أصدقاء الدكتور علي القاسمي

الأبعاد الفلسفية في رواية (مرافئ الحبِّ السبعة) لعلي القاسمي.. إدريس الكريوي

الأبعاد الفلسفية في رواية (مرافئ الحبِّ السبعة) لعلي القاسمي.. إدريس الكريوي
نقلا عن موقع النور
 
الأبعاد الفلسفية في رواية
"مرافئ الحبِّ السبعة" لعلي القاسمي
بقلم : إدريس الكريوي*
فاس ـ المملكة المغربية
    لا ينبغي أن تستغرب من الحمولة الفلسفية التي تثري حقل رواية علي القاسمي " مرافئ الحبِّ السبعة " ** وذلك لسببيْن اثنيْن :
أولهما ، الثقافة الموسوعية للكاتب ، ناهيك عن التعمُّق في الفلسفة العامَّة ، وفلسفة اللغة على الخصوص ،
وثانيهما ، تميُّز شخصية الرواية الأساس ( سليم ) بالقلق النفسي والقلق الميتافيزيقي الذي يجعله يستغرق في دوّامةٍ من الأسئلة التي تقتضي أجوبةً وتستدعيها، والتي لا تتطلَّب أجوبة ولا تنتظرها .
فهذه الشخصية ألبسها القاسمي ألبسةً شتى ، وقنّعها بأقنعةٍ متعدّدةٍ ومتنوِّعةٍ، كثيفة وشفافة أيضا ، وأمسك بتلابيبها يحرِّكها في الأزمنة الثلاثة ، وأمدَّها بأفعالٍ وردودِ أفعالٍ، متلائمةٍ حينا ومتضاربةٍ حينا آخر ، وبسلوكٍ يتأرجح بين السواء والهذيان ، والسذاجة والذكاء ، والحبِّ والمقت ، والإذعان والتمرُّد.  أجرى الكاتب على لسانها ثقافته الموسوعية ، "وأدلجها " بإيديولوجيته الرافضة للاستغلال والانتهازية ، والنفاق السياسي ، وحربائية الشعارات ، وطنين المصطلحات وزيفها.  جاءت الرواية مغرقةً بالتفلسف في كل شيء : في الملمات وفي الحبِّ والوطنية والاغتراب ، في استبطان الذات ورصد المجتمع ، في مصير الإنسان ومحيطه ، وفي ماهيته ،وفي الملكوت وخلق الله تعالى من طبيعة متحرِّكة وجامدة ، في البسيط والمركب ...
   لقد ناقش الباحث الروائي - على لسان سليم أو الراوي - فلسفة الوجود الإنساني ، وعبثية الحياة ، وجدلية الذات والموضوع ، والجبر والاختيار ، والتشاؤم والتفاؤل ، والحقَّ والحقيقة والعدل ، وقِيم السعادة والإخلاص، والوفاء والحرِّية ( بكل أنماطها الفردية والجماعية ) ، والديموقراطية والديكتاتورية، وأخضع قيمة الحبِّ إلى التفلسف على المستويات الواقعية والغريزية والصوفية والنفسية، وألمَّ بالأخلاق كسلوكٍ وعلمٍ يضمُّ عدَّة مجالاتٍ فردية واجتماعية وبيئية ، ووظَّف "موضوعة الموت " توظيفا يزري بتناول الرومانسيين والوجوديين والميثيين ( الأسطوريين ) ، فشرح هذا الكيان ( كيان الموت ) وفق أبعاده ، ووفق مدارسه الوجودية والتصوُّفية والنفسية والتراثية التاريخية ، ومن خلاله وقف عند ثنائية الروح والجسد ، واللحظة البرزخية ، والتناسخ ، وفلسفة التشاؤم شأن المغتربين ( المهجريِّين على الخصوص ). وفي (موضوعة الحبِّ )، ميَّزَ بين الطبيعي والروحي والمثالي، والحسي والعذري، وأثر الحب على الشخصية اعتمادا على فلسفة الحب عند علمائه القدامى والمحدثين، من فلاسفة ومتصوُّفة وعلماء دين ، وعند علم الجمال العالق بالحب والإبداع ، وعند حب الوطن كقيمة مثلى تميِّز الرواية، وعند التوحُّد الصوفي أسوةً بالتوحُّد النفسي الذي رأيناه في البعد النفسي للرواية ، وعند التخاطر وتراسل الحواس...
 ولم تكُن هذه العناصر إبداعية فقط ، بل كانت تحمل في ثناياها أبعاداً فكريةً ونظريةً، وأحيانا مرجعياتها الأصلية وأصحابها الرواد أو الذين نبغوا فيها أكثر من سواهم . وكانت هذه العناصر مطعَّمة بمرجعيات أدبية أخرى على شكل أمثلةٍ  شعرية أو روائية ( شعراء وشواعر ، فلاسفة ، روايات مشهورة ، شخصيات روائية ومسرحية وقصصية وأسطورية وتاريخية ...) .
 فما قيمة التفلسف في الرواية ؟ وما هو البعد الجمالي والأدبي الذي أضافه كقيمة تؤثث فضاء هذه الرواية ؟ وما قيمة التساؤلات فيها ، وهل كانت هادفة ومجلية للشخصية الرئيسية باعتبارها سيروائية ، وللشخصيات الأخرى التي تتقاطع مع هذه الشخصية الأساس ؟
 " يتحدَّد فعل التفلسف كعملية عقلية نقدية وكتساؤل عن معنى وقيمة الحقائق ، بما فيها الحقائق المرتبطة بالوضع الإنساني . إنه ممارسة يقوم فيها العقل بالتخلّي عن كل أشكال الاعتقاد الدوغمائي ، عقلانية كانت أو غير عقلانية ، ومتابعة المساءلة باستمرار ، وذلك بنقد كل الأحكام المسبقة وكل حقيقة تدعي الإطلاقية . فمن خلال المساءلة يتَّضح بأن تجربة البحث عن الحقيقة هي تجربة الخطأ، أي حقيقة كون المعارف محدودة ونسبية وقابلة للتجاوز . هو أيضا ممارسة للمساءلة كحفر وكاقتلاع للجذور ، ممارسة لا تنتظر الجواب بقدر ما تنخرط في عملية التساؤل للتخلُّص من صنمية الحقائق المطلقة . وبالتالي فإن التفلسف يكمن في المسار الذي نقطعه من بادئ الرأي [ الدوكسا ] إلى المعرفة [ الإبستيمي ] ، أو لنقل من الأحكام المسبقة إلى المساءلة النقدية للحقائق ..." 1 .
 ولقد أكد الباحثون في الفلسفة أن المساءلة ضرورية في جميع الحالات ، لأنها مفتاح لمغاليق الكون ، وأنها ليست حكرا على فئة من الناس دون فئة أخرى . ومَن اعتبر ذلك فقد هضمها حقَّها . وهذا رأي من قال بمحدودية " علم الفلسفة " وبأن موضوعاتها جافة ، وباتت قاصرة على المفكرين لأنها تشحذ عقولهم ، بينما لا دور لها عند الباقي من الناس إلا أن تحلِّق بهم في عالم الخيال والأوهام ... ولعمري لقد استثمر القاسمي الاتجاهيْن معا ، وأنطقَ الشخصيات، خاصَّة شخصية سليم، على النطاقيْن معا : نطاق الفكر والتنظير ، ونطاق الخيال والخوارق والأسطورة والخرافة .  والسؤال ولوعته لم يفارقا سليم في الحاليْن معا ، فقد غلبا على أحاديثه وحواراته ، وهو أستاذ جامعي ، وقبل  ذلك وهو طالب يغترف من العلوم ومنها الفلسفة ، وغلبا عليه وهو مغلوب على أمره يعاني الغربة والقهر والضياع وسط زحام المشردين وفي باحات المطارات والمحطات . لم يجد أمامه بُدّاً من طرح الأسئلة الوجودية ، سائلا عن موقعه وسط شساعة هذا الكون ورحابته ، ومتسائلا عن ماهية هذا الكون نفسه ، وعناصره ، وعن علاقته - وهو الكائن الضعيف الفقير الضائع - بهذا الكون الجبار ، وعن مميِّزاته التي تميزه عن باقي الكائنات التي يزخر بها ، ومستويات الائتلاف والاختلاف ..." ... وإنما الفلسفة [ وكذا التفلسف ] هي سبيل كل إنسان أو كل كائن حيٍّ مفكِّرٍ ، نشأ وسط عالم غامض مبهم ، وترعرع خلال كتلة من الأسرار والمعميات . فمنذ أن انطلق الإنسان إلى هذا الكون الذي يكتنفه الغموض وتلتفُّ حوله الأسرار، وهو يسأل نفسه على الدوام : أين أنا من هذا الكون ؟ وما أصل هذا الكون وممَّ يتكوَّن ؟ وهل أنا مخلوق أم موجود بالصدفة ؟ وما علاقتي بسائر الكونيات ؟ وأسئلة كثيرة يضعها تفكير الإنسان ويتخبَّط في البحث عن إجابة صريحة يقنع بها عقله الحائر القلق ؟ ... وبمعنى آخر كان من حقِّ كلِّ إنسان أن يتفلسف أي يبحث عن الحقائق الكونية ليحدِّد موقفه من هذا الوجود، وليقيس مكانته بالنسبة لسائر الموجودات والكائنات الأخرى ... " 2
لقد سلك القاسمي في هذه " التقنية " ، تقنية السؤال، مسالك عديدة : أبسطها السؤال الاستفساري الذي ينتظر منه سليم جوابا ، أو أجوبةً شافيةً ، لأن الحال التي هو عليها تحتاج إلى مَن يريحه بها ، ويطمئن قلبه ووجدانه . وهذا تجلّى لنا في شريط الأسئلة التي كان يبعثها لأبناء بلدته من ديار الغربة وقد انقطعت أخبارهم وأخبار الأسرة عنه ، سائلا عن الوطن عامَّةً في أتون الانقلاب المدمِّر وسيطرة الطغمة العسكرية عليه ؛ وعن رفاق الدرب ( الخلايا الثورية والطبقة المثقَّفة ) ؛ وعن أماكن بعينها، لأنها كانت مراتع له ولهم ؛ وعن عينات من الألعاب والأنشطة والممارسات الجميلة التي بات يزاولها في ذاكرته وخياله . وتجلّى لنا كذلك في الأسئلة الاستفسارية القريبة في صيغتها من صيغة التحقيق، والمعتمدة على التدرُّج المرحلي لبرنامج يومي وأسبوعي وفصلي وسنوي للطفلة ( عيدة )، متسائلا عن مصيرها ، ومعاتبا - من خلال هذه التساؤلات - نفسه عن نزقه وطيشه وإنهاكه لها ....3
كما سلك مستويات أعمق في الطرح ، كالمستوى الميتافزيقي الذي عمَّ مختلف التأملات في الذات أو الكون ، وهي أسئلة تؤرقه عندما يخلو إلى نفسه في وحدته ويعانق ظلام الليل الدامس . ولا يجد مَن يقهر هذه التساؤلات إلا طيف سوزان الذي يقتحم عليه هذه الخلوة وهذه العتمة . ولكن ربما زاد هذا الاقتحام الذي يترجم إلى اهتمام بسليم أسئلة أخرى تقضُّ مضجعه بدل أن تسلّيه وتهون عليه، ولا يجد مخرجا آخر إلا اللجوء إلى دفتر المذكّرات يدوِّن فيه هواجسه واعترافاته . وحتّى في هذه المرحلة يظلُّ السؤال ملحّا وعويصا وملاذا: " هل يتمكَّن عقلي من توجيه قلبي إلى حيث يجب أن يتجه؟". وهي أسئلة تتناسل وتتشرنق ، وتبقى الحيرة هي هي ، ويزداد القلق فورانا . وفي هذه الوحدة الدائمة التي تزيدها الغربة همّاً وحزنا ، فتُضخِّم الحنين ، وتُبرعِم الشوق ، يعنُّ السؤال ويشرئب ، مستبطنا دواخل النفس ، قابلا الأسباب ، مغازلا المسببات ، راجيا الإمساك برأس الخيط الذي يجلي له سبب نكبته ، ويضع أصبعه على مكمن محنته ، وتيهه وضلاله وهو يبحث في الحلم عن مدينة فاضلة: " جدرانها من ذهب ، وشوارعها جداول رقراقة ، وسماؤها من زمرّد ، وهواؤها بلسمٌ لجرح الماضي ..." . هذه المدينة الغاوية المغرية مرتع للحسان اللائي لم يخلقن بعد ، مواصفاتهن كذا وكذا ...
 ويتمنّى لو كان عالما للغيب حتّى يتخلَّص من حرقة الأسئلة ، فصراع المجهول والغيب ، والرحلة فيه أهون عليه من سياط الأسئلة . ولكن أنّى له ذلك ، أنّى له أن يعرف ، وهذه المعرفة تحتاج إلى فهم ، والفهم ينبثق من الوضوح ، ولكن الوضوح لم ينجلِ بعد لسليم ، بل هو في دوّامةٍ من الغموض ، والالتباسات والأوهام والشكوك في كر وفر: " آه لو كنت أعرف قراءة الأفكار والأسرار ، لأرحت نفسي من التساؤل والتعامل مع المجهول . ليتها أفضتْ إليَّ بمكنون فكرها . لا أعرف شيئا عن طبيعة علاقتنا ، لا أعرف شيئا عن موقعي في خريطة قلبها ، فالمعرفة تتأتى من الفهم ، والفهم يتأتى من الوضوح ، وليس هناك شيءٌ واضحٌ لي !" 4 .
 فالوثوقية، رغم إراحتها للنفس والخاطر، إلا أنَّها تقتل التساؤل ، وهو يلتذُّ به ، ويريد التهرُّب من إثارة الموضوع ( أي موضوع ، أو موضوع وفاء أثيرة لزوجها الفقيد على التحديد )، والإلحاف في السؤال لا جدوى منه إذا كان متعلِّقا أو موجَّها إلى العاطفة ، لأن الجواب عن السؤال هنا يبقى معلَّقا . وجدلية الشك والوثوقية المتولِّدة من السؤال، والمُذكية لناره، والمؤجِّلة للأجوبة أو الدافنة لها نهائيا ، أبرزَها الكاتب القاسمي عندما جعل الشخصيتيْن معا : سليم وأثيرة يهمسان - كلٌّ في سردابٍ مظلمٍ مؤسَّسٍ على الصمت القاتل كصمت البحر- من وراء حجاب الحوار الداخلي ( المونولوج) ــ كلٌّ منهما يريد بل يطمح إلى اختراق نفسية الآخر وذاته ليعلم دواخلها ، مُشرِّحا إياها بمبضع السؤال . والعبرة دائما بالسؤال لأنه هو الذي يبرِّر الإجابة . فإذا كان الجواب جيدا كان السؤال عنه جيدا ، والعكس بالعكس . في حوار سليم مع زكي عن الوسيلة المثلى لتحرير فلسطين ، ودور صلاح الدين الأيوبي في تحرير بيت المقدس ودحر الصليبيّين،  كان ردُّ سليم على زكي أن الجواب الجيد يبدأ بسؤال جيد ، مهما كان هذا السؤال محدَّدا ودقيقا، كما أجهد زكي نفسه في سبيل ذلك . وعدم تطابق السؤال مع الجواب جعل الحوار حوار أصمٍّ مع أبكمٍ ، لإغراقه في الميتافزيقا، وتنكبه طريق الإقناع، حتى صدق عليه قول فولتير المنكر للميتافزيقا ومضمونه " ... إذا رأيت اثنين يتناقشان في موضوع ، ولا يفهم أحدهما الآخر فاعلم أنهما يتناقشان في الميتافزيقا " 5
 وكثيرا ما يلجأ سليم إلى الهروب من التساؤلات ، ويجهد نفسه في سبيل ذلك ليرتاح من لظاها أو صقيع المفاجآت التي تحملها ، أو لتفادي الحرج أو الاندهاش أو الفضول ، كما حدث عندما استضافته سوزان في بيت أبويها وقد فاجأته طلعتهما في الدار ، وقد سبق أن التقاهما على متن الطائرة ، يقول الراوي " ... حرر نفسه بصعوبة من تيار التساؤلات المتدفِّق في نفسه " .
 ويكون السؤال مطيَّةً للتغلب على هاجسٍ أو فكِّ لغزِ " تجربةٍ " أو نشاطٍ أو مهنة . ففضول الكشف والاستفادة دفع سليم ليطرح سؤالاً تلو سؤالٍ عن ماهية الكتابة الفنية ، ومواصفاتها وهيأتها ، وطبيعتها .. وكانت إجابة المستجوبين مختلفة ، ولكن بعد أن تساءل مع نفسه - قبل مباشرتهم - عن سؤال الإبداع ، وكأن التساؤل المنبعث من النفس لا يلائم سؤال المستجوبين ، جاءت الإجابة السليمة التي اهتدى إليها سليم ، صادرة من النفس أيضا ، فعمق السؤال ( العمق القيمي أو المكاني ) هو المحك في الجواب . وكان الجواب هو أن تقدِّم البديل للمألوف لا رفضه ، أو التضحية به في سبيل التجديد ... فالسؤال الداخلي ( النفسي ) أفحم بحجاجه الأجوبة المنتظرة والظاهرة ( الخارجية ) .
 ويشمل قلق السؤال، إمكانية الخلاص من أعباء المعوِّقات والمعوِّصات، والذاكرة هي المعوِق الرئيس في الرواية، وهي الهم الأكبر فيها ، لأنها بأشرطتها الماضية تقلِّب المواجع وتحيي الآلام، والأسئلة المتعدِّدة تبدِّد خيوطها وحبائلها ، وتنفِّس عن سليم أحزانه ، وتدعوه إلى التفريغ أو التعويض .. " ليتني أتحرر من ذاكرتي التي تستحوذين عليها ... فأين أهرب ؟ كيف أتخلص من هذه الذاكرة التي لم تعُد ذاكرتي ؟ ...."6 وهي الأسئلة المحيرة نفسها التي طرحها لإثبات وجوده في هذا الكون عندما شعر بحصار الموت له من كلِّ جانبٍ، كما سنرى فيما بعد . وتقوى حدَّة التفلسف عندما تشتدُّ الاحتمالات والإمكانات أو الحلول المقترحة لقضيةٍ ما . وتحتدُّ أكثر عندما تكون هذه القضية التي  تعدَّدت الاحتمالات حولها هي القضية الوطنية ، فكيف انغرسَ حبُّ الوطن في كيان المواطن ؟ هل الوطن كأي كائن طبيعي / خارجي آخر ، يُحَبُّ بعد أن يُرى ويؤلَف ويُستأنَس به ، وتتبيّن فضائله المضافة على الأوطان الأخرى ؟ ويصل التفلسف ذروته عندما يتوقَّف عند المعرفة باعتبارها وسيلة لحلِّ اللغز ، فالمعرفة بالشيء هنا تخضع للمساءلة بدورها.
  ويتطور السؤال إلى طبيعة المنهج المعرفي ، هل هو الاستقرائي أو الاستبطاني؟ ، هل هو التجريبي أم الغريزي العفوي ( عفو الخاطر )؟ التذوقيُّ الذي يكاد يدخل في خانة المنهج /الحب الصوفي؟ ، وهل العقل واعٍ بالمسألة ( درجة الحب) ؟ أم أن القلب هو المحكُّ والمدماك ؟ عدّة أسئلة جعلت سليم يطرحها وهو يغبط سمير النقاش في حبه للوطن ، ويحاول أن يتخذه قدوةً ، فسليم يقتدي بسمير في هذا النمط من الحبِّ الوطنيِّ الذي لا يخضع للنفعية ولا المزايدة أو المصادرة ، ويغبطه في النهج الفدائيِّ الذي سلكه في حبِّه للوطن ، وهو منهج ضحّى في سبيله شعراء المهجر عامة وجبران خليل جبران على الخصوص ، يقول القاسمي في هذه المحاورة الفلسفية : " سمير ، كيف أحببنا هذا الوطن ؟ أترى أننا أحببناه لأننا عرفناه؟ خبرناه ؟ قارناه بغيره من الأوطان ؟ كيف نستطيع أن نحبَّ شيئا لا نعرفه حقّا ؟ وكيف نعرف  أننا نعرف حقّا ما نعرف ؟ هل أخضعنا محبتنا للوطن لقواعد البحث التجريبي في المختبر ؟ أو للاستدلال  العقلي كما يستخدمه المناطقة ؟ أم أن محبَّتنا له محبَّة قلبية ذوقية كالهوى الصوفيِّ لا يخضع للحسِّ ولا العقل ولا المنطق ؟ ما الذي أعطانا هذا الوطن لنحبه ؟ أعرف أنكَ ستقول لي  لا تفكِّر بما أعطانا الوطن، بل اسأل ما الذي أعطيناه نحن للوطن ؟ " 7 .
 ويكون التفلسف في هذا الصدد الوطني أحيانا دون طرح أسئلة ، بل يتحايل التفلسف على المتواليات الخطابية ( التعبيرية ) ، حتّى يُظهِر قيمة الوطن ونفاسته التي لا تقدَّر بمال. فالمال رغم ضرورته في الحياة إلا أنه لا يستطيع شراء وطن ، ولا توفير راحة ، ولا طمأنينة ولا عافية ... تفلسف حجاجي ، رياضي بفرضيات وبراهين واستنتاج . وهذه التقنية الحجاجية  وظَّفها القاسمي في أعماله القصصية أيضا بشكل جميل أضفى على أسلوبه مسحة جمالية ، إضافة إلى المنزع الفلسفي والمنطقي الرائع الذي يظهر قلق الشخصية ، ويختبر مدى حبِّه لوطنه ، ويعكس  تأجُّج الحسِّ الوطني لديه . يقول سليم - وهنا يغبط صديقه الشاعر عبد اللطيف كما غبط في السابق سمير النقاش :
في العالم الجديد يستطيع المرء أن يحصل على المال ، وبالمال يستطيع أن يشتري أراضي ولكنه لا يستطيع أن يشتري وطنا . بالمال يستطيع أن يشتري منزلا ولكنه لا يستطيع أن يشتري بيتا [ أي يكون بيتا سعيدا ] ، بالمال يستطيع أن يشتري سريرا ، ولكنه لا يستطيع شراء النوم لعينيْه ، بالمال يستطيع أن يزور الطبيب ، ولكنه لا يستطيع الحصول على الصحَّة. إذن ما قيمة المال الذي يحصل عليه ؟ بربِّكَ قل لي، يا عبد اللطيف " 8 .
 وكما أشرت سابقا ، كان للمونولوج دور فعال في إخضاع الشخصيات إلى البوح بطريقة يطبعها التفلسف .  فسليم ، عندما استغرق في ذاته واستبطنها ، طرح عدَّة تساؤلاتٍ عن نفسه علّها تُسعِفه للوصول إلى مكنون إحساس أثيرة تجاهه، رغم الصمت الذي يلفُّها ، وهو هاجس ساعد على طرح فرضيات حول وفائها لزوجها السابق ، ومحاولة تخلُّصها من ذلك الهاجس / القيمة ، بعد أن اطمأن إلى فترة المتعة التي قضاها ( ليلة واحدة ) . وكان في السابق قد طرح الفرضيات نفسها في أول خروج معها إلى شاطئ البحر ، والصمت يرين عليهما معا .. أسئلة عديدة في المرحلتيْن معا يطبعها التفلسف ويذكيها الحوار الداخلي . وكذلك كانت أثيرة تستبطن ذاتها لتسائلها عن جريرة هذا الرجل الذي يرافقها ، ما ذنبه ؟ لماذا يتحتَّم إشراكه  في الهمِّ والحزن ؟ أسئلة عديدة يلفها الغموض ، وتحتاج إلى وضوح لأنه مفتاح الفهم ، والفهم - تبعا لذلك - يؤسِّس المعرفة . ولكن يبقى الجواب عالقا ما دامت لم تفصح الآن ، ولن تفصح إلا بعد مدّة، فهي رهينة بالزمن والعادة والألفة ..
 تفلسفٌ انتهى إلى تعطل العقل عن بلوغ المعرفة والظفر بالحل ، ومنازعة العاطفة إياه هذا التحدي ، وانتهى إلى أن الحجاج وقف عاجزا أيضا ، وأعلن سليم راية الاستسلام مرات عديدة:  " ولكن عقلي عاجزٌ عن إدراك أي شيء * و " ... أمّا هذه الليلة ، فقد ظهرت سوزان الأنثى التي حجبتِ العقل ، وعطَّلتِ الحجاج المنطقي " 9 . فكما عطَّلت أثيرة منطق الحجاج عند سليم كذلك استطاعت سوزان أن تفعل ذلك. وهكذا ، صرَّح مستسلما وهو الذي لا يملك إلا العاطفة: " ولكن العقل شيء والعاطفة شيء آخر* " . فهل ظلَّ سليم ذلك الأعمى الذي أنهك نفسه في البحث عن قطته السوداء داخل غرفته المظلمة على حد تعبير معارضي الميتافزيقا ، ووصفها بالمحدودية والقصور ؟ أم أن سليم - ومن خلاله علي القاسمي - استطاع أن يتفلسف ويلحَّ في التساؤل ليكشف حقيقته وحقيقة الكون من حوله ، واستطاع أن يبدِّد الحيرة وعتمة القلق الجواني القابع في أعماق الذات ؟ .
إنَّ الغرفة السوداء عند مخالفي الميتافزيقيّين هي لا وعي الكاتب ، وهو وإن كان مسكونا بالعتمة والظلمة ، لا بدَّ أن يطفو إلى السطح ، ويغادر اللاشعور إلى ( الأنا ) ، كلّما رجَّته التساؤلات وخلخلته الافتراضات وهزَّته الحجاجات . وسليم كما أبدعه الكاتب شخصية مهووس بالسؤال، مندهش على الدوام ، والدهشة - في رأي الفلاسفة - هي الدافع الأوَّل للتفلسف وإثارة الأسئلة عن هذا الكون المُبهِر بعظمته وعظمة صانعه جلَّ وعلا: " برز الإنسان إلى هذا الوجود فرأى نفسه في عالم مختلف في ظواهره ، وواجه الزمان بصروفه فراعه ذلك واستخرج منه العجب ، فبدأ يسأل لماذا ؟ ومن أين ؟ وإلى أين ؟ رأى هذا العالم أمامه لغزا فحاول حلَّه ، وتلك المحاولة هي الفلسفة " 10  .
وهكذا فعل سليم، تأمّل العالم الخارجي ( خارج ذاته) وانبهر به ، ودفعه فضول الكشف وسحر الدهشة إلى محاولة اكتشافه وسبر غوره، والتيقُّن من هُويَّته وكنهه، واكتشاف الوشائج التي تنظمه، بهدف وغاية أقوى من ذلك الاكتشاف الأوَّل، وهي محاولة اكتشاف الذات وإدراكها ، ومحلّها في هذا المطلق، ولتجاوز مرحلة الدهشة والانبهار، فخلق الأسئلة المقلقة والمنقبة عن سر هذا الوجود وعن علاقته به . وطبيــعي ألا تقف التساؤلات عند غاية الميتــافزيقين، بل يجب أن تتعداها إلى الآخر، ( والآخر هنا في الرواية عنصر إبداعي : شخصية مشاركة ، أو شخصيات مشاركة ، أو حيز محدد هو الوطن قبل الرحلة وبلاد أمريكا أو لبنان أو المغرب ..في الغربة ) ، وهذان العنصران الخاصان بالعالم الروائي والمبعدان عن تساؤلات الميتافزيقين ، جعلا أسئلته /أسئلة القاسمي محدودة بالزمان والمكان ، محصورة في المدينة المحتضنة ( وفق كل رحلة ) وفي الأشخاص وفق ذلك أيضا :
أتأمَّل العالم المنظور حولي، أحدق في الأشياء، أحاول أن أكتشفها وألتقط صورها، كي أدرك كنهها وأفهم العلاقات المتشابكة بينها ، كي أكتشف نفسي ، وأدرك ذاتي ، وأحدَّد موضعي ووضعي بينها وأنا أنظر إليها ،فأنا جزء من هذا العالم . أتلفتُ مذعورا ، من أين تهبُّ الريح ؟ومن أي الجهات سيغتالني موتي ؟ وكيف ولماذا أنا هنا؟ ولكن حتى لو عرفتُ سرَّ وجودي ، هل أستطيع أن أصحح مسار الأشياء أو أوجهها غير وجهتها المقدَّرة لها ؟ لماذا لا أستطيع البقاء في هذه المدينة المترفة ؟ ..."11 .
 وطبقاً لقانون الإبداع، يُسمَح باختراق قدسية المصطلح أو المفهوم ، فيُعدَّل أو يُكيَّف وفق الطاقة الإبداعية للكاتب ، ووفق مواصفات واستعدادات الشخصية ، ووفق البُعد الفكري أو الموضوعتي للَّقطة أو المشهد الروائي . فالقاسمي - على لسان سليم - يضفي على الشخصية الثانية في الرواية أبعاد التعريف المصطلح عليه من الفلاسفة والوجوديين ، ويضيف عليه مفاهيم شعورية خاصَّة بشخصية سليم إزاءها ، فلا يصبح مصدر الذوات والأشياء ( الذوات والموضوعات ) محدَّدا في أربعة أنحاء متفق عليها وهي العقل والنفس ( الواقع والحس ) وفي اللغة المنطوقة والمكتوبة ، ولم  يعد إدراك هذا كله وقفا على وسائل الإدراك والحواس .. بل فوق هذا وبعده فأثيرة ( الموضوع ) في نظر سليم ( الذات) موجودة  في كلِّ الأنحاء والأماكن والاتجاهات ، تُرى بالعين الباصرة وبالبصيرة وتسبح في الخيال أيضا ، وتقتحم عالم الصوت ، فيُعلَن اسمها فيه ، وتنطبع صورتها في صفحات الكتاب الذي يقرأه للهروب من الطيف فلا تنفكُّ تسكنها قهرا وقسرا .. فلا مفر له من ملاحقتها له في هذه المدارك والأماكن والأصوات ..12
 ويجهد الكاتب نفسه لتغليب كفَّة الذاتية على الموضوعية في تقييم الجمال ( جمال الكون) ، ليبرز للقارئ مدى سوداوية سليم وحكمه على العالم الخارجي من إحساسه الداخلي ، لأن الغربة سلبت منه الإحساس والتذوق واستهجنت كلَّ جميل في نظره ، حتى تساءل عن كنه الجمال أيوجد في العالم الخارجي أم في الذات ؟ وهل هذا الحكم يظلُّ قاراً إذا صدر من الإنسان أم أنه قد يتغيَّر بتغيُّر الظروف والزمان والمكان ؟ فما الذي جعل ( سليم) يغيِّر حكمه على الطبيعة وعلى المدينة التي جاءها أوَّل مرَّة ، واكتشف في البدء روعتها وجمالها وهو متأبِّط غربته جاهل ثقافة أهلها. هذه المدينة التي كانت السناجب تتقافز على أشجارها ، وكانت وجوه أهاليها تطفح بِشرا وحبورا ونشاطا ؟ هل هذه المكونات الجذلى في العالم الخارجي هي التي جعلته يحبُّ هذه المدينة ؟ والآن لماذا بدا يمجُّها ويكره مزايا هذه المكونات العمرانية والبشرية والحيوانية والطبيعية عامة ؟ أسئلةٌ عديدةٌ تتناسل ، لكنُّها - في إطار التفلسف - تدخل في شرنقة السؤال الميتافزيقي والوجودي الكبير : " ...هل الجمال موضوعي يكمن في خصائص الشيء الذي نراه ، أم أنه ذاتي يعتمد على ذات الشخص الذي ينظر إلى ذلك الشيء ؟ وهل يتغيَّر حكم الفرد على الموضوع نفسه بتغير الظروف والمكان والزمان ؟..."13 .
 ونظراً إلى أن القاسمي - كبقية الكتّاب المبدعين الكبار - يجدون في الكتابة تصالحا بين الذات والعالم الخارجي ، فقد رأينا أن هذا التصالح تمَّ على أصعدة شتى ، وعلى مستويات مختلفة  أيضا، فقد تمَّ على صعيد تخفيف الضغط الاغترابي عنه وهو خارج بلده ، وساعده على تخيُّل أسرته، وعلى محاورة أصدقائه وأحبابه عبر الأثير ، وساعده على الاختفاء من قهر بعض هؤلاء الأحبَّة، الذين كانوا يلجّون في الهجر ، أو الذين يختبئون وراء حجاب الوهم ، والصمت ..( أثيرة - سوزان ...) وعلى مستويات مختلفة أيضا : القراءة أو الكتابة ، أو التراسل . والكتابة على الخصوص عملت على تجديد علاقته ( كذات) بالأشياء ( الموضوع) ، وبددت وجوم الوجود وكآبته ، وبدّلت نظرته التي رأينا قبل قليل للعالم الخارجي وللمدينة التي يغيِّر الحزن ملامحها بسرعة فائقة ما دام تعاقب الحزن والفرح على سليم في حركية ودينامية مستمرّتيْن: " حين أكتب تتجدد العلاقة بيني وبين الأشياء حولي ولا يظل الوجود واجما موحشا كئيبا يخلو من رعشة العشق وسحر المغامرة. أنفعل بالكتابة ، وبالكتابة ينفعل الوجود ، ولولاها لما بقي لوجودي معنى ...."14.
فالكتابة هي سرُّ وجود الإنسان ( الكاتب على الخصوص ) بها يحارب الحزن والغربة ، ومن خلالها يتحصَّن منهما في القادم من عمره ، ويشكِّل عالما قويا ، عالما فوق - أرضي ( لا علاقة له بالواقع ) . الكتابة هي الملاذ والمحرِّك نحو الآفاق والفضاء الرحب والخيال المجنَّح . الكتابة عند سليم إحساسٌ بالوجود، لأنَّ الحروف والكلمات تُلبِس الأشياء ( العالم الخارجي ) بُعداً إضافيا ، كما تضفي على الكيان ( الذات ) إحساسا خاصّا تتمتع فيه كلُّ الأعضاء والحواس بوظائفَ لا تتعطل ، وظائف ثاقبة مطواعة تخلق ولا تتلقّى فقط . وفي الكتابة يستعبد سليم حرّيته ، ويمارس إنسانيته ، فحبُّه للكتابة وعشقه للكتاب - كما كان صديقه سمير النقاش وزكي وعبد اللطيف - ينعش الكيان ويرسِّخ حبَّ المطالعة والقراءة والإبداع والاكتشاف في أعماق النفس. فالمعرفة لديه بحرٌ لا ساحل له ، وهو الهاوي العاشق للسباحة في لججها . هذه السباحة التي تملك إحساسه وتتحكَّم في حواسه .. يبدأ القراءة فينتشي ، فيسكر إذ يكتب ويبدع ، ويقرأ فينتشي ثانية فيفعل الخُمار بلبه فعله . ولكن كلّما زاد المعاقرة ازداد صحوا ووعيا بوجوده . وهذا ما جعله كما رأينا يسائل الكتّاب عن طريقة كتابتهم . وكان يسخر من الذين يلجأون للخمرة قبل الكتابة . ولكن الوضع اختلف فالمساءلة كانت في بلاده عندما كان يكتب ليقرأ هناك ، ويكتب لينشر ما كتبه ، أمّا في الغربة فيكتب ليقاوم وضعا سيئا وظرفية مأساوية ، وكان يقرأ في أجواء الهدوء للحصول على درجة عالية من التأهيل الثقافي :
 " بدأت الدراسة في الجامعة ، فتدفّق سيل الدروس والمحاضرات والبحوث، وانغمر سليم في لجتها ، وتراءت له المعرفة بحرا لا ساحل له ، وانخرط في مباراة للسباحة الحرَّة . إنه هاوٍ لهذا النوع من الرياضة . هوايةٌ تأخذ عليه جميع حواسه ، وينغمس فيها بكلِّ جوانحه . أحبها منذ صغره ... غُرِس الحب في أعماق نفسه ، وامتدّت جذوره إلى كيانه كله مثل عروق الجسد ، أوردته وشرايينه . فحبُّه للكُتب مثل حب السكارى للخمر ، ولكنه كلَّما نهل منها زادته صحوا ووعيا  بوجوده وبالعالم من حوله ..."15.
 وفي معرض التساؤل الميتافزيقي الكبير الذي طُرِح من طرف الفلاسفة  القدامى والمحدثين ، والمتمحور حول التمييز بين المعرفة واليقين ، عنت لنا حيرة سليم الذي لم يستطِع القطع في ذلك الفرق ، لأن الشك في معرفة  مدى استيعابه المعرفة الحقّة مازال ينتابه . وحتى لو سلَّم يقينا بمعرفته وعلمه لها ، فالدرب مازال أمامه يطبعه الغموض وتسوده الوحشة الوجودية المقلقة - لأن الغموض في كل شيء ، وهو في حاجة إلى وسائل تبديد هذا الغموض وعلى رأسها الوضوح - كما  أشرنا - فهو مفتاح الفهم الذي تُبنى عليه المعرفة.... وهو جهد ووقت طويل ولا أثر لعلامة مطمئنة في الأفق. وسواء كان هذا التساؤل ميتافزيقيا لا يطمع فيه سليم بجواب ، لأنه مجرد سؤال يريد من خلاله التعرف على وضعه في هذا العالم الواسع ، الغامض ، المحير ، أو جاء التساؤل بهدف ( والقاسمي سلك مختلف المدارس الوجودية في تلقيحه لشخصية سليم بمصل " الأنطلوجيا " الوجودية ) معرفة مدى حبِّ أثيرة له ، وبهدف الاستقرار على تصرُّفٍ جلي وسلوكٍ واضح  لا مراء فيه ولا خداع . وإذا كان في الحال الأولى ( الحال العامة الميتافزيقية ) طرح السؤال وازورَّ عنه وثنى كشحه عنه ، فإنَّه في هذه القضية " النفعية " كان يتوسَّل بالآمال وبالغيب  ليعلم ، لأن الوضع يختلف ، فلم يعُد يهمه وضعه وموضعه في هذا العالم ، بقدر ما يهمه اكتناه حقيقة حبِّ أثيرة وسبر غور قلبها :
حيّرني تقلب عواطفها اتجاهي ، يومٌ أحسُّ بها وهي مقبلة نحوي بكلٍّ مخزون عاطفتها ، وفي يوم آخر ألفيها منكمشة على نفسها لا حركة فيها . خطوةٌ إلى الأمام خطوتان إلى الوراء على طريق الحبِّ . آه لو أعرف قراءة الأفكار والأسرار، لأرحتُ نفسي من التساؤل والتعامل مع المجهول.  ليتها أفضتْ إليَّ بمكنون فكرها . لا أعرف شيئا عن طبيعة علاقتنا ، لا أعرف شيئا عن موقعي في خريطة قلبها ، فالمعرفة تتأتى من الفهم ، والفهم يتأتى من الوضوح ، وليس هناك شيء واضح لي." 16 .
 وهذا تعريف للمعرفة وتقنين لها قريب من تقنين الصوفية الذي يقترب من الكشف والتجلّي .
 ولقد طالما اعتبر سليم غموض العلاقة نابعة أو مرسومة على محيّا أثيرة بطلاء الحزن . واعتبر إشكالية وجوده في التغلُّب على هذا الحزن ، ونجاحه في شفائها منه ، فالتأرجح بين العزم على الإشفاء والإشفاء ذاته هو جوهر الإشكال الوجودي عند سليم، تماما كما يعتقده ويحسُّه الطبيب الذي يجتهد في محاولته إشفاء المريض ، وقد يفشل في ذلك . هذا من صميم الإشكال الوجودي عندهما ..
 ولكن يبقى القُرب من المحبوب المريض ، أو المحبوب العائد للمريض هو الوجود الحقيقي ، وبُعد المريض أو الذي جاء يعوده هو الوجود المجازي . مفهـــومان نابعان من الإشكالية السابقة ( العجز عن تحقيق المطلوب والمتسنّى للآخر ) :
عندما كنتِ تغربين عن أفق انتظاري ليومٍ أو يومين، تتسرَّب برودةٌ جليدية إلى أعماق روحي ، وينساب صلُّ القلق إلى تخوم قلبي ، فتنتفض حروفي مثل عصافير مذعورة في جميع الاتجاهات لتسال عنك . وها أنا ذا طريح الفراش  منذ أمدٍ طويل ، ولم تجد النخوة طريقها لحرفٍ من حروفك . بقربك أحسُّ بوجودي حقيقة ، وببعدك يُمسي وجودي مجازا " 17 .
هذا القرب يشعر بالاستئناس ، ويفتح الأذرع للألفة ، والخروج من الوحشة ، ويُدفّئ الأعطاف، ويُخرِج الإنسان من الوحدة القاتلة التي هي مصدر الأسئلة المقلقة . وكان سليم يبحث في الوجوه عما يُشعِر بهذه الألفة وينتزعه من الاغتراب انتزاعا ، ويدمجه في زمرة الخيِّرين . وعلى العكس، يُشعِرك البُعد ( المكاني أو النفسي ) بالشرِّ والتشاؤم والاغتراب والانفصام عن هذا الكون الذي كنت في جميع الأوقات تحسُّ بأنك جزءٌ منه ... هكذا كان سليم يشعر عندما يألف وجها  من الوجوه التي تطفح ملامحه بالطيبة والبِشر وحبِّ الآخر ، وحبِّ جميع الموجودات التي خلقها الله تعالى في هذا الكون  " فتشعر بأن الخير مازال موجودا يمشي على رجلين بين الناس " ، وكأن استمرار الوجود منوطا عند الشخصيات بالاستمرارية والتواصل . وقد بلور القاسمي النزعة ( البرجسونية ) في روايته في عدّة مواقف . فالحياة نهرٌ لا يمكن الاغتسال منه مرتيْن لأنه دائم الجريان والانسياب . وجاء على لسان أثيرة أن الاستمرارية في الوجود والحياة مرتبط بالعطاء ، والأنثى لا تشعر بأنوثتها ( أي وجودها) إلا بالاستمرارية ، والاستمرارية تأتي من التوالد ، والأنثى ما خلقت إلا لتلد ليستمرَّ الوجود، فقد طُعنت في أنوثتها  عندما أخبرها زوجها الطبيب الراحل - وهما في عنفوان الشباب والحبِّ - باستحالة إنجابها ، وأشعرها بالعدم ، وقتل وجودها ، بعد أن أخفى عنها قتل وجوده لأنه هو الذي لا يستطيع الإنجاب . وبين الخبر الأول الصادم في حياة زوجها ، والخبر المعلَن بعد وفاته المبشِّر بإمكانية إنجابها، مرحلةٌ من البؤس والحزن والقلق وتناسل الأسئلة المحيرة القاتلة ، تحولت بعد سماع النبإ إلى رعشةِ حياةٍ جديدةٍ كأنّها ولدت من جديد ، وكأن الوجود اتّسع وأعلن ترحيبه بها بعد طردٍ ضمني لها من رحابه: " شعرتُ بطعنةٍ تصيب أنوثتي في الصميم ، أحسستُ بأنني امرأةٌ ناقصة ، امرأةٌ بلا أمومة. ألم تُخلَق المرأة لتلد ، ليستمر الوجود ؟ " 18 .
والاستمرارية والبقاء منوط بالحبِّ ، فالحبُّ سرُّ الوجود ، وقد ورد هذا في أشعار الشابي، وأشعار ونثر جبران والمنفلوطي . وقد صرَّح سليم بهذه النظرية ( الحبُّ سرُّ الوجود ) صارخا مستبطنا ذاته مقلبا إياها ظهرا لوجه عله يهتدي إلى كنه الحب ، ( والمعرفة كما رأينا لا تسعفه ما دام الوضوح متفلتا منه) :
آه لو أني أعرف سرَّ الحب ، لأدركت سرَّ وجودي ، وسرَّ رحيلي ، وأسرارَ العيون التي تحيِّرني ألغازها، ولكنَّ عقلي عاجزٌ عن إدراك أي  شيء "
وعجزُ عقله ألقاه في متاهة العبثية ( عبثية الحياة والوجود) ، فلم يستطِع أن يفكَّ لغز الحياة وغموضها وعبثها بالإنسان، وظل السؤال القلق حاضرا ، وهو السؤال / الافتراض الذي طرحه الشاعر الجاهلي الأعشى الذي لاحــظ من خــلال تجربته في الحياة سلسلة الحبِّ المتشابكة والمعقَّدة ( أ) يحب (ب) و(ب) (تحب)  (ج) و(ج) يحب (د) في بيته المشهور :
 عُلِّقتها عرضاً، وعُلِّقتْ رجلاً                   غيري، وعُلِّق أخرى غيرها الرجلُ
سرُّ الحبِّ ظلَّ غامضا لم يهدِ سليم إلى اليقين ، فسلَّم أمره إلى هذا الوجود الجاثم على قلبه وعلى مطامحه وحبه وقال :
ستمضي حياتي موشومة بثلاث نسوة : امرأة أرادتني وأردتها ، ولكنَّ القدر لم يردنا معا ؛ وامرأة أرادتني ولم أُرِدها فكسرتُ قلبها ، وظل ضميري مصلوبا على خيبة أملها؛ وامرأةٌ أردتُها ، ولكنَّها لفظتني ولم أستطِع نسيانها ، وأنتِ المرأة  الأخيرة ، يا أثيرة " 19 .
 وتزداد عبثية الحياة حدَّةً في ذهن سليم وقلبه وخياله أيضا، عندما يستحضر كوكبة الأحباء الذي غيَّبهم الموت وعلى رأسهم الأمُّ التي كان فقدانها مظهرا من مظاهر عبث الوجود بالحياة . موت الأمِّ أشعره بهذه العبثية، وأحبط أعماله وأمات طموحاته ومنها طموحه - الذي كان في يوم ما يقينا- في العودة إلى الوطن. كانت كل الطقوس الكئيبة المحيطة بموت الأمِّ تساهم في بلورة هيكل العبث الضخم الجاثم على قلبه وكيانه ، ( النبأ الذي تلقاه عبثٌ ، والدمع الذي يذرفه عبثٌ آخر ) عبثٌ لن يقدر على إرجاع الأمِّ ولا طيفها ولا خيالها . وترسَّخ في ذهنه هذا العبث وهذا الوهم أيضا عندما شخص الموت في عين أثيرة وسلوكها وهي تتعلَّق وتتشبث بميتٍ لا حياة فيه ، لا نبض له ، لا حركة، ومع ذلك مازالت متعلِّقة به . فما معنى الموت وما معنى الحياة إذن ؟ ليستخلص في الأخير أنَّ الموت عدم لا يستطيع أن يقدم الوجود للشيء ولا يستطيع أن يوقف الموت عن عملية حصد الأرواح ، ولا  أن يزين له الفعل :
الموت هو العدم بعينه فكيف يمكن أن يهب الوجود لشيء ) 20
 والشعور بعبثيَّة الوجود تزداد بازدياد الحيرة والمعاناة ، وبتناسل الأسئلة ، خاصَّة عند اشتداد الغربة ، حيث تتنكَّر لسليم الوجوه ويتنكَّر لها ، ويكاد - من الهول والحزن - يتنكَّر لنفسه ، ويتنكَّر بصره لردائه ، وتحدث القطيعة بين الملفوظ والمسموع لديه ، بحيث لا يتجاوب سمعه مع لسانه ، ويشعر بالعبثية الدائمة وهو دائب المعاناة يحمل ثقله مثل ( سيزيف) يعلو به الجبل فيسقط ويعاود الكرة والمرة ، لأن قدره سطَّر هكذا ، ويعود فريسةً للأسئلة المُقلِقة الميتافزيقية . وفي هذه الغربة القاسية ، المتداخلة الثقافات والأعراف، يصبح لوجود سليم وجهان متسامتان كما للنهر وجهان ، ولقطعة النقد وجهان ، وتنضغط الذات ( الوجه الأول ) في الوطن ( الوجه الثاني ) .*  وهكذا لمسنا كيف جعل القاسمي شخصية سليم في بحثها عن الحقيقة من خلال تفلسفها وبناء أسئلتها المحيِّرة تتأرجح بين مفاهيمَ مختلفةٍ للحقيقة وفق اختلاف المذاهب الفلسفية ، أي أنه جعلها تتأرجح بين الاقتناع الدوغمائي الذي يغلب الشك في الوصول إلى الحقيقة بالعقل ، والاحتمالي الذي يقرُّ بجزء من التحقيق، والنسبي الذي يقرُّ بالحقيقة، لكن لا يصل إلى الحقيقة المطلقة ، والنفعي البراجماتي الذي يبحث عن الاستفادة ، والظاهرتي الذي يقرُّ بالحقيقة ولكن اعتماداً على التجربة العلمية . مستوياتٌ استمدها القاسمي من أساطين الوجوديين المحدثين ( سارتر وكانط وبرجسون  وباشلار ولاكان ودريدا ....) ومن خلال تخصُّصه الفلسفي خاصَّةً فلسفة اللغة التي تمتح من معين هذه المذاهب 21 .
 وهذا يجعلنا نتناول مشتقات هذه اللفظة ( الحقيقة ) وتفريعاتها ونتتبعها في الرواية على لسان سليم وبعض الشخصيات الأخرى ..
 تناول القاسمي الحقيقة في أبعادها الفلسفية والحكمية ، وعالجها نبراساً يهدي إلى الرشد في الدارين، ويصحِّح مسار المواطن إزاء وطنه خاصّة والعالم الكوني عامة ، كما رآها قيمة مثلى تنازع قيمة الصدق مثاليتها بل تنصهر في بوتقتها فتتشكل قيمة واحدة ... على انه استعملها فنّيا أكثر من استعمالات منظِّري الفلسفة المحدثين والقدامى أيضا . فهؤلاء جميعا يرون أن الحقيقة هو ما يثبت أمامك وتلحظه بالعين المجرِّدة أو تحدسه بالقلب ولكن على هدي البصر . ويرون أن العقل " عندما يحكم على حقيقة شيء ما ، فهو يقول إن هذا الشيء موجود حقيقة ، بمعنى أنه متحقِّق بالفعل من ناحية موضوعية ... ولا يمكن أن نقول بأن هناك حقائق للأشياء في عقولنا إلا إذا كان لهذه الأشياء تصوّرات خارجية أو إذا كانت لها مدلولات حسية تحقق موضوعيتها ..."22، لكن القاسمي رغم إيمانه بهذا الطرح وهو مسلمة لا خلاف فيها  يختلف معهم من الزاوية الفنية ( اللمسة الفنية في الرواية ) ، وفي نظره أن الحقيقة ليس ما يظهر للعين بل ما يشعر به . ففي اللحظة التي كان سليم يتابع نشرة الأخبار المصورة ، وكانت تمر أمام عينيْه بشريطها المسترسل والذي يتوقَّف لحظاتٍ أيضا ، وتتنوع فيه الأحداث والصور ، كان نظره إليها لا يعكس رؤيته لها ، فقد كان يسمع كلام المذيعة ولا يعيه تماما ، لأن هناك قوة دخيلة تستطيع حجب الصور/ الحقيقة العينية ، وتفرض الحقيقة القلبية .
والحقيقة الثابتة كذلك هي حقيقة الانتماء ، وهذا الانتماء لا يكون إلا بالقلب والجوارح ، ولا تستطيع أوراق التعريف والهُوية أن تمحوها من القلب والجوارح ، هي حقيقة شعورية ، لا ترى ولكن تحسُّ وتمارس في سرٍّ إذا وجدت أرضية خصبة في هذا القلب وهذه الجوارح ، وإذا وجدت استعدادات مكتسبة بالتربية الأُسرية والخلايا الوطنية الفدائية أو " حتى " الخلايا الأدبية ، من كتّابٍ وشعراء نذروا دمهم للقضية الوطنية . وسمير النقاش ( قدوة سليم ) مثال رائع لهذه الفئة : " إننا عراقيون رغم كل الظروف ورغم الزمن . وهناك ما هو أكثر أهمية من أوراق التعريف . إن عراقيتنا  مطبوعة في أجسامنا ، في جيناتنا ، والأوراق لا تغير الحقيقة ، والحقيقة لا يمكن أن تمحى " 23 .
وقد جهر القاسمي على لسان سليم الطفل وهو يتلقّى أول درس في المدرسة بالتعريف الأمثل للحقيقة إنها هي الحق، والحق هو الصدق، فالحقيقة هي الصدق، وما أفضلها من قيمة ! حافظَ عليها الطفل منذ علَّمها له أبوه، وها هو يخرجها بيضاء ناصعة يبهت بها ظلام الكذب ويبدده:  " ودوت كلمات والدي مرة أخرى : - الحق هو الحقيقة ، والحقيقة هي الصدق " هي تعاليم  لم يكتسبها الأب - بنفسه - من فراغ ، بل هي من تشريع سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم :" قل الحق ولو كان مرَّا "، فصرخ كلام الأب المستمَدُّ من هذا التشريع الحكيم على لسان سليم الطفل : " قل الحق ولو على نفسك " .
 وظلَّت الحقيقة محكّاً يوزَن به الكلام والعمل والإحسان في الرواية . فسليم الذي رأيناه يكتسب هذه القيمة والفضيلة من التربية بالقدوة ، لا يرى الأشياء والأحاسيس أيضا إلا من زاوية تجلّي الحقيقة، فهي الضوء الساطع الذي لا يماري ولا يعمي قيمة الشيء . ففي الحب مثلا كان يتوق إلى رؤيته وضّاءً وضّاحا كالشمس في كبد السماء ، لا تحجبه غيوم الإضلال والرياء والنفاق . وهو على خلاف أثيرة التي تلجأ إلى العتمة تحتمي بها ، حتى لا تبدي وجهها الحقيقي الذي كان مقسَّما إلى شقَّين ، شقٍّ مازال يحن إلى الزوج الأول الذي واراه التراب ، والثاني يحاول أن يتكــيف مع حب ( الزوج الثاني ) . لهذا كانت تلجأ إلى الظلام تستغيث به من الخوف ..." لماذا أطفأتِ المصباح في تلك اللحظة يا سيدتي ؟ .... أما أنا فأحب أن أرى وجه الحنان عارياً واضحاً لأعرف موطئ روحي . أما أنا فأفضل أن أرى الحب متجرِّدا من كل لبس ، يغمره ضوء الحقيقة ساطعا ... أحقا كنتِ تفضلين الظلمة حياء أم كنت تستعينين بها على إخفاء مشاعرك الحقيقية ؟ "24 .
 وهذا الشعور استمده الكاتب في إطار تناص من القول المأثور " شعاع الشمس لا يُخفى ونور الحق لا يُطفى " ، ومن أقوال الصوفية " نور الحقيقة أحسن من نور الحديقة " .  والحقيقة سلوكٌ مثالي يجب أن يرسخ في كل فرد في القول والعمل ، والسلوك . ففي الحوار يجب أن يتحلّى المتحاور بالهدوء لأنه سبيل الاهتداء إلى الحقيقة والتفاهم والإفادة والاستفادة . أمّا الصوت العالي في المناقشة والحوار، فهو إضلال وتغليط ، ولا يؤدّي إلى تجلية الحقيقة . ففي الحوار الذي دار بين سليم وزكي كادت الحقيقة تضيع ، وهذا ما دفعنا في السابق إلى وصفها بحوار الميتافيزيقيَّين اللذين يتجادلان من أجل الجدال فقط ، ولأن سليم كان متفهما لطرائق الحوار المثمر الفعال ، فقد وجّه زكي إلى الالتزام بقواعده وهي عدم رفع الصوت ، ( لأن الصوت العالي لا يجعل من القول حقيقة ) ، مع أن اندفاع زكي له مبرِّراته أيضا فقد كان مثل جميع العرب مستعدا للتضحية بجميع حقوقه من أجل فلسطين ، ورفع شعار النضال ( لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ) . وكلُّ واحد من الطرفين رفع شعارا مخالفا للهدف الواحد وهو تحرير فلسطين : زكي يراه بالقوة والمعركة ، ويراه سليم بالتنمية العلمية والتقنية والاقتصادية والاجتماعية ، ومنها التمتُّع بالحقوق كاملة ، وعلى رأسها التمتُّع بحق التعبير ، وهذا يحتاج من المتحاورين أن يهدأوا وينصت الواحد للآخر لتتجلّى الحقيقة ، أمّا الغضب فهو قاتل لها .
 وهذا ينسحب على كل المناطق المستعمَرة في إفريقيا وأمريكا ، وعلى كل الأجناس المهمشة من زنوج وهنود حمر ، إضافة إلى الشعب الفلسطيني المسلوب الحقوق . وقد جرد لنا الكاتب هذه الإشكالية  التي تعالج بشكلٍ متناقض وبعنصرية وبراجماتية . فالشعب الأمريكي يدعو - كإسرائيل - إلى الديموقراطية على جميع الأصعدة ، فيوفِّر المرافق الضرورية بدعوى الحضارة - في كل المطارات والشوارع والمراكز الثقافية والفنية ، ولكنه يسلب الهنود والزنوج حقوقهم ، ويميزهم عن الجنس الأبيض الأوربي الذي  واستوطن أرض الهنود الحمر وجلب الزنوج إليها ...
 وهذا ما جعل سليم يتشبث بقول الحقيقة ويجادل أيَّ شخص في هذه النقطة ( حقوق الإنسان ) فيناقش زميله الزنجي الذي يعمل بالمشتل وابنه الطالب بكلِّية مهمَّشةٍ ، محاصرةٍ بالعنصرية ... وهذا ما جعل أب سليم يحكي لمعلِّم ابنه - بعد سنوات طويلة - عن فعل الاكتساب والتعليم الذي جعل من سليم مدافعا على حقوق الإنسان في كل مكان - "انظر ماذا فعلت بولدي ، شجَّعته على قول الحقِّ في بلد لا مكانَ فيه لقولة حقٍّ ولا فسحةَ لحقوق الإنسان " 25
 وسيظلُّ هذا المطلب ( حبُّ الحقيقة والجهر بها ) ملحّا إلى آخر رمق في حياة الإنسان . والرجل الصادق ، والمواطن الغيور سيظل مردِّدا للحقيقة ، وباحثا عنها ولو كانت إحدى رجليْه في عالم الغيب ، بل ولو هو في عالم البرزخ أيضا . فحقيقة الوطنية التي يتقلّدها العراق ، هي كتعويذة السحر التي يطوِّق بها هذا البلد كل المواطنين المحبين له والتواقين لرؤيته في دهاليز الغربة وأقبيتها، وسليم وسمير النقاش من هؤلاء . وفي إطار انصهارٍ وتوحُّد بينهما ، يخاطبه سليم ليستفيد من معاناته وقبسه نور الحقيقة في حالتيه : الاحتضار والفناء والبرزخية : " ألم تتكشف لك الحقيقة يا سمير، وأنت تلفظ أنفاسك الأخيرة  بعيدا عن بغداد ووادي بغداد وأهل بغداد ؟ في تلك اللحظة التي فارقتْ فيها روحُك جسدك ، هل تكشَّفت لك الحقيقة ؟ في تلك اللحظة البرزخية وأنت بين عالم الفناء وعالم البقاء ؟ "26 ، وهذا استمداد من صوفية ابن عربي في البرزخية ، لأنَّ البرزخ هو المحطة ما قبل الأخيرة التي يستوطنها الإنسان، بعد مرحلة (وطن القبضة عند الإشهاد بالــربونية ) و(وطن بطن الأم ) وهو وطن الدنيا الذي اغترب فيه الإنسان، ثم ( وطن البرزخ) ، ثم يعود الإنسان إلى ( الوطن الأصلي الأزلي ) فلا يخرج منه أبدا ولا يغترب عنه أيضا 27 .
 ومن القيم المتولدة عن الحقيقة ، الصدق ، وهو عند الفلاسفة خاصة فلاسفة الإسلام يسمى الإخلاص، وقد أثير في الرواية فلسفة وقيمة دينية وأخلاقية ، وسلوكا للإنسان السوي الناجح المحب والمحبوب . والإخلاص سرُّ النجاح والظفر في الحياة السلمية والحربية أيضا . وقد طاف بنا الكاتب على هذه الأنماط وعلى أنماط أخرى عمّت الحيوان أيضا، كما عمت الأعمال الدنيوية والأخروية . وهذه القيمة قبل أن تتبلور في فلسفة الأخلاق عند الفلاسفة المسلمين، كانت سمة خلقية في الشريعة الإسلامية وردت في القرآن في مواضع عديدة صفة للرسل والأنبياء المخلصين، وللمؤمنين الذي أخلصوا دينهم لله تعالى دون سواه . فهو إذعان للواحد الأحد ، حتى سميت سورة من كلام الله تعالى بسورة الإخلاص، لأنها تتحدث عن التوحيد الخالص لله رب العباد . ووردت في وصايا الله الملك الحق لنبيه الكريم التي جمعها عليه الصلاة والسلام في سبع على رأسها الإخلاص ، يقول عليه السلام : " أوصاني ربي بسبع : الإخلاص في السر والعلانية ، وأن أعفو عمن ظلمني ... " الحديث . وقد درج القاسمي على ربط هذه القيمة في كثير من كتبــه ومجموعاته القصصية ومنها كتابه الموسوعي ( مفاهيم العقل العربي ) بالصداقة . وهذه القيمة من أروع الخصال التي بحث فيها ويبحث فيها كتابة وسلوكا . وفي الرواية سردُ أمثلةٍ لهذا الترابط الوثيق بين السمتيْن الأخلاقيتيْن . وخير مثالٍ برزت فيه السمتان معا هو ( كاكا يارة ) صديق أبيه الصدوق الذي حافظ على الإخلاص والصداقة والوفاء في عصر خلا من هذه المظاهر الشريفة . كان كاكا يارة - في نظر سليم - الاستثناء الذي يؤكِّد القاعدة  "فهو الصديق والخل المحب الذي توافرت فيه صفات الإخلاص وتجمعت له خصال الوفاء " 28 وهو رجل فهم الدين فهما عمليا لا يقف عند المظاهر التي تتكرّر كالصلاة والصوم ، بل هو - إضافةً إلى ذلك - حسن الأخلاق والمعاملة الحسنة مع الآخرين، والإخلاص في العمل، وكان يقوم بهذا سلوكا ويحثُّ عليه.
 ودافع القاسمي على هذه المزية في المعاملة مع الزبناء في إطار البيع والشراء ، لأنها سبب مباشر في التفوق والنجاح . والابتكار في الفكر التجاري سبب كذلك في النجاح إذا أسند بالجد والإخلاص في العمل . وهذه قناعة وردت على لسان صاحب المشتل ، المستر بنجامين هاورد وهو يشرح لسليم كيفية التعامل مع الزبناء .
 وجاء الإخلاص مقرونا بالفوز والانتصارات الباهرة على لسان زكي وهو يناقش بحدة وحماس سليم حول سُبل تحرير فلسطين، رادا سبب النكسة إلى عدم الإخلاص . وكلُّ فوزٍ وانتصارٍ مردُّه - في نظر زكي - إلى الإخلاص . وما نصر صلاح الدين إلا لتحليه به ، وعليه بنى زكي نظريته القوية في كسب الحروب . وحتى الوضع الذي هم عليه الآن من انقلابات تلو الانقلابات ، لو أن هؤلاء الانقلابيين توافر في أحد القائمين به خلق الإخلاص، لما بقيت فلسطين بيد الصهاينة 29 .
كما أجرى هذه المزية على لسان أثيرة التي ظلَّت مخلصة لزوجها الفقيد وكانت تتحاشى أنواع الخيانة الثلاث : خيانة الفعل، وخيانة القول، وخيانة النظر؛ وتتمنطق بالوفاء والإخلاص متحدّية بعض النسوة اللائي لا يتصفن بهما، واللآئي يتحررن من قيود الذكرى التي نسجت حقلها بالوفاء والإخلاص. هذا الإخلاص جعلها تستعيد برنامجه اليومي في الدار كلَّ لحظة.
وكان سليم يقدِّر فيها هذا الإخلاص وإن كان في الواقع يعذِّبه، ويجعله في محكِّ التفاضل . ولم تكُن تخفي ذلك الوفاء وهي تتحدَّث لسليم أو ترافقه ، حتى أصبح هذا الجثمان يقضُّ مضجعه ويلهب غيرته . بل كان سليم مخلصا لصديقه ( زكي) ، فلم يكُن يفكر في خيانته حتى بعد وفاته ، لهذا فقد ألغى مجرَّد الاتصال بحميدة ، وهو يأتزر بأخلاق السومريِّين الأصلية . بل إن القاسمي قد بثَّ في  الرواية سلوكا أخلاقيا رفيعا يمتاز به الحيوان ، فالجواد العربي الأصيل يمتاز بذكائه وأخلاقه الحميدة وإخلاصه . ويرى - في إطار إطرائه - أنه قد استمد ذلك من أصل العرب ، فصفاتهم كذلك . ولما كان القاسمي / الرواي يكره الانقلابيِّين الذين كانوا سبب تدهور العراق ، وسبب غربته ومجموعة من المثقَّفين ، فقد وقف عند قلبهم للمفاهيم ، وتسمية الأشياء بغير مسمّياتها الحقيقية ، ومنها مفهوم الإخلاص . فشعارهم في توزيع المنح على الطلبة المهاجرين كان هو " الإخلاص قبل الكفاءة " ولكن لمن الإخلاص ؟ ليس - بالطبع - للوطن ، بل للطغمة الانقلابية والحكومة الغاشمة المنصَّبة . لهذا فقد سليم منحته لأنه ليس من هؤلاء ( المخلصين )، يقول : " وشعار تلك الحكومة هو " الإخلاص قبل الكفاءة " والمقصود بالإخلاص هنا ليس الإخلاص للوطن، وإنما لقائد الحزب أو بالأحرى للزعيم الأوحد المستبدّ . أما هو فلا يتوافر فيه هذا النوع من الإخلاص..."
 وبهذا تكون عنده الأخلاق، ومنها الإخلاص خاصَّة، هي كل ما هو عملي لا ما هو نظري ، على شاكلة ابن باجة الذي يفضِّل الأخلاق العملية القائمة على الأعمال الإنسانية المهذَّبة ، وعلى شاكلة ابن خلدون الذي يفضِّل بدوره البُعد العملي في الأخلاق والإخلاص ...
 ومن الأخلاق الفاضلة الحثُّ على الخير ، وهو غاية الدين ، كما هو غاية الفلسفة أيضا ، وفاعل الخير يسعى بفعله إلى تحقيق السعادة ، والالتذاذ بهذا الفعل ، وهدف الفلسفة والشريعة معا هو تحقيق أغراض عملية ، فالإخلاص - كما رأينا - لا قيمة له إذا لم يكُن عمليا وهاديا إلى العمل ، وهذا يحتاج إلى التدرُّج في تطبيق هذا السلوك ( الإخلاص ) من علمٍ حقٍّ ويدخل فيه التعلم والتعليم والاكتساب ، ثم العمل بهذا العِلم الحقِّ ، والأوَّل - حسب ما جاء عند ابن رشد  ـــ هو معرفة الله تعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه ، وبخاصة الشريفة منها ، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي . والمعرفة بهذه الأفعال هو الذي يسمى " العِلم العملي " 30 . وهذا يوضح تشابه غاية الدين وغاية الفلسفة ، إذ يرميان معا إلى تحقيق السعادة عن طريق الاعتقاد الحقّ وعمل الخير31 ، والسعادة - كالإخلاص- لا تُنال بسهولة، وهي كامنة في درجة تحقيق فعل الخير وإسعاد الآخر.  ولا نريد أن نسيجها بالتحديدات الفلسفية، وإن كان فلاسفة الإسلام يحصرون تحقيقها على الفلسفة، ويستصعبون تحقيقها إلا من فيلسوف طاهر النفس، أعمل عقله في التأمُّل ، وأفنى حياته في التعبُّد ، حتى وصل مرتبة الصوفية . لهذا سنلجأ إلى جرد مواقف سعت فيها الشخصيات إلى تحقيق السعادة لها وللآخرين . وقد بنى الكاتب علي القاسمي هذه المواقف في شكل تقاطعات بين الشخصيات فيما بينها وبين الشخصيات الإنسانية والحيوانية، وبين الذات والموضوع، والروح والجسد، وبين الغربة والوطن ،والتفاؤل والتشاؤم . وبهذا يكون قد سلك مذهب الفلاسفة الذين يميلون إلى مبدأ السعادة العامة، متزحزحا قليلا عن أصحاب مبدإ السعادة الخاصّة الذين يحصرون السعادة فيما يحقِّق اللذة الكبيرة ولا يقفون موقفا اعتداليا . ومن أشد اختلافه معهم اعتباره التضحية في سبيل الوطن أجمل لذة، وهم لا يعتبرونها تحقق لذة شخصية ، كيف وهو يعتبر (سليم) وجها من وجهي العملة الواحدة ، والوطن وجها ثانيا ، يتوحَّد فيه . وهو لا يعتبر- مثلهم - رجحان اللذائذ فقط هو الخير، ورجحان الآلام هو الــشر، لأن شخصــياته وخاصة ( سليم ) يكون مازوخيا على الدوام ، وتكون أثيرة وأحيانا سوزان - في نظره - ساديّتيْن . كما لم يكُن - من خلال هذه الشخصيات أيضا - يختار ما يصلح له إذا تساوت اللذائذ والآلام ، كما يفعل أصحاب هذا المذهب . لهذا كان تأثُّره بالمذهب الثاني الذي يوثِر السعادة العامة على الخاصة ، وما انسحب على هؤلاء الفلاسفة من انتقادات أيضا ، يمكن أن ينسحب كذلك على القاسمي ، من زاوية اعتباره - مثلهم - مذهب اللذة غاية نهائية للنشاط الإنساني كما سنر ى. ولا ينسحب عليه - على خلافهم - النقد الموجه إلى مفهوم السعادة ومستواها ومعيارها ، فالسعادة عند الغني تختلف عن سعادة الفقير ، ولما كان الفقير يجدها في أشياء مختلفة ليست ذات بال فلا تعتبر - في نظرهم - سعادة لأنّها تحقق اللذة . ونحن رأينا موقف سليم من سعادته ولو في الحُلم بالسيارة ، وهي وسيلة أو مطلب بسيط وعادي جدا عند الطلاب الأمريكيّين ، لا يحتاج إلى انفعال وانبهار وانتشاء، ولكننا رأيناه ينتشي بهذا المطلب . وسنرى مظاهر عديدة من اللذائذ يشعر بها سليم في الرواية ما يبرِّر مواكبة القاسمي هذا الفريق الثاني ويخالف الأول، ومنها لذة المطالعة والتأمل والشعور بالجمال والإبداع32. وإذا تصفَّحت الرواية، وجدت المواقف المعبَّر عنها بالسعادة، تمتح من ينابيع الفكر الإسلامي والتشريعي، ومن آراء العلماء والمفكرين قديما وحديثا. فحضور ابن طفيل والغزالي وعلي بن أبي طالب وجعفر الصادق وابن باجة ، كحضور المنفلوطي وجبران وقاسم أمين . وقد تأتّى له ذلك من خلال موسوعيته وانشغالاته بالاستشهادات ، وبلور ذلك في موسوعته الهامة "معجم الاستشهادات الموسَّع "، وفي موسوعته الثانية " مفاهيم العقل العربي "، وألبس شخصياته من هذا الفيض كساءً من الجمالي والروعة لا يبلى .
 وننطلق من نقطة الاختلاف مع الفئة الأولى من الفلاسفة ، التي تَميَّز القاسمي عنها ، وهي المتعلِّقة بدرجة التفاني في حبِّ الوطن والاستعداد أو عدم الاستعداد للتضحية في سبيله ، فقد اعتبر الكاتب على لسان سليم أنَّ السعادة ضاعت منه بمجرَّد ما تحرَّكت الحافلة تاركة حدود الوطن وراءها، وفتح المجال أمام الأسئلة المقلقة عن مصيره ، ومصير عودته ، وهل ستتمُّ في يومٍ ما أم لا ، وعن زمن هذه العودة إن تمّت، هل هي على النمط الذي ودَّع فيه هذا الوطن وهو الليل أم هو واضحة النهار؟: ..." وعندما غادرت الحافلة الحدود ، بدأ عصر نهاية الفرح ، وصار وطني مجرَّد حقيبة أحملها بيدي، ومحض ذكرياتٍ تختلج في وجداني ، وأملا يتوهج ويخبو أمام ناظري. وكنت أتساءل في نفسي وأنا أودع وطني في بهيم الليل إذا ما كنت سأعود إليه في وضح النهار . حينما عبرت الحدود ، سقط من يدي شيءٌ اسمه السعادة ، وضاع في رمال الطريق ....لو كان الأمر بيدي، ما هجرتك يا وطني أبدا. ليتني متُّ فيك ولم أغادرك ، فرفاتي في تربتك أسعد حالا من وجودي على قيد الحياة بعيدا عنك "33.
كانت السعادة عند سليم كالماء ، وفي الماء الحياة والموت ، والوجود والعدم ، وهو السعادة والشقاء . كانت فرحته وسعادته مجسَّدة في رؤيته الماء منسابا بهدوء أو هدّارا كسيل جارف أو شلال متهاو بقوة ، وإذا غاب عن ناظريه حزنَ كثيرا لذلك ، فلم يكُن في طفولته يهرب - شأن إخوته - من أمِّه إذا دعته إلى الاغتسال ، لأنه تربَّى على تعلم الطهارة كما علمه أبوه وحكى له عن الأسلاف المطهرين من عهد بابل . والماء الذي يعتبره الكيميائيون سائلا لا طعم له ولا رائحة ولا لون ، يعتبره سليم أفضل ملوِّنٍ لأحاسيسه ومتعه وسعادته ، وأفضل ما يُعطي لوجوده المذاقَ والطعم والمعنى: " ما رأيت الماء إلا أحسستُ بنوع من اللذَّة الخفية ، وما غاب عن ناظري بضعة أيام حتى شعرت بنوعٍ من التوتر النفسي ... كنت في طفولتي أعتقد أن اللذة والألم من مشتقات الماء ، أو أن الماء من مشتقاتهما.." 34
 ولعل رمزية الماء عند القاسمي التي لا تختلف عن رمزيته عند فرويد ، مستمدة منه بشكل غير مباشر أي عن طريق رمزيته عند جبران خليل جبران الذي نجد له تأثيرا واضحا في الروايات على شتى الأصعدة والتجارب. فالماء عندهم جميعا يرمز إلى الولادة والولادة مدعاة إلى السعادة ، وفي الرواية لقطة تدل على سعادة الشخصية ( سليم) بولادة ( مهرة ) جميلة ، وقد أسعد بذلك لحضوره مراسيمها ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
•·         إدريس الكريوي شاعر وناقد مغربي له دراسات عديدة منها كتابه:
ـ جماليات القصة القصيرة: دراسات في الإبداع القصصي لدى علي القاسمي ( الدار البيضاء : دار الثقافة، 2010
**علي القاسمي، مرافئ الحبِّ السبعة ( بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012)
1-عز الدين الخطابي ، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب ، حوار الفلسفة والبيداغوجيا ، منشورات عالم التربية - الطبعة الأولى 2002 ص 82 نقلا عن  carlo sini  و  laurence cornu  و  alain vergnioux
2- وهيب أسطاسي جرجس، الفكر الفلسفي والاجتماعي ، مكتبة الوحدة العربية الدار البيضاء ص 7-8 بتصرف .
            3  ـ انظر في هذا الصدد مرافئ الحب السبعة للقاسمي من ص 216 إلى 225 ، فيما يتعلق بأسئلة الرفاق والأحباب ، وص 95 فيما يتعلق بالراعية ( عيدة ) .
 4- مرافئ الحب السبعة  ص 259 ، وانظر ما يوافقه تماما في ص 278 .
5- الفكر الفلسفي الاجتماعي مرجع سابق ص 23 ، وانظر مرافئ الحب السبعة ص 61 .
6- مرافئ الحب السبعة ص 305
7-نفسه ص 232
 8- نفسه ص 229
•9         ـ انظر ص 58 -203-216
10- الفكر الفلسفي  مرجع سابق ص 9
11-مرافئ الحب السبعة ص 218 .
12ـ نفسه ص 62
13-انظر ص 215
14-انظر ص 51
15-انظر ص 113 وكذلك ص 272 وص 51 و 50
16-انظر الهامش رقم3
17-انظر في هذا المثال الأول ص 260 ، وفي المثال السابق ص 251 فهما معا يعبران عن الإشكال الوجودي .
18-نفسه ص 268 ، وانظر بشأن البرجسونية ص 292 ، وانظر للتوسع الفكر الفلسفي ص 31 .
19-انظر ص 58 وانظر كذلك حالة مشابهة تشعر بها حميدة التي أحبت زكي ، وأهلها يريدون تزويجها من ابن عمها الذي لا تكن له أي حب ، وهو الآخر قد زج به في هذه الخطبة عبثا وبشكل مزاحي في فترة الطفولة .
•20     ـ انظر ص 278 وص 157 .
•21     ـ انظر ص 216 ، وانظر ما أثير في الصفحة 218 من تساؤلات ميتافزيقية .
للتوسع في هذه المذاهب انظر الفكر الفلسفي ص 28-31 .
•22     23نفسه ص 29
•23     24-مرافئ الحب السبعة ص 230
•24     25-نفسه ص 294 ، انظر كذلك : علي القاسمي، معجم الاستشهادات الموسع ( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2008) ص144 ـ145 .
•25     26-مرافئ الحب السبعة ص 27
•26     27- نفسه ص 231 .
•27     28 ـ انظر عبد الحق منصف : أبعاد التجربة الصوفية، إفريقيا الشرق 2007  ص 51-56 نقلا عن الفتوحات المكية ص 528.
•28     29 ـ انظر مرافئ الحب السبعة ص 99 للوقوف على مظاهر الإخلاص في صداقة أب سليم لـ( كاكا يارة) انظر ص 60-61 .
•29     30 ـ ص 123
•30     31- الفكر الإسلامي ، وهيب اسطاسي جرجس وإبراهيم محمد الجمل ، دار الكتاب - البيضاء ، ص 72 بتصرف ، وانظر كذلك ص 59
•31     32 ـ انظر الفرق بين المذهبين في الفكر الفلسفي والاجتماعي مرجع سابق ص 174 -176 بتصرف .
•32     33- مرافئ الحب السبعة ص 44 .
•33     34 ـ نفسه ص 120
•34     35 ـ  95

التعليقات


الاسم:البشيرالنظيفي
التاريخ:16/06/2013 12:41:01
الدكتورعلي القاسمي العالم المتبحر،واللغوي المجلي لغوامض القول،والباحث المدقق لعلم المصطلح الشاعر في نثره،والميسرلمعارفه العلمية والفلسفية والنفسانية، في إبداعه القصصي،ورواية المرافئ التي سبرغورهاالأديب والناقدالأخ إدريس الكريوي عندماأخذبيدنالنجوب معه إلى جانب خيالهاالشعري الذي وشاه مبدعهابآراءالفلاسفةوأقطاب الفكروالأدب،كماتجلى ذلك بين ثناياصفحات هذاالعمل الروئي الباذخ،والمتميزفي لغته الخطابية الموجهة إلى عقل القارئ وقلبه
هذه الروايةالتي استشف الأخ إدريس في أسلوب سلس قضاياهاالفلسفيةوالفكريةوالدينيةوالصوفية..باعتبار جدورهاالعميقةفي حياة الإنسان منذبزوغ بوادرأشعة الحضارة على الأرض..وإنسانية هذه الروايةـ في نظري ـ تكمن في أنهابلغت لناهموم الإنسان الحاضرفي شتى المجالات وذلك قصدتحويل محتواهاإلى طاقة مؤثرة تحرك قارئها، وتحثه على المشاركة والفعل ..
وإن دل ماسبق على شيء فإنماعلى أن الرواية استندت على ذخائرروحية وفكرية وفلسفية..هذه الأخيرة التي شغلته بعد الكتابة،والتي تجلت في فلسفة المعنى،معنى الوجود، البداية،النهاية..
عطفاعلى ماسبق أرفع تحياتي لأستاذي علي وللأخ الكريوي


الاسم:علي القاسمي
التاريخ:16/06/2013 17:07:41
الباحث الجليل الأديب الأستاذ سيدي البشير النظيفي
أشكرك ـ أخي العزيز ـ على ما أضفيته على الرواية والدراسة النقدية عنها من ثناء يعبق بأريج روحك الطاهرة، ومديح كريم يستمد صفاءه من وجدانك النقي. وقد اطلعتُ بغامر الفرح على الدراسة التي تفضلتَ بتدبيجها عن عتبة العنوان في هذه الرواية، فأعجبتُ بها أيما إعجاب، وسأقدِّمها للنشر في مركزنا النور الأغر ليشاركني قراءه الأكارم في تذوق إبداعك الباهر.
الاسم:نجاة المريني
التاريخ:16/06/2013 09:22:20
الأستاذ الأكاديمي والمبدع الروائي الدكتور علي القاسمي
تحية مودة وتقدير ،وبعد
لعل كلمات التهنئة عاجزة عن التعبير عن السرور بالنجاحات التي تحققها بكتاباتك العلمية وومصنفاتك الإبداعية ، فقد ملأت مساحات فكرنا ووجداننا بما يخطه قلمك السيال من حين لآخر وما تنجزه من دراسات ومجموعات قصصية وروايات ،وما ينجزه الإخوة النقاد حول إبداعاتك التي تفيد الفكر وتغذيه وتنعش العاطفة وتهذبها ،إذ في كتاباتك بذور إحيائية للغة نحبها ونعشقها، فنعمل على نشرها وتقوية علاقتنا بها ،وفي رواياتك سباحة في عوالمك الإبداعية فتثري مخيالنا وتغذيه وتنعشه بلغة دافئة رصينة
فشكرا لك على على وفائك للأصدقاء والخلان ن فمن خلال تواصلك الجاد بأبحاثك وإبداعاتك تأكيد لأواصر صداقة حق تربطك بهؤلاء الأصدقاء
تحية لك أستاذي على ما تحظى به من تقدير واعتزاز ، زادك الله من فضله .

الاسم:علي القاسمي
التاريخ:16/06/2013 12:47:23
أستاذتنا العالمة الأديبة الدكتورة نجاة المريني
أشكرك من القلب على تكرمك بالإطلالة على هذه الدراسة النقدية القيمة التي تتناول روايتي "مرافئ الحب السبعة" بالتحليل والنقد الرصين. وأنا لا أنسى أنني أتيتُ من أمريكا إلى المغرب حاملاً شهادة الدكتوراة التي لا تمثّل سوى سلة ينبغي ملؤها بالثمار. فقطفتُ من الفكر المغربي ما عمَّر سلتي وأغناها بالأدب الراقي والمعرفة الحقة، ومن هذه الثمار اليانعة ما أفدته من مؤلفاتك القيمة ودراساتك العميقة. كما لا أنسى أنني عندما أخذتُ أكتب القصة والرواية أثناء ساعات الفراغ، تعهدتني أقلام النقاد المغاربة بالإطراء والتشجيع والحث على مواصلة السير في طريق الأدب. فشكراً لك يا سيدة الأدب المغربي، وهنيئاً لي بصداقتك النبيلة، وبمعارفي المغربية التي أزهو بها.

الاسم:
جويدة
التاريخ:12/06/2013 23:43:31
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته أما بعد :
سيدي الدكتور:
هناك مرافئ نسكنها و أخرى تسكننا ، فنعيش غربة الأوكار ونحن نتلثم سماء الوطن وأرضه ، انها فوضى الذات المشتتة بين واقع يؤلم و مأمول تدلسه الأيام ، لعلها ملهاة الحياة و مأساتها هي المعادلة التي لم تتمكن النفس الانسانية من فكها و لا كفها .
أهنئك على الميلادين ميلاد الرواية و ميلاد اعادة كتابتها .... الطالبة جويدة من الجزائر . تحياتي

الاسم:علي القاسمي
التاريخ:15/06/2013 13:01:53
عزيزتي المبدعة البديعة الآنسة المهذبة جويدة.
كلماتك الجميلة تكاد تكون خلاصةَ دراسةٍ نقدية تقوم على التحليل النفسي للرواية. أهنئك على إدراكك العميق لدوافع الكاتب أثناء خلق العمل الروائي الذي يستعير الواقع مغلفاً بالتخييل الذاتي.

الاسم:عبد الواحد البرجي
التاريخ:10/06/2013 14:56:07
الدكتور علي القاسمي وارف بعلمه ،مثخن بعمق تأمله اللغوي ،متشرب بالفكر النقدي الفلسفي ،يستطيع دوما أن يمتاز عن غيره بتبني المستوى الثاني من الخيال عند كلوردج
فلك مني وولادريس الكريوي أطيب تحايا أهل درعى الخير بزاكورة
الاسم:عبد الواحد البرجي
التاريخ:10/06/2013 14:53:29
الدكتور علي القاسمي وارف بعلمه ،مثخن بعمق تأمله اللغوي ،متشرب بالفكر النقدي الفلسفي ،يستطيع دوما أن يمتاز عن غيره بتبني المستوى الثاني من الخيال عند كلوردج
فلك مني وولادريس الكريوي أطيب تحايا أهل درعى الخير بزاكورة


الاسم:علي القاسمي
التاريخ:15/06/2013 12:52:14
عزيزي المبدع المتألق الأستاذ عبد الواحد البرجي
أحييك وأشكرك إصالة عن نفسي ونيابة عن صديقي العالم الأديب الأستاذ إذريس الكريوي. فكلماتك شموع تنير طريقنا إلى خمائل المعرفة المتشابكة الأغصان. دمت أخاً عزيزاً كريماً.
الاسم:حاج هنّي محمد
التاريخ:10/06/2013 08:33:32
أستاذي الفاضل: علي القاسمي اللغوي المتميّز والمعجمي الألمعي والروائي المبدع، فعلا روايتك الأسطورية تحتاج إلى عدةقراءات؛ نقدية وفلسفية ولغوية واجتماعية، فلقد جسّدت فيها صورة مشرقة لسندباد العرب في القرن العشرين عبر المرافئ التي عبرتها، وعبّرت عنها، بما يناسبها من معان،فمزيدا من الإبداع والإمتاع، وأشكر الناقد إدريس الكريوي على هذا الكتاب، الذي أتمنى أن يصلنا قريبا، والشكر موصول لكل ناقد وقارئ استمتع بما كتبته يا أستاذ الأجيال،علي القاسمي، أطال الله عمرك،ورزقك الصحة والعافية، ومزيدا من الكتابة.

الاسم:علي القاسمي
التاريخ:15/06/2013 12:48:04
أخي العزيز الأكاديمي المرموق الأستاذ حاج هني محمد
شكراً لك على كلماتك الرائعة التي تعبق بمحبتك وتقديرك للمعرفة، خاصة وأنت ممن يغوصون في بحورها وأغوارها لتخرج لنا متوجاً بالجواهر الثمينة النادرة. محبتي واحترامي.

الاسم:عبد الله السريحي - أبوظبي
التاريخ:10/06/2013 05:26:04
صديقنا العالم الجليل الدكتور علي القسمي عالم موسوعي على غرار علمائنا الأوائل الذين كان باع طويل وإجادة تامة في عدة علوم، ولذلك فليس من المستغرب ، وهو العالم اللغوي الفذ، الذي أصبحت اللغة طيعة سهلة في يده أن يوظف معارفه الأخرى في رواياته الأدبية فتخرج في ثوب جميل يزخر بكل مباهج الفكر. فحية تقدير ومحبة له وللشاعر والناقد إدريس الكريوي


الاسم:علي القاسمي
التاريخ:15/06/2013 12:33:45
صديقي العلامة البحاثة الدكتور عبد الله السريحي
أشكرك على تفضلك بتشجيعي بكلماتك الكريمة التي أعتز بها إيما اعتزاز، لأنها صادرة من عالم له جولاته المشهودة في البحث والتحقيق والإبداع. فدمتَ لي أخاً أقتدي به.
الاسم:سامي العامري
التاريخ:09/06/2013 17:31:56
رائع من المؤلف الروائي القدير علي القاسمي
اهتمامه بالجانب الفكري
إلى جانب البعد الفني للعمل الأدبي
وهذا التزاوج في رأيي لم يتم
لو لم يكن المؤلف نفسه مشغولاً بأسئلة الوجود الكبيرة ويتنفسها كشأن كل المفكرين
والفنانين والأدباء الحقيقين بقلقهم السامق المعهود
وقدأحسن المؤلف إذ ألبس أفكاره وخبراته وقناعاته لبوساً فنياً وفي هذا كما نعلم
ما يشد القارىء أكثر وأعمق
من خلال التشويق الأدبي وهذه لعبة يعرف أسرارها
من لهم باع طويل في الكتابة الإبداعية المميزة كالروائي القاسمي وهذا أيضاً ما دعى الأستاذ الناقد
إدريس الكريوي ، بتقديري ، إلى التصدي لهذا العمل المهم فتناوله بلغة نقدية شائقة هي الأخرى وتنم عن اهتمام جلي وتذوق عال إخلاص للفكر والنتاج المعرفي الفني وسياقاتهما...
مع تمنياتي الطيبة لكما

الاسم:علي القاسمي
التاريخ:09/06/2013 19:05:45
صديقي الشاعر المتألق الأستاذ سامي العامري
أشكرك على كلماتك الرقيقة وأفكارك الدقيقة، وتعليقك بحد ذاته يعدّ نقداً عميقاً وكشفاً حقيقياً لأسرار الفن عامة والأدب خاصة. فأنت بممارستك كتابة الشعر، سيد الفنون، تدرك أبعاد رسالة الفنان في المجتمع. فلك مني جزيل الشكر ووافر العرفان على إطلالتك البهية وجميل تواصلك وكرم تشجيعك
الاسم:منتصر أمين
التاريخ:09/06/2013 14:16:54
قراءة عميقة لبعد فلسفي نبيل في رواية مبدعة تجلت فيها صورة ذلك العربي الذي نفتخر به جميعا عالما ومفكرا وأديبا وفيلسوف محبة صادقة، فتحية إعجاب إلى أستاذنا المفكر البارع الدكتور القاسمي وشاعرنا الناقد الكريوي

الاسم:علي القاسمي
التاريخ:09/06/2013 14:57:24
أخي الحبيب اللساني الأديب الدكتور منتصر أمين
شكرا لكلماتك الكريمة بحق هذه الدراسة القيمة عن روايتي. وشكراً لثنائك الجميل على شخصي المتواضع. محبتي الدائمة لك، وتمنياتي الطيبة بالتقدم والتألق.

مقالات ذات صلة