنتيه فاطمة ومريم، وبعد وفاته ورثت منه ابنتاه ثروة كبيرة، وكانتا من المُحسِنات الصالحات ، فأنفقت فاطمة من مالها الخاص لبناء مسجد كبير رائع البناء على أرض فسيحة في محلة العالية على الضفة اليسرى لوادي فاس. وقد استُخدم هذا المسجد للعبادة والعلم، وسميّ باسم نسبها ((جامع القرويين)) (أي القيروانيين). وبنت أختها مريم مسجداً اصغر منه على الضفة الاخرى من الوادي حيث يسكن الأندلسيون)).
وهذا التوظيف يأتي مندمجاً مع المقاطع السردية بطريقة مركبة ما بين القصدية والتلقائية: ((حتى مكتبة الأستاذ كانت مفتوحة على الصالة المشتركة حيث كانت رفوفها جميعاً من الخشب المطلي باللون الأبيض، وكان مكتبهُ الذي يطلّ على البحيرة، مطليّ باللون الابيض كذلك ... ولاحظ سليم نسخةً مرمرية بيضاء لتمثال ((الكاتب)) الفرعوني تتربع في وسط المكتب، وبين رفوف الكتب كانت لوحة بإطار خشبي ابيض هي نسخة من لوحة بيكاسو الشهيرة ((جورنيكا)) التي رسمها بعد أن قصف الطيران النازي الألماني قرية جورنيكا في شمال اسبانيا عام 1937 وقتل الكثير من أبنائها)).
فالعادي اليومي يتألّق ويتوهّج في عالم الرواية لاندماجه في البنية السردية مع الهمّ السياسي والوجع الاجتماعي والبعد المعرفي، حتى إنّ الأمر يصل بالقاسمي إلى الاقتباس المباشر والتناص الخفي مع كتب وآثار ومدونات معروفة وقصص شعبية ونصوص شعرية معلومة وتجليات وإشراقات دينية وصوفية وأغانٍ تراثية مرتبطة بالوجدان العراقي (ملحمة كلكامش ـ أشعار الحلاج ـ ذكريات ثورة العشرين ـ اكتشاف أمريكا ـ خسارة الأندلس ـ حرب فيتنام ـ السيرة الهلالية ـ محاضرات أكاديمية ـ قصة لـ لورنس ـ قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة ـ استعراض تاريخي عن الولايات المتحدة الامريكية ـ العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية وظاهرة التمييز والعنصرية ـ منزل الحسناوات النائمات لـ كاواباتا وربطها برمزية وواقعية المقدَّس والمدَّنس في الحب ـ أشعار البياتي عن الغربة ـ مفهوم الهوية وإشكالياته ـ نموذج اليهودي العراقي وإشكالية طرح الهوية الوطنية ـ الانقلابات العسكرية ـ كتاب تزيين الاسواق في أخبار العشاق ـ الميثولوجيا الشعبية (لالة عيشة) ـ تاريخ جامع القرويين ـ قصيدة نزار قباني ـ مقولة النفري ـ قصيدة لامارتين).
إنّ تخصيب النص الروائي بهذا الشكل الواسع يتطلب مهارة فنية وقدرة تقنية وثقافة واسعة. والأهم عدم قتل السردي والاعتداء عليه باسم الثقافي والمعرفي. وهذا ما توفر لهذه الرواية الفسيفساء التي احتوت هذا الكم الهائل من كل شيء ولكن بقدر مدروس ومرسوم بدقة ومهارة مما زاد من توهجها وألقها.
•· للدكتور فيصل غازي النعيمي أعمال نقدية عديدة منها كتابه:
ـــ حساسية النصّ القصصي: قراءة في مجموعة " حياة سابقة" لعلي القاسمي (بيروت/ الرباط: الدار العربية للعلوم ناشرون ودار الأمان، 2012) الطبعة الأولى.
التعليقات
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|