قصة قصيرة / دوائر الأحزان مع دراسة للناقد إسلام أبو شكير
قصة قصيرة / دوائر الأحزان مع دراسة للناقد إسلام أبو شكير
نقلا عن موقع النور
دوائر الأحزان
قصة قصيرة
لا بُدَّ أن أحكي قصَّتي لأحدٍ ما، ليدوِّنها ويحفظها، قبل أَنْ يقضوا عليَّ، فإنَّهم يحاصرونني الآن من كلِّ جانب، يُشعلون الحرائق حولي، يسلبون هوائي، يترصَّدونني، يتربَّصون بي الدوائر، يتحينون الفرصة للإيقاع بي، للانقضاض عليَّ، لتقطيع أَوْصالي، ووضع حدٍّ لحياتي، وإلغاء وجودي. ولا أريد أنْ أرحل قبل أن أروي قصَّتي، ليست كلَّها طبعاً ولا بتفاصيلها، فهي طويلة لا يتَّسع لها كتاب، ولم يبقَ لي من الوقت ما يسمح لي بسردها كاملة. سأقتصر في قصَّتي على المعالِم الرئيسة في حياتي، مجرَّد ومضات في ليل الزمن:
شاركتُ نوحاً في بناء السفينة، وعندما فاضت الأنهار، وتفتَّقت السماء بالأمطار، وحلَّ الطُّوفان في شهر محرم الحرام، ركبتُ السفينة معه، وظلّتْ حبيبتي واقفةً على ربوةٍ عاليةٍ، تنظر إليَّ وتلوِّح بيدَيها. ناديتُها فلم تُجِب، أشرتُ إليها أَنْ أسرعي فلم تتحرَّك، وبقيتْ واقفةً هناك، ورحلتِ السفينةُ بدونها. وعندها جلستُ وحيداً، وطأطأتُ رأسي، وغطَّيتُ وجهي بيدَيّ، وانحدرتْ دمعةٌ صامتةٌ من عيني. ومرَّتْ قطَّةٌ أمامي، وتوقَّفتْ عندي، وماءتْ بحنان، ومسّدتْ جسدها وذيلها بساقَيّ العاريتَين.
وفي الهزيع الأخير من الحنين، دخلتُ مدينةَ الورقاء حاسرَ الرأس حافياً، وولجتُ معبد عشتار أبحثُ عن حبيبتي فلم أجدها بين البغايا، فتناولتُ مسماراً ونقشت على حجر: " أُحبُّكِ إلى الأبد."، وعلّقتُ الحجر على باب المعبد، علّها تَرِده يوماً ما فتراه. وشربتُ خيبتي كالإبر وانصرفتُ. وفي الشارع الكبير في المدينة، شاهدتُ مواكب الحُزن والعزاء وهي تنتظم صبايا المدينة الجميلات، باكياتٍ نائحاتٍ على إله الرعي دِموزي، الذي أوقعوا به في شهر محرم الحرام وعذَّبوه وقتلوه ظلماً وعدواناً. وتفحَّصتُ الجميلات الباكيات النائحات باحثاً عن حبيبتي بينهنَّ فلم أجدها، فعانقتني تباريح الوجد حتّى خنقتني، وانخرطتُ في موكب العزاء وأخذتُ أبكي، ولم أَدرِ ساعتئذٍ هل كنتُ أبكي على دِموزي أم على حبيبتي.
وصحبتُ جلجامش وأنكيدو في غزواتهما إلى بلاد الأرز وبحر الظلمات، بحثاً عن عُشْبَةِ الحياة، عن حبيبتي. ورأيتُ أنكيدو الشجاع الشهم ينازل العفريتَ في الغابة ويغلبه، ويصارع الثور الوحشيَّ في ساحات المدينة ويصرعه، ولكنَّه...ولكنَّه يلفظ أنفاسه الأخيرة في حجرةٍ موصدةٍ، فيمضي جلجامش حزيناً وحيداً في بحثه عن عُشبة الحياة. ويغوص في أعماق البحر ويصطادها، ولكنَّ الحية تأتيه وهو نائم فتسرق العُشبة منه وتنسلّ مختفيةً في غارها. وبكى جلجامش بحرقةٍ، وبكيتُ معه بصمتٍ. ولم أدرِ وقتذاك هل كنتُ أبكي على جلجامش أم على حبيبتي. وشربتُ دمعي، وعدتُ إلى خيمتي البالية في الصحراء، وألقيت بسيفي المثلوم في العراء.
ودخلتُ مدينة أور في بلاد سومر باحثاً عن حبيبتي. ورأيتُهم يتجمهرون مستمعين إلى إبراهيم فتجمهرتُ معهم. وباغتنا رجال النمرود وقبضوا عليَّ وأحرقوني مع إبراهيم، فتطاير الرماد من جسدي المحروق، وتصاعد إلى أعالي السماء، ومرَّ على وجنة القمر فانكسفتْ، ولامسَ عينَ الشمسِ فانخسفتً، وتجمعتْ ذرّاتُه في الذرى والتحمتْ ، وتذكرتْ آثارَ أقدامي على الرمال فانحدرتْ.
سخّروني مع الآخرين لتشييد جنائن بابل المعلّقة. وفي المساء كنتُ أستحمُّ في ماء الفرات، أفتِّش فيه بين عرائس النهر عن حبيبتي، عن لُقمة أسدُّ بها رمقي. وانسابتْ موجاتُ النهر جنبي مسرعة وهي محمّلة بالإوز والسمك وبقيت جائعاً، وقهقهتْ عرائس النهر مني، وانصرف الجميع، وظللتُ وحدي أفتّش عنها في أحلامي. وعندما غاص قرص الشمس في أطراف السماء وأفل القمر، انهارَ برج بابل، فرحلتُ مع الراحلين مُيمماً وجهي شَطْرَ آشور، مستنطقاً في مسيرتي الأشجارَ والأحجارَ عن حبيبتي. ومررتُ بمهاجع الغجر، فاستعرضتُ خيامهم، ولمحتُ نساءَهم يرقصن مع الذئاب ويُغنِّين مع البوم، ولكنِّي لم أُكحِّل عينيَّ بمرأى حبيبتي بينهنَّ. وفي المساء كنتُ أبكي بحرقة، ولم أعرف ليلتئذٍ هل كنتُ أبكي على برج بابل أم على حبيبتي.
هلّلتُ لهم عندما أبصرتُ بهم مقبلينَ مغيرينَ على صهواتِ جيادهم، وسيوفهم مسلولة، ومثار الغبار يمتدُّ خلفهم حتّى قلب الصحراء. فالتقطتُ سيفي المثلوم والتحقتُ بهم. ووقفتُ معهم أمام إيوان كسرى وهدمتُه حجراً على حجر، وبنيتُ بأحجاره أسوار مدينة مدوَّرة عامرة بالقصور الفارهة والحدائق الغنّاء والساحات الواسعة، وعندما اكتمل بناءُ المدينة، دخل السلطان وأبناؤه وأعوانه فامتلكوا القصور، وتركوني ورفاقي في أرباض خارج السور. ووقفتُ على باب السور أتملّى الجميلات يفِدن إلى المدينة المدوَّرة من أنحاء الدنيا، ولم تكُن حبيبتي بينهن، فتحدّرتْ دمعةٌ وحيدةٌ صامتةٌ من عيني على غير إرادة منِّي. ولم أدرِ هل كنت أبكي على أحلامي المجهضة أم على حبيبتي.
ودخلتُ مدينةَ بغداد، فرأيتُ الناس في المقاهي ضاحكين لاهين، واشتغلتُ في أحد المراصد. وذات يوم، رصدتُ، من الشرفة، جحافلَ المغول قادمةً على خيولٍ صغيرةٍ ذميمةٍ، فحاصروا المدينة حتّى نفدَ الزاد والعتاد؛ وفي شهر محرم الحرام، والشمس في كبد السماء، اجتاحوا الأسوار، وأعملوا السيوف في الرقاب، فذبحوا الشيوخ والأطفال، وبقروا بطون الحوامل، وأحرقوا الكتب، وهدّموا المنائر، وسال الدم والحبر في النهر حتّى اصطبغت مياهُه بهما. ووقفتُ وحدي على ضفة النهر باكياً، ولم أدرِ يومها هل كنتُ أبكي على بغداد أم على حبيبتي.
وشربت كبريائي كالعلقم، ورجعتُ منهوكاً إلى خيمتي البالية في الصحراء، وألقيتُ رحلي فيها، أعاقر ذكرياتي الأليمة، وكلّما لاح لي سراب، سللتُ سيفي المثلوم وهمزتُ جوادي المُنهك وجريتُ خلفه لعلَّه سراب حبيبتي، بَيْد أنَّي أعود دوماً مضرجاً بالخيبة والحسرة.*
ـــــــــــــــــــــــــــــ
•· من مجموعة قصصية عنوانها "دوائر الأحزان" صدرت طبعتها الثانية عن دار الثقافة في الدار البيضاء 2009. وكانت طبعتها الأولى قد صدرت عن دار ميريت بالقاهرة.
الأسطوريّ في الأدب
(دوائر الأحزان) لعلي القاسمي نموذجاً
بقلم: إسلام أبو شكير
رغم الاعتراف الكبير الذي حظي به (النقد الأسطوريّ) بوصفه واحداً من الاتجاهات النقديّة الكبرى في العصر الحديث، إلا أنّ حضوره على مستوى الثقافة العربية ظلّ محدوداً، ويكاد يقتصر على مجرّد الاستعراض المدرسيّ لأهمّ ممثليه ولبعض مقولاته.. أمّا النصوص الأدبيّة فلم يخضع منها للمنهج النقديّ هذا إلا القليل، بل إنّ الكثير من هذا القليل كان ضحية فهمٍ مشوّشٍ أو سطحيّ لهذا المنهج..
والواقع أنّ المساحة التي يتحرك هذا المنهج ضمن حدودها أوسع من مجرد توظيف الأسطورة في الأدب، أو إعادة إنتاج الأسطورة فيه، الأمر الذي تكاد معظم الدراسات النقدية العربية تندرج تحت عنوانه.
إن توظيف الأسطورة أو إعادة إنتاجها في الأدب عمليةٌ إجرائية فنية بحتة، والنقد الأسطوري لا يبدو معنياً بها إلا ضمن حدودٍ ضيقة، ولأغراضٍ خاصّة. إن اهتمامه موجّهٌ أساساً إلى المنطق الأسطوري، أو إلى ما يسميه نورثروب فراي (بالميثات).. والميثة ترتبط بما أسماه كارل يونغ (باللاوعي الجمعي) الذي يتألف من (أنماطٍ أوليّة) لها حضورها في نشاط الإنسان منذ وجد الإنسان.. إن هذه الأنماط تعبر عن نفسها في صيغٍ مختلفةٍ منها الأدب، ويتجلى ذلك من خلال ميثاتٍ لا يخلو نصّ أدبي منها، فالأدب من وجهة النظر هذه أسطوريّ في كلّ فنونه وأشكاله ومدارسه واتجاهاته، ومهمّة الناقد أن يقف على هذه الميثات التي تحكمه..
وبالطبع فإن هذا لا يعني أن الأدب أسطورة، مع أن بينهما تقاطعاتٍ لا حصر لها. إن ما يجعل الأدب مختلفاً عن الأسطورة هو ما يسميه فراي (الانزياح)، إذ إن كلّ نص أدبي ـ وإن كان ينتمي إلى عالم الأسطورة بميثاته ـ، ينطوي على شيءٍ من الاختلاف يميّزه عن الأصل، فهو أسطورةٌ منزاحةٌ عن الأسطورة الأوليّة، وهنا تكمن مهمةٌ أخرى للناقد، هي الكشف عن هذا الانزياح (طبيعتِه ومقدارِه ودلالاته..).
إنّ ما يعنينا من هذا كله أنّ النقد العربي الحديث أهمل هذا الجانب في (النقد الأسطوري) على أهميته، ورغم ما ينطوي عليه من إمكاناتٍ غير قليلةٍ في الوصول إلى حقائقَ جديدةٍ تتعلق بالناتج الأدبي العربيّ. لقد ضيّع هذا النقد على نفسه ـ فيما نرى ـ فرصةً قد لا تعوّض لاستنطاق النصوص الأدبيّة، وقراءتها قراءةً جديدةً، ربّما كانت أقرب إلى طبيعة ثقافتنا من قراءاتٍ أخرى شديدة الاتصال ببيئتها الغربيّة، لاسيّما أن هذه الثقافة العربيّة غنيةٌ بأساطيرها، هذا إذا عدنا بها إلى مراحل من التاريخ أكثر قدماً، فربطناها بجذورها البابلية والأشورية والفينيقية والفرعونية..
وعلى أية حال فهذا ما كان من أمر النقد، ونتمنى ألا يكون تناولنا له أشدّ اختصاراً مما ينبغي.. أما الأدب بوصفه إنتاجاً أو إبداعاً فقد أشرنا إلى أن الأسطورة كامنةٌ فيه حكماً، وإلى أنه أسطوريّ في جميع حالاته، وهو عند التحليل الأخير إنما يتألف من مجموعة (ميثاتٍ) هي هي منذ كان الأدب..
وأسطوريةُ الأدب متحققةٌ فيه سواءٌ أكانت الأسطورة موضوعاً له أم لا.. وسواءٌ أكان صاحب النصّ الأدبي قد اقترب من عالم الأسطورة عن وعيٍ مسبقٍ وتخطيطٍ مقصود أم جاء ذلك على نحوٍ عفويّ ودون قصديةٍ واضحةٍ منه..
إنّ مجرد استخدام الأسطورة في النص الأدبيّ لا يمثل سوى قشرةٍ خارجيةٍ لبنية الأدب الأسطوريّة. ولقد ذهب الظنّ بالعديد من النقاد العرب إلى أنّ حضور الأسطورة في الأدب يتوقّف عند هذا الحدّ، وكأن الأمر يتعلق بمجموعة رموزٍ أو حكاياتٍ أو وقائع ليس غير.. في حين أنه مرتبطٌ ببنيةٍ عميقةٍ تتحكم بها (ميثاتٌ) شديدة الفاعلية والتأثير..
هذه الحقائق كلها أثارتها قراءتنا لنص (دوائر الأحزان) لصاحبه الدكتور علي القاسمي.. وهو نصّ يمكن أن يقرأ قراءتين مختلفتين: قراءةً ترى فيه (نصاً أسطورياً)، ولذلك تسعى إلى الكشف عن الميثات التي انحدر منها، وأخرى ترى فيه نصاً (ذا موضوعٍ أسطوريّ)، ولذلك تسعى إلى البحث في دلالات الرموز الأسطورية فيه، وعلاقتها بالواقع.
ولأنّ الوقت قد لا يسعفنا، ولأنّ المقام لا يحتمل الإطالة، ولأنّ لدينا الرغبة في أن نقدم نموذجاً لنمطٍ من الدراسات نزعم أنه لم يحظ بما ينبغي من الاهتمام، فسنقتصر على القراءة الأولى التي تتناول (أسطوريّة النص)، وتهمل (أسطوريّة موضوعه ورموزه).
˜
يتحدّث (نورثروب فراي) عن قوة العلاقة بين الطبيعة والأسطورة، باعتبار أن الطبيعة تمثل المرجعية الأساسية التي انبثقت منها الأسطورة. ولما كانت دورة الطبيعة السنوية تنقسم إلى أربعة فصول، فقد كان لكل فصلٍ (ميثةٌ) خاصةٌ به.. ومن ميثة الربيع ظهرت (الكوميديا)، ومن ميثة الصيف ظهرت (الرومانس)، ومن ميثة الخريف ظهرت (التراجيديا)، ومن ميثة الشتاء ظهرت (السخرية والهجاء). أما العالم فينقسم من وجهة النظر هذه إلى ثلاث طبقات: طبقة الملائكة، وطبقة البشر، وطبقة الشياطين. وإن أية حركةٍ هابطةٍ بين هذه الطبقات هي (تراجيديا)، فالعظيم عندما يسقط لا يثير سوى الشفقة والألم. في حين أنّ الصعود يعني مزيداً من الاقتراب نحو (الكوميديا)، لأن التافه الذي يحاول السموّ بنفسه لا يثير سوى الضحك. فنحن إذاً أمام حدّين متباعدين كل التباعد.. (الكوميديا) و(التراجيديا).. وبينهما تقع (الرومانس) التي تجمع بين العالمين، وإن كانت تميل إلى العالم العلوي (التراجيدي / الملائكي) نظراً لطبيعة أبطالها الذين ينتمون إلى عالم البشر، ويسعون رغم ذلك إلى التشبه بالآلهة.. كما تقع بينهما أيضاً (السخرية) التي هي أقرب إلى العالم السفلي (الكوميدي / الشيطاني)، لأن فيها تصويراً للطبائع السلبية والغرائز الوضيعة التي تصم عالم الشياطين عموماً.
أما فيما يتصل بنص الدكتور (القاسمي) فمحوره الصراع الذي تعيشه الشخصيّة الرئيسة بين ما هو واقعٌ وما هو مأمول.. الواقع تعبر عنه كلمات البطل في مطلع النص: (إنهم يحاصرونني الآن من كل جانب). والمأمول تمثله الحبيبة التي ظل البطل يعيش حالة البحث عنها، ولكن دون جدوى.. هذه الحركة المتوترة بين الواقع والمأمول لا نرى غضاضةٌ في النظر إليها على أنها حركةٌ بين (التراجيديا) و(الكوميديا). الواقع هو العالم الشيطاني (حصار، وحرائق، وانقضاض، وتقطيع أوصال..)، والمأمول هو العالم الملائكيّ (الحبيبة، تموز، الحسين، جلجامش وأنكيدو، إبراهيم..).
لقد كان ثمة سقوطٌ (تراجيدي) مدوٍّ عاشه البطل. إنه قادمٌ من (عالم الربيع / الملائكة)، حيث الصفاء المطلق، والعدالة المطلقة، والحرية المطلقة، نحو (عالم الخريف / الشياطين) حيث الظلام والخراب والموت.. هنا يكمن الأسطوريّ في هذا النص.. كما لو أننا أمام تنويعٍ جديدٍ على أسطورةٍ أوليةٍ تتمتع بصفة الثبات والديمومة.. إنها الحركةُ بين قطبي (الربيع والخريف) صعوداً أو هبوطاً.. مع ما يترافق معها من (كوميدياتٍ) أو (تراجيدياتٍ) أو حالات أخرى تقع في المنطقة الوسطى.
غير أن الأمر لا يقتصر على هذا الجانب في النصّ، فالحركة لم تكن نحو الأسفل فقط، لأن النصّ ينطوي على حركةٍ أخرى فيها صعودٌ نحو الأعلى. ذلك أن (عالم الربيع) ـ وإن كان قد تحول إلى ماضٍ ـ ما زال محتفظاً بوجوده، وقد استطاع البطل أن ينتقل به من بعده (الماضويّ) إلى بعدٍ جديدٍ (مستقبليّ) أو (رؤيويّ).. هنا بدأت الحركة الثانية (حركة الصعود نحو الأعلى).. إلا أنّ هذه الحركة الجديدة تختلف عن سابقتها، فهي ليست منجزةً، بل إنها لم تصبح حركةً بعدُ.. إنّها (مشروعُ حركةٍ.. حلمٌ بها.. تطلعٌ إليها.. سعيٌ نحوها..)..
والصعود كما يرى فراي (كوميديا)، إلا أنها في هذا النص لم تكن كذلك. فالكوميديا تتولد من حالة الاصطناع أو الادّعاء.. منتمٍ إلى العالم السفلي يتطلّع نحو العالم العلويّ.. هنا تبدأ الكوميديا.. أما البطل في النص الذي بين أيدينا فانتماؤه الأصلي كان إلى العالم العلوي، وما حركته الصاعدة إلا محاولةٌ لاسترداد هذا الانتماء المفقود الذي سُلِب منه في عمليةٍ تراجيديةٍ فيها الكثيرُ من العنف والإكراه.
في هذا النص إذاً نوعٌ من (الانزياح) الذي أشرنا إليه من قبل، فالنموذج الأسطوري الذي حدد (فراي) معالمه يشير إلى أن الصعود يترافق دائماً مع (الكوميديا)، ثم جاء هذا النص لينحرف بهذا النموذج عن مساره هذا، ويؤكد أن الصعود قد يكون تراجيدياً أيضاً.
لقد كان ذلك مثالاً على (انزياحٍ) حقيقي تلمسناه في النص. إلا أن ثمة (انزياحاً) من نوعٍ آخر ربما كان الكاتب قد قصد إليه قصداً. لكن سطوة الأصل كانت أقوى منه، ففعلت فعلها، ووقفت في مواجهة تلك القصدية، فأبطلتها، وعادت بالأسطورة إلى مسارها الحقيقي.
إن الأمر هنا يتعلق بصورة الأنثى. والأنثى في الأسطورة غالباً ما كانت مصدر الشرور والآثام. ويبدو أن الكاتب أراد أن ينزاح بهذه الصورة عن شكلها هذا، فعمد إلى شخصيّة الحبيبة، وحاول أن يجري لها عملية تطهيرٍ مطلق، لتكون مثالاً للبراءة الخالصة.. للجمال الخالص.. للفضيلة الخالصة.. وممّا لاشكّ فيه أنه نجح في ذلك تماماً.. إلا أنه ـ من حيث لا يدري ـ خرج بهذه الأنثى من حيز الواقع إلى حيّز السراب. هنا تساوت الحالتان في الدلالة. فامرأة آثمةٌ في الواقع تساوي امرأةً طاهرةً في السراب. ولو عدنا إلى النصّ نبحث عن أنثى واقعيةٍ لما وجدناها تخرج في ملامحها كثيراً عن الصورة الأصلية لها في الأسطورة (الحية التي تسرق عشبة الحياة من جلجامش.. عرائس النهر اللواتي كنّ يقهقهن سخريةً من البطل وبحثه اليائس.. النساء اللواتي كنّ يرقصن مع الذئاب ويغنين مع البوم..).
لقد كان منطق الأسطورة أقوى وأبعد أثراً من مقاصد الكاتب الواعية، ففرض نموذجه على النصّ فرضاً، وهذا ما كنّا نحاول الوقوف عليه، أمّا (عشتار وتموز وجلجامش وأنكيدو وآشور وبابل...) فقد كانت توظيفاتٍ لنصوصٍ أسطوريةٍ، أي أنّها مجرد عناصر فنيةٍ تقنيةٍ صلتُها أقوى ما تكون بالبنية السطحية للنصّ، أما العميقُ فيه فهو الأسطوريّ الحقيقيّ.. إنه مجموعةُ (الميثات) التي تحركت في الداخل، وكان لها الدور الأكبر في تشكيل دلالاته ومقولاته..
التعليقات
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|