الترجمة الأدبية لدى علي القاسمي من النظرية إلى التطبيق محمد اليملاحي (قراءة في كتاب " الترجمة وأدواتها")
الترجمة الأدبية لدى علي القاسمي من النظرية إلى التطبيق
نقلا عن موقع النور
د. علي القاسمي
الترجمة الأدبية لدى علي القاسمي من النظرية إلى التطبيق
محمد اليملاحي
(قراءة في كتاب " الترجمة وأدواتها")
"هل نعرف حقاً كلَّ ما ندين به للمترجمين، وما ندين به للترجمة على وجه الخصوص؟ إننا لا نعرف ذلك حقَّ المعرفة. وحتى إن كنا نعترف بفضل أولئك الذين يزجّون بأنفسهم في غمار تلك المهمة المحفوفة بالألغاز... حتى وإن كنا نحيّي فيهم كونهم معلِّمي الخفاء لثقافتنا، وإن كنا نرتبط بهم ونركع لتفانيهم، فإن اعترافنا يظلُّ صامتاً، مشوباً بشيءٍ من الاحتقار. وما ذلك في الحقيقة إلا وضاعة من جانبنا، إذ إننا لسنا في مستوى الاعتراف بهم. موريس بلانشو
تعدُّ الترجمة، كما هو معلوم، موضوع اهتمامِ عدّة مجالاتٍ معرفيةٍ كاللسانيات والأدب والفلسفة، مع العلم أن كلَّ مجالٍ يعدُّ الترجمة من صلب اختصاصه دون غيره.
وهكذا تعتبِر اللسانياتُ الترجمةَ موضوعاً لغوياً بالأساس، لأنه فرع من فروع علم اللغة التطبيقي؛ في حين تعتبر الدراساتُ الأدبيةُ الترجمةَ أحد مجالاتها الخصبة، لأنها تسمح باطلاع الأُمم على آداب بعضها البعض وما ينتج عن ذلك من انعكاساتٍ إيجابيةٍ متعدّدةِ الجوانب؛ كما يعتبر الفلاسفةُ الترجمةَ قضيةً فلسفية، لأن اللغة إحدى تجليات الفكر، بل إنها وسيلة التفكير التي تحدِّد رؤية الإنسان للعالم.
أفترض أن رؤية على القاسمي للترجمة نظرياً وتطبيقياً، تؤلِّف بين كافة المجالات المعرفية المذكورة، بسبب تنوُّع وتعدُّد المرجعيات الثقافية في تكوين القاسمي، إذ بالرغم من أن أساسه لغوي محض، فإن اهتماماته الأدبية والفكرية، إبداعاً ونقداً وترجمةً، جعلت رؤيته للترجمة تتسع لتشمل المجالات الآنفة الذكر.
ولأجل تقريب القارئ من رؤيته للموضوع، اعتمدت على كتبه الآتية:
ـ علم اللغة وصناعة المعجم (1)،
ـ المعجمية العربية بين النظرية والتطبيق (2)،
ـ الترجمة وأدواتها: دراسات في النظرية والتطبيق (3)،
ـ علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية (4)،
ـ الوليمة المتنقلة، لإرنست همنغواي (ترجمة) (5)،
ـ الشيخ والبحر، لأرنست همنغواي ( ترجمة) (6).
وانطلاقاً من قراءة هذه المؤلَّفات والتركيز بالخصوص على المواضيع التي لها صلة مباشرة بالموضوع، استخلصتُ أن رؤية المؤلِّف تقوم على ثلاثة محاور تمثِّل الوجوه المختلفة للعِلم والمعرفة، وهي: النظرية والمنهج والإجراء.
وقد تشكَّلت هذه الرؤية بفعل الخبرة التي راكمها المؤلِّف في مجال الترجمة، سواء بتدريس هذه المادّة في الجامعات، أو بترجمة مجموعةٍ من النصوص الأدبية من الإنكليزية إلى العربية، أو بمراجعة بعض التقارير بتكليفٍ من منظمة الأمم المتحدة.
وفيما يلي عرضٌ موجزٌ لهذه المحاور:
أولاً، النظرية والمنهج:
أود أن أشير في البداية إلى أن المؤلِّف لم يخصِّص أياً من كُتُبه لنظرية الترجمة بالمعنى الضيِّق لمصطلح " نظرية"، بالرغم من أن عنوان أحد كُتُبه يوظِّف هذا المصطلح؛ ومع ذلك فإني أزعم هنا أن المواضيع المشار إليها في الكُتُب المذكورة تصدر عن تصوُّرٍ نظريٍّ لموضوع الترجمة خاصةً المواضيع التطبيقية التي سنقف عليها لاحقاً، لأنه " لا يوجد شيء من قبيل الملاحظة الخالصة، أي ملاحظة بدون مكوِّنات نظرية...كلُّ ملاحظة تجريبية هي تأويل للوقائع في ضوء نظرية أو أخرى."(7).
وعلى هذا الأساس، فإننا " نعمل دائماً بنظريات، حتى إن كنا على غير وعي بهذا في كثير من الأحوال، ولا ينبغي أبداً أن نقلل من أهمية هذه الحقيقة." (8).
على ضوء هذه القناعة المعرفية، سأحاول، انطلاقاً من تلك المؤلَّفات، بناء تصوُّرٍ نظريٍّ للمؤلِّف بخصوص موضوع الترجمة، أو على الأقل بناء جزءٍ أو أجزاء من ذلك التصوّر.
ويمكن تقسيم التصوُّر المذكور إلى قسمين:
ـ قسم يتضمّن بعض المبادئ العامة،
ـ وقسم يتضمَّن بعض المبادئ الخاصة بعملية الترجمة.
1 ـ المبادئ العامة:
أ ـ الترجمة بين العلم والفن:
يأتي على رأس هذه المبادئ العامة النظر إلى الترجمة نفسها وتصنيفها ضمن العِلم أو الفن، إذ يعتبر المؤلِّف أن " الترجمة الأدبية لم تصبح بعد علماً خالصاً، وإنما هي خلطة سحرية من العلم والفنّ والموهبة" (9).
وتترتب عن هذا التصوُّر مجموعة من النتائج منها على الخصوص:
ـ صعوبة الترجمة الأدبية، لأنها تجمع بين مجالين متباعدين قلَّما يحيط بهما المترجِم.
ـ ضرورة تحلّي الترجمة ببُعدين أحدهما فنّي يراعي جمالية العمل الأدبي المراد نقله إلى العربية، وثانيهما علمي يراعي الدقَّة العلمية.
ـ ضرورة إيجاد توازنٍ بين البُعدين الفني والعلمي في الترجمة.
ولعلَّ هذه النتائج تفسِّر قلّة الترجمات الجيدة للأعمال التي تُترجَم إلى العربية، كما تفسِّر، من جهةٍ ثانية، الإقبال على إعادة ترجمة بعض الأعمال لتجاوز الأخطاء التي وقعت فيها الترجمات السابقة، أو على الأقل لسدِّ بعض ثغراتها، ما يجعل الترجمة سيرورةً فكريةً لا تختلف عن باقي الإنتاجات الفكرية، خاصةً المتعلقة بالفهم والتفسير والتأويل. ولهذا نجد أنَّ النصوص العظيمة تتعدَّد وتتراكم ترجماتها عبر العصور ويتعاقب المترجمون عليها، كلٌّ يحاول إضافة شيءٍ جديدٍ إلى الترجمات السابقة، بل قد يدخل في معارك فكرية مع غيره من المترجمين إلى جانب معركته مع النص نفسه؛ ولنا في ترجمات القرآن الكريم خير مثال على ذلك. وهذا ما يفسِّر أيضاً دعوة علماء وخبراء الترجمة إلى إعادة " ترجمة الأعمال الأدبية الخالدة بين حقبة زمنية وأخرى، لأن اللغة في تحوُّل وتغيُّر وتطوُّر باستمرار. ففي كل يوم تشيخ كلمات وتموت كلمات وتولد كلمات. وفي كل يوم تكتسب بعض الألفاظ معاني جديدة، أو تُستعمَل في تعبيرات وسياقات مختلفة عن استعمالاتها وسياقاتها السابقة، أو تتلوَّن بظلال من الدلالات المركزية والهامشية وبالاستعمالات الحقيقية والمجازية." (10)
ب ـ الترجمة والتفاعل التواصلي:
يعتبِر القاسمي الترجمة إحدى الوسائل الهامة في التفاعل التواصلي، إذ تمدُّ " جسوراً بين الجماعات البشرية المختلفة، فتيسِّر التواصل والتفاعل بينها...فهي البوابة التي تعبر منها الذاتُ إلى الآخر أو يقتحم الآخرُ الذاتَ." (11).
ويتَّخذ هذا التفاعل ثلاثة مظاهر هي: التواصل بين اللغة المنقولة واللغة المنقول إليها، التواصل بين المترجِم والمؤلِّف، التواصل بين ثقافتَي اللغتين.
ـ التواصل بين اللغة المنقولة واللغة المتلقية:
ينتج عن هذا التواصل أثرٌ يلحق اللغتين معاً؛ إذ يحدث " تغيير في مفاهيم اللغة المنقول منها، وتطوير اللغة المنقول إليها في مفرداتها وتراكيبها ودلالاتها وأساليبها." (12). ولسنا في حاجة إلى الاستدلال على صحَّة هذا الرأي. يكفي أن نذكر هنا " ما حدث للكتابة باللغة الفرنسية عندما تفتّحت على الأدب الأمريكي وأخذت تترجمه. بل إن هذا ما نلاحظه اليوم في اللغة العربية حيث أصبحنا نشتم في نصوصها رائحة اللغات الفرنسية والإنجليزية والإسبانية. فليست الترجمة إذن هي ما يضمن حياة النص المترجَم ونموّه وتكاثره فحسب، وإنما هي ما يضمن أيضاً حياة اللغة والفكر ونموهما وتكاثرهما." (13).
ـ الحوار بين المترجِم والمؤلِّف:
إن الترجمة في رأي القاسمي " حوار بين المؤلِّف الذي أنتج النص الأصلي وبين المترجم الذي يعيد إنتاجه ـ على الرغم من بعد الشقة الزمانية أو المكانية بينهما." (14). وبما أن الأصل في الحوار هو الاختلاف كما يذهب إلى ذلك الأستاذ طه عبد الرحمن (15)، فإن الترجمة تسعى إلى تدبير الاختلاف بين الطرفين من أجل الوصول إلى ضرب من الوفاق وعقد الألفة بينهما.
وهكذا قد يستفيد المترجم الأدبي، سيما إذا كان مبدعاً، من تقنيات كتابة النصوص التي يترجمها، كما يعترف بذلك القاسمي نفسه بالقول إنه عندما يترجم الأعمال القصصية الخالدة، يتعلَّم منها بعض تقنيات الكتابة السردية التي يستثمرها في كتاباته الإبداعية (16). كما قد يستفيد أيضاً مؤلِّف النصِّ الأصلي من ترجمة عمله إلى لغة أخرى، فقد كتب " جوته" بعد أن اطلع على ترجمة لاتينية لإحدى قصائده ما يلي: " لم أقرأ منذ سنين هذه القصيدة التي أعزها من بين جميع قصائدي. والآن أتأملها كما لو كنتُ أتأمل مرآة، والمرآة كما نعلم تتوفر على قوة سحرية جبّارة. ها أنا أرى الآن إحساسي وشعري، في الوقت ذاته، مطابقاً لنفسه، متبدلاً متحولاً يقطن لغة أخرى أكثر اكتمالاً. لقد تبيّنت أن اللاتينية تنحو نحو المفهوم فتحوّل ما يظلّ في اللغة الألمانية مقنّعاً متوارياً بنوع من البراءة." (17).
ـ الحوار بين ثقافتَي اللغتَيْن:
ينتج عن المظهرين السابقين حوارٌ واسعٌ بين ثقافتيْن، رغم أنه يتمُّ على نحوٍ غير مباشر، بل إنه قد يمهِّد في كثير من الأحيان إلى الحوار المباشر بينهما من خلال قنواتهما الرسمية.
وهكذا " لا تقتصر فائدة الترجمة على إثراء الثقافة المتلقية، وإنما تمتد كذلك إلى خدمة الثقافة التي نُقِلت منها النصوص. فالترجمة تهَب النصَّ الأصلي وجهاً جديداً وتمنحه حياةً جديدةً في محيطٍ ثقافي جديد...[فـ] يُصبح النقل اللغوي انتقالاً وتحوُّلاً وتلاقحاً وتناسلاً للمفاهيم والأفكار في أفضية متجددة وعوالم متكاثرة." (18).
وتعدُّ الترجمة، في هذا المجال، بمثابة مؤشِّر على نوعيَّة الاهتمامات والتوجُّهات الجمالية والفكرية، ليس فقط لدى المترجِمين، بل لدى القراء كذلك، إذ يساهمون، باعتبارهم مستهلِكين للمادّة المترجَمة، في اختيار النصوص للترجمة.
وقد ورد في التقرير العربي الثاني للتنمية الثقافية أنَّ " الترجمة من اللغات الأجنبية للمادة الثقافية ـ الفكرية والإبداعية ـ إلى اللغة العربية تُطلعنا على نوع الهموم والأسئلة والهواجس لدى النخب الثقافية ولدى الجمهور القارئ على السواء. فالذين يترجمون ـ وهم من النخبة ـ ينقلون هواجس تلك النخبة التي إليها ينتمون، لأنهم لا يترجمون ـ في العادة ـ سوى ما يعدّونه في جملة المادة الثقافية التي تجيب عن حاجات عقلية أو جمالية، أو عن أسئلة تدور في محيط المجتمع الثقافي. والذين يتلقّون المادة المترجَمة أو يقبلون عليها استهلاكاً وقراءة، إنّما يكشفون عن نوع الهواجس التي تستبدُّ بهم." (19).
كما يمكن أن تتجاوز الترجمة الأفراد والجماعات لتصبح ظاهرة اجتماعيةـ تاريخية تقودها وتدعمها " أنظمة سياسية " لتحقيق أهداف سياسية وإيديولوجية، كما هو حال الترجمة في العصر العباسي مثلاً (20)، مما يبيِّن أن دور الترجمة لا يتوقَّف " عند إثراء الثقافة المتلقّية ولغتها واقتصادها، وإنما يتعدّى ذلك إلى التأثير في الحركات الاجتماعية والسياسية خاصَّةً عندما تترجَم أعمال ذات صلة بفكر إيديولوجي معيَّن. ويمكن أن نمثِّل لذلك بتأثير الحركات الاجتماعية والسياسية خلال الستينيّات والسبعينيّات من القرن العشرين بالترجمات الكثيرة من الفكر الماركسي الاشتراكي" (21).
2 ـ المبادئ الخاصة بعملية الترجمة:
تنصرف المبادئ الخاصة هنا إلى البنيات اللغوية للغتين المنقولة والمتلقية، سواء تعلَّق الأمر ببناء الكلمات أو الجمل أو النصوص بصفة عامّة، وذلك في علاقة تلك البنيات بمعانيها.
ومن هنا يجد المترجم نفسه أمام ثنائية المعنى والمبنى في اللغتين، فيسعى جاهداً للتقريب بينهما، خاصة وأنه لا توجد، كما يقول القاسمي، " مطابقة تامة بين أي لغتين من اللغات مهما كانت درجة القرابة بينهما، ومهما بلغ التشابه بين بنيتيهما وأساليبهما. ولهذا فالترجمة الكاملة غير موجودة بتاتاً. فكلُّ ترجمة يشوبها القصور، ونجاح أيِّ ترجمة هو نجاحٌ نسبيٌّ."(22).
ويعني هذا أن المترجم يعمل وفق مجموعةٍ من القواعد، أو بالأحرى القيود التي تُملى عليه من اللغتين. ومن بين القيود التي استخلصناها من عمل القاسمي في هذا المجال ما يلي، علماً بأنه لم يستعمل مصطلح " قيود" وإنما هو من تأويلنا ووضعنا:
أ ـ مراعاة قيد التخصص:
ويتلخَّص في أن يقوم بالترجمة مختصّون في المجال المعرفي الذي ينتسبون إليه، ضماناً لدقَّة الترجمة ومصداقيتها، لأنَّ لكل مجالٍ مصطلحاته ومعجمه، وربما تراكيبه أيضاً.
وقد توجد داخل المجال المعرفي الواحد تخصُّصات عدّة، ففي اللسانيات مثلاً نجد الصواتة والتركيب والدلالة والتداول، وفي الأدب نجد أجناساً أدبية مختلفة كالشعر، والقصة، والقصة القصيرة، والرواية... ويذهب القاسمي إلى أن " ترجمة الأعمال الأدبية تتطلَّب من المترجِِم تخصُّصاً في الجنس الأدبي الذي يترجمه، وإلماماً بالمجال الموضوعي الذي يتناوله، ومعرفةً بثقافة المؤلِّف الأصلي، وحضارة العصر الذي عاش فيه، واستيعاباً لأسلوب الكاتب وتقنياته في الكتابة" (23).
ب ـ مراعاة قيد الدلالة والتداول:
تتفرَّع عن هذا القيد مجموعةٌ من القيود الفرعية نوجز بعضها فيما يلي:
ـ رفض دعوى الترادف: إذ على المترجم أن يجتهد في اختيار اللفظة المناسبة للسياق الملائم لها، وألا يعتبر الاختلاف بين الألفاظ مجرَّد فروقٍ لفظة، إذ قد تكون فروقاً مفهومية، " لأن الألفاظ تشير إلى مفاهيم في الذهن وليس إلى أشياء في الوجود."(24).
ـ مراعاة السياق: يولي القاسمي أهمية كبيرة للسياق في نجاح الترجمة. ولا يقتصر السياق على موقع المفردة أو الجملة داخل نصٍّ ما، بل يتجاوزه إلى النصِّ في علاقته بالثقافة التي ينتمي إليها، ولهذا يتعيَّن على المترجِم أن " يموقع النص في سياقه الثقافي ومقامه الاجتماعي، وأن يصوغه بأسلوب يتناسب مع أسلوب الكاتب الأصلي." (25). لهذا يُعدُّ النص بالنسبة للمترجم " ليس مجرَّد ظاهرة لسانية، بل يجب أن يعتبر أن له وظيفةً تبليغيةً ...وكجزء من خلفيةٍ اجتماعيةٍ ثقافيةٍ أوسع نطاقاً."(26).
وعلى هذا الأساس، لم يعُد الاقتصار على نقل الخصائص الدلالية الصرف كافياً في الترجمة، بل لا بُدَّ أن يقترن أيضاً بالجانب التداولي، لأن " الألفاظ تشكِّل أجزاء متداخلة في نسيج لغوي واجتماعي وثقافي وتاريخي، وتكتسب دلالاتها من بنية هذا النسيج برمته. فدلالة اللفظ وإيحاءاته النفسية مستمدة من مجموع استعمالاته في مجمل عصور اللغة وفي جميع مجالاتها المعرفية." (27).
ج ـ قيود تركيبية وصرفية:
تقتضي هذه القيود من المترجِم مراعاة نظام بناء الجملة والكلمة في اللغتيْن، سيما أن هذا النظام يختلف من لغة إلى أُخرى، خاصَّةً على مستوى ترتيب مكوِّنات الجملة داخل النص. ولهذا يرى القاسمي أن " على الترجمة أن تحافظ على صيغ القول حتى لو كانت النتيجة واحدة، خاصَّةً صيغة الفاعلية والمفعولية، وصيغة المبني للمعلوم والمبني للمجهول، وصيغة الكلام المباشر والكلام غير المباشر."(28) من أجل المحافظة على خصائص أسلوب المؤلِّف الأصلي ومقاصده التداولية. إلا أنه بإمكان المترجِم " أن يغير بعض الصيغ الأصلية، لأن لكلِّ لغةٍ خصائصها الصرفية والأسلوبية. فقد يكون اللفظ مذكَّراً في لغة ما ومقابله مؤنثاً في لغة أخرى والعكس بالعكس... ولكن ينبغي أن لا يغيّر المترجِم صيغةً من الصيغ كان المؤلِّف الأصلي قد استعملها عن قصد، أو استخدمها بمثابة تقنية سردية.ً (29).
والخلاصة أنه في وسع المترجِم " إضافة كلمةٍ هنا وكلمةٍ هناك ليجعل النصَّ المترجََم مقروءاً ومفهوماً ومنسجماً مع أساليب اللغة المترجََم إليها." (30) شريطة ألا يؤدّي ذلك إلى تغيير المضمون الأصلي أو إقحام إضافة غير موجودة في الأصل مما يغير ملامح أسلوب المؤلِّف الأصلي ويفسد تقنياته. (31).
3 ـ الإجراء:
يُقصَد بالإجراء التنفيذ العملي للترجمة. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أن هذه المرحلة تستدعي الجلوس إلى مكتبٍ والشروع في الترجمة بالاستعانة بمجموعةٍ من الأدوات المختلفة كالمعاجم الثنائية اللغة وغيرها من كتب النحو والصرف والموسوعات إلى غير ذلك. ولكن القاسمي يفاجئ القارئ بالتمهيد لهذه المرحلة بـ "طقوس الترجمة"، إذ إنه عندما عزم على ترجمة " الوليمة المتنقِّلة" لإرنست همنغواي، سكن في شقَّةٍ تقع في شارع الكاردنال لوموان حيث كان يسكن همنغواي، وتنزّه على رصيف نهر السين الذي تحدَّث عنه همنغواى، واشترى الكتب من الأكشاك ذاتها، وارتاد المقاهي والمطاعم التي كان يرتادها همنغواي (32).
كما يقول عن استعداده لترجمة " الشيخ والبحر": " لم أكتفِ بتمضية ليلةٍ كاملةٍ في مركبٍ شراعيٍّ صغير يقوده صيّاد سمك في شواطئ مدينة الصويرة المغربية، وإنما اقتنيتُ شريطيْن سينمائييْن أنتجتهما هوليوود لهذه القصة: أحدهما من بطولة سبنسر تريسي، والآخر من بطولة أنطوني كوين... ومن طريف ما يروى أن إيرنست همنغواي قال بعد أن شاهد الفيلم الذي اضطلع ببطولته سبنسر تريسي، والذي رُشِّح بناء عليه لنيل جائزة الأوسكار: إن سبنسر تريسي بدا في هذا الفيلم أبعد ما يكون عن صياد كوبي فقير، وأقرب ما يكون إلى ممثلٍ أمريكيٍّ عجوز" (33).
قد تبدو هذه الطقوس بعيدةً عن عمل المترجِم، لكنِّي فوجئتُ ثانيةً بنفس الطقوس يقوم بها أحد المترجمين الأمريكيين لمعلقة الشاعر الجاهلي لبيد، كما يسجل ذلك الشاعر الكاتب أمجد ناصر في إحدى مقالاته بالقول: " حاول وليم بولك أن يتمثَّل، وهو يتأهَّب لترجمة معلَّقة لبيد، المسرحَ الجغرافيَّ الذي تحرَّك فيه الشاعر الجاهلي من أجل فهمٍ أفضل للنصّ، فقام برحلةٍ على ظهر جملٍ في صحراء النفود، قطع خلالها نحو ألفي كيلومتر... مصطحباً معه مصوِّراً محترفاً [ليقوم ] بالرحلة نفسها التي قام بها لبيد في معلقته، مقتفياً أثر حبيبته نوار ، فيصف رحلته وما يلاقية في الصحراء من مظاهر طبيعية وحيوانية." (34).
وقريب من هذا أيضاً ما قام به الموسيقار العربي الكبير محمد عبد الوهاب عندما كان بصدد تلحين قصيدة " الكرنك"، إذ يسجل الباحث الموسيقى إلياس سحاب أنه " عندما بدأتِ البواكير الأولى تتردَّد في مخيلة عبد الوهاب، حمل عوده وحجز غرفةً له في فندق (ونتر بالاس) القديم القريب من موقع المعبد...[وهناك] قضى أياماً لا يفعل شيئاً سوى الانتقال من غرفته بالفندق إلى المعبد، يتجوَّل في أرجائه، ويدندن بالألحان التي تخطر بباله، ويعاود النظر في أبيات القصيدة المدونة على ورقة في جيبه. وعندما كان عبد الوهاب يعود من جولته في أرجاء المعبد إلى غرفته بالفندق، كان يحضن عوده ويدندن عليه الجمل الموسيقية ويعيد ترتيبها وتهذيبها." (35).
وعندما سأله الباحث المذكور سؤالاً مباشراً عن مقطع:
أين يا أطلال جندُ الغالبِ أين آمون وصوت ُ الراهبِ؟
أجاب عبد الوهاب بالقول: " منذ البداية كنتُ أشعر أن لهذا المقطع من القصيدة حساسية خاصة لا بُدَّ من أن تعكس نفسها على المجرى العام للحن القصيدة. لذلك فإني عندما وصلتُ في التلحين إلى هذا المقطع، أجَّلتُ جولتي في أركان المعبد إلى لحظات الغروب، حتى تتمّ الجولة في لحظةٍ حساسةٍ يبدأ فيها الغياب المتدرِّج للضوء والهبوط المتدرِّج للظلام، حتى تكون انفعالاتي في أثناء التجوال في أرجاء المعبد في ذروةٍ من الغيبوبة الكاملة." (36).
وانطلاقاً من هاتين الشهادتين أدركتُ قيمة ما أقدم عليه القاسمي قبل الشروع في الترجمة، كما أدركتُ أن ذلك أحد الأبعاد الفنية للترجمة الأدبية.
لكن أهمَّ ما قام به القاسمي، في نظري، ليس ذلك التهيّوْ النفسي للترجمة ولا رؤيته لموضوعها، لأنَّ ذلك لا ينفرد به وحده، إذ يشاطره الرأي مجموعة من الباحثين في موضوع نظرية الترجمة، بل تلك الدراسة الهامة المعنونة بـ " في إعادة ترجمة الأعمال الأدبية المترجَمة" (37) حيث قام بدراسةٍ مقارنةٍ جيدةٍ لثلاث ترجمات لرواية هيمنغواي " العجوز والبحر" بل " الشيخ والبحر"؛ الترجمة الأولى لمنير بعلبكي، والثانية لزياد زكريا، والثالثة لعلي القاسمي نفسه.
وبالرغم من أن المؤلِّف انتصر هناك لترجمته، فإنه لم يقلِّل من شأن الترجمتيْن السابقتيْن، بل أقرَّ في بعض الأحيان بمظاهر جماليتهما، خاصة على مستوى الصياغة والأسلوب، ولكنّه استدل على عدم دقتهما من خلال ثلاثة مستويات: مستوى الألفاظ، مستوى بنية الجملة، مستوى الصرف.
أ ـ على مستوى الألفاظ:
انطلق المؤلِّف، في هذا المستوى من السطور الثلاثة الأولى التي تشكِّل افتتاحية الرواية، وأخذ يوازن بين الترجمات الثلاث، مركزاً بالخصوص على مجموعة من الألفاظ، كما يتَّضح من خلال الجدول التالي:
ترجمة منير بعلبكي
|
ترجمة زياد زكريا
|
ترجمة القاسمي
|
النص الأصلي
|
ـ كان رجلاً عجوزاً
|
كان الرجل قد بلغ من الكبر عتيا
|
كان شيخاً
|
He was an old man (who fished alone)
|
ـ في قارب عريض القعر
|
في زورقه
|
بمركبٍ شراعي صغير
|
In a skiff
|
ـ تيار الخليج
|
خليج جولد ستريم
|
في مجرى الخليج
|
In the Gulf Stream
|
ـ كان قد سخ أربعة وثمانين يوماً
|
وقد عبرت به ...أربعة وثمانون يوماً
|
وقد أمضى حتى الآن أربعة وثمانين يوماً
|
and he had gone eighty-four days now
|
ـ من غير أن يفوز بسمكة واحدة
|
لم يجد عليه البحر بشيء من الرزق
|
دون الحصول على سمكةٍ واحدة
|
without taking a fish.
|
ـ كان يصحبه غلام صغير
|
كان له غلام يعينه على أمره
|
كان معه صبيٌّ.
|
(In the first forty days) a boy had been with him.
|
وقد احتج القاسمي لملاءمة ترجمته للنص الأصلي بالاعتماد على المعطَيات اللغوية والمقامية في اللغتيْن العربية والإنجليزية، وكذلك الخصائص الأسلوبية لكتابة همنغواي.
وهكذا استعمل كلمة " شيخ" واستبعد "عجوز"، لأن هذه الأخيرة مشتقَّة من العجز " في حين أن الغاية الأساسية من قصة همنغواي هي تصوير نضال الإنسان المستمر، وكفاحه المتواصل، وعمله الدائب من أجل التحكُّم في الطبيعة وترقية مستوى حياته." (38). أما كلمة شيخ " فتدل على الشيخوخة ولكنها، في الوقت نفسه، تدلّ على الحكمة والمعرفة... وكلمة شيخ تستعمل في وصف أكبر أهل المهنة وأعرفهم بأصولها...وصيّاد همنغواي هو شيخ الصيّادين." (39). كما استبعد أيضاً ما ورد، بهذا الخصوص، في الترجمة الثانية حرصاً على مبدأ الاقتصاد والتداول، إذ عبّرت الترجمة الثانية " بخمس كلمات عمّا يمكن أن نعبر عنه بكلمة واحدة هي شيخ، وهو، كذلك، تعبير قرآني قلَّما يستعمل في اللغة الحديثة العادية التي يصرُّ همنغواي على استعمالها." (40).
كما استعمل القاسمي كلمة " صبيّ" واستبعد كلمة "غلام"، للفرق الدلالي الموجود بينهما؛ إذ بالرغم من أنهما يشتركان في معنى صغر السنّ، فإنهما يختلفان في كون الأوَّل (صبي) هو من يتدرب على مهنة أو حرفة بإشراف معلم، في حين أن الثاني ( غلام) يحيل على معنى العبودية واللواط أو الشذوذ الجنسي، الذي استعمل في بعض عصور اللغة العربية، ما يجعله ذا أثر نفسي سلبي لا يتطابق مع المعنى الذي يقصده الكاتب(41). وينطبق هذا الأسلوب في الموازنة على باقي الأمثلة الواردة في الجدول.
ب ـ على مستوى بنية الجملة:
وقف المؤلِّف هنا عند مسألةٍ لغويةٍ دقيقة هي ترتيب الصفات في الإنجليزية والعربية، حيث لاحظ أن المترجميْن المذكوريْن اتَّبعا نفس الترتيب المعمول به في الإنجليزية (مثلا: صفة الطول أولاً، ثم صفة اللون ثانياً) مخالفيْن بذلك ترتيب الصفات في الجملة العربية الذي يأتي بعكس ترتيب الصفات في الجملة الإنجليزية كما بيّنت ذلك دراسة مختصة في الموضوع:
الاسم، 1 صفة جنسية، 2 صفة لون، 3 صفة شكل، 4 صفة حجم، 5 صفة نعت.(42)
وهكذا استبعد المؤلِّف التركيبيْن الوارديْن في ترجمتي زميليه، واقترح ما رآه ملائماً للعربية، كما يتّضح من خلال ما يلي:
ـ لم يبقَ من الشاطئ غير خط طويل أخضر ← ... خط أخضر طويل.
ـ طائر ذو جناحين طويلين سوداوين ← طائر بجناحيْه الأسوديْن الطويليْن.
ج. مستوى الصرف:
لاحظ المترجِم أن ترجمة زميليْه لنوع من سمك القرش يدعى " الغلانو" احتفظت بنفس علامة الجمع التي تلحق الاسم الإنجليزي (s) الذي لا يعرف المثنى. فوردت في الترجمتيْن السابقتيْن كلمة " غلانوس" علماً بأن الأمر يتعلق بقرشيْن لا غير، ولهذا حافظ القاسمي في ترجمته على صيغة المثنى بدل الجمع واستعمل علامة المثنى بالعربية (غلانوان).
ويتّضح من هذه الدراسة المقارنة الهامة أن القاسمي كان يراعي في ترجمته الاعتبارات التالية:
ـ المعطيات اللغوية الخاصة باللغتين الإنجليزية والعربية،
ـ الحرص على الدقة والاقتصاد في استعمال اللغة بما يتناسب وأسلوب همنغواي، وإن أدى ذلك في بعض الأحيان إلى التخلّي عن جمالية التعبير.
ولهذا أعتبرُ أن تلك الدراسة مجالاً خصباً للدراسة الترجمية المقارنة التي يندر وجودها في العربية ما يجعلها منطلقاً لدراسات مقارنة أخرى، خاصَّة أننا نعلم أن هناك ترجمات عربية متعدِّدة للنص الواحد. والغريب أن الذين يُقدِمون على إعادة ترجمة الكُتُب التي سبق ترجمتها لا يقدِّمون، في الغالب، دراسةً ولا نقداً للترجمات السابقة، ما يجعل القارئ حائراً أمام تلك الترجمات المتعددة.
الهوامش:
أسئلة الكتابة، ترجمة نعيمة بنعبدالعالي وعبد السلام بنعبدالعالي، . ص 83، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2004
مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 2004
مكتبة لنبان ناشرون، بيروت، 2003
مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 2009
مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 2008
منشورات الزمن، الرباط 2000
منشورات الزمن، الرباط، 2008
ـ (8) كارل بوبر، أسطورة الإطار، ترجمة يمنى طريف الخولي، ص 114، سلسلة عالم المعرفة، عدد 292، الكويت، 2003.
الترجمة وأدواتها، ص 190.
نفسه، ص 153ـ154
نفسه، ص 13
نفسه، ص 16
عبد السلام بنعبدالعالي، في الترجمة، ص 13، توبقال، الدار البيضاء، 2006، وانظر أيضاً: إبراهيم السامرائي، اللغة والحضارة، صص 5ـ53 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1977.
الترجمة وأدواتها، ص 16.
الحق العربي في الاختلاف الفلسفي. ص 28، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2002 .
الترجمة وأدواتها، ص 154.
أورده بنعبد العالي في : في الترجمة، ص 67. وانظر أيضاً ص 69 من نفس الكتاب.
الترجمة وأدواتها، ص 17.
ص 487، مؤسسة الفكر العربي، بيروت، 2009.
انظر على سبيل المثال الكتاب الهام: يمتري غوتاس، الفكر اليوناني والثقافة العربية، حركة الترجمة اليونانيةـ العربية في بغداد والمجتمع العباسي المبكر، ترجمة: د. نقولا زيادة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2003، وكذا : الترجمة والإمبراطورية، تأليف: دوجلاس روبنسون، ترجمة ثائر ديب، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2005.
الترجمة وأدواتها، ص 16، 17.
نفسه، ص 150
نفسه، ص 158
نفسه، ص 178
نفسه، ص 141.
سنيل هورنبي، أورده محمد الديداوي في : الترجمة والتواصل، دراسات تحليلية عملية لإشكالية الاصطلاح ودور المترجم، ص 150، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2000. وانظر أيضاً أحمد المتوكل في: قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية، ص 195، دار الأمان، الرباط 1995.
الترجمة وأدواتها، ص 176
نفسه، ص 174
نفسه، ص 188
نفسه، ص 184
نفسه، ص 184
نفسه، ص 149، 150، 151
نفسه، ص 156، 157.
جغرافيا النص: أمكنة الحاضر، مجلة دبي الثقافية، ع 55 ص 88، دجنبر 2009.
هكذا لحن عبد الوهاب قصيدة الكرنك، مجلة دبي الثقافية، ع 53، ص 128، أكتوبر 2009.
نفسه.
الترجمة وأدواتها، ص 153 ـ 201، وانظر أيضاً : الشيخ والبحر ، ص 111ـ156.
الترجمة وأدواتها، ص 164
نفسه، ص 164،
نفسه، ص 165
نفسه، ص 176
نفسه، ص 181، 182.