أصدقاء الدكتور علي القاسمي

الدكتورة نزهة بوعياد وحضارة الحيرة


قراءة في كتابين جديدين
الدكتورة نزهة بوعياد وحضارة الحيرة
بقلم : الدكتور علي القاسمي



” تاريخ الأمة الحقيقي إنما هو تاريخ تمدُّنها وحضارتها، وليس تاريخ حروبها وفتوحها.”
جرجي زيدان في كتابه ” تاريخ التمدُّن الإسلامي”
لا يجد الباحث المؤرِّخ إلا النزر اليسير من الإشارات إلى حضارة الحيرة التي ازدهرت في العصر الجاهلي؛ بل حتى العصر الجاهلي نفسه لا يلقى إلا القليل من الاهتمام، فنحن لا نعرف عنه إلا الشعراء الذين برزوا في أواخره، خاصة أصحاب المعلقات. ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن بزوغ شمس الإسلام الساطعة بوصفه حركة إنسانية عالمية، غطت على القناديل الثقافية التي سبقته في المنطقة العربية. وحتى دراسات الباحثين في عصر الورق للشعر الجاهلي وشرحهم للمعلقات، كان الهدف منها بصوة غير مباشرة، فهم معاني غريب القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. إضافة إلى أن منهجية التدوين التاريخي التي طوّرها الأخباريون العرب بفضل مناهج الجرح والتعديل في علم الحديث، قد نضجت في وقت بُعد فيه العهد بحضارة الحيرة وانشغل المؤرخون المسلمون بتدوين تاريخ الممالك الإسلامية الكثيرة العدد المترامية الأطراف.
وقد سعدتُ مؤخراً بالاطلاع على كتابيْن قيّميْن حول حضارة الحيرة للأديبة الباحثة الدكتورة نزهة بوعياد، أستاذة التعليم العالي بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء ورئيسة شعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بعين الشق، وهما:
الكتاب الأول، ديوان شعر في ملوك المناذرة: جمع وتصنيف وإحصاء
الكتاب الثاني، إمارة المناذرة: أول مُلْك عربي بالحيرة، دراسة تاريخية.
وهما من منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بعين الشق. وللباحثة كتاب ثالث يتعلّق بحضارة الحيرة كذلك هو:
ـ الخطاب الشعري في بلاط المناذرة: دراسة تحليلية لأهم الأغراض الشعرية.
وإذا كان الكتاب الثالث ينتمي من حيث الأساس إلى مجال النقد الأدبي، فإن الكتابين الأولين يتعلقان بصورة مباشرة بحضارة الحيرة. ويسعدني أن أعرّف بهذين الكتابين باختصار:
الكتاب الأول
ديوان شعر في ملوك المناذرة:
تكمن أهمِّية هذا الديوان الشعري الذي صنعته الأديبة الباحثة المقتدرة الدكتورة بوعياد في كونه المصدر الأساس لدراستها التاريخية في كتابها الثاني ” إمارة المناذرة “. فتدوين التاريخ العلمي يحتاج إلى وثائق مكتوبة . وهذه الوثائق المكتوبة لم تكن متوافرة خلال العصر الجاهلي بسبب انتشار الأمية بين العرب. وتعود أسباب هذه الأمية إلى أن “الكتابة الألفبائية” التي يمثّل فيها كلُّ رمزٍ مكتوبٍ صوتاً أساسياً من أصوات اللغة، لم تكُن قد اختُرعت إلا قبل فترة قصيرة من ذلك العهد؛ فقد توصل إليها العقل الفينيقي حوالي 1050 ق.م، فنال الفينيقيون ” مجد اختراع الكتابة الألفبائية” كما يقول المؤرخ الروماني بليني، اعتماداً على ” الكتابة المسمارية” التي ابتكرها السومريون قبل سنة 3000 ق.م. ؛ وكانت لم تكتمل أدوات الكتابة الألفبائية بعد؛ كما أن الورق لم يُخترَع بعد، فكانوا يكتبون على الورق البردي في مصر، وهو قليل الانتشار، أو يكتبون على جلود الحيوانات في جزيرة العرب بصعوبات كبيرة.
بيدَ أن العرب كانوا يعوِّضون عن أمّيتهم بقدرتهم على الحفظ، خاصة الشعر الذي يسهل حفظه بفضل أوزانه وقوافيه. أضف إلى ذلك، فإن لكل شاعر مشهور راويةٌ أو أكثر من أبناء قبيلته، يرافقه في حلّه وترحاله، ويحفظ عنه كل ما يوحي به إليه جنُّ عبقر.
ونظراً لندرة الوثائق التاريخية عن حضارة الحيرة التي ازدهرت مدّة تناهز ستمئة عام وتعاقب على إمارتها ما يقرب من خمسة وعشرين ملكاً، فإن الدكتورة بوعياد اختارت أن تتخذ من الشعر الذي قيل في ملوك المناذرة، مصدراً لدراستها التاريخية حول ازدهار الحيرة الثقافي، والاقتصادي، والعمراني، وتفاعلها الحضاري مع غيرها من الدول في المنطقة، والصراعات السياسية التي كانت تجتاحها. ولكي تكون مراجعها موثوقة متكاملة، قامت بصنع هذا الديوان المؤلّف من جميع القصائد التي قيلت في ملوك المناذرة.
يشير الأستاذ الأديب الدكتور محمد بلاجي في مقدمته التي كتبها لهذا الديوان، إلى أن ابن سلام الجمحي قد ذكر في كتابه ” طبقات فحول الشعراء” أن النعمان بن المنذر كان يحتفظ في قصره بديوان يضمُّ قصائد فحول الشعراء في مدحه وأهل بيته. ولكن هذا الديوان مفقود لم يصلنا. ولهذا فقد صنعت الدكتورة بوعياد هذا الديوان من جديد.
ولفظ ” ديوان الشعر ” في اللغة العربية مشترك لفظي يدل إما على مجموعة قصائد لشاعر واحد مثل ” ديوان المتنبي”،وإما على مجموعة قصائد تشترك في موضوعة واحدة، مثل ” ديوان الحماسة” لأبي تمام. وصناعة الديوان بالمعنى الثاني ، يتطلب جهداً في جمع القصائد من مصادر شتى متفرقة زمانياً ومكانياً. وإضافة إلى ذلك اضطلعت الدكتورة بوعياد بما يأتي:
1ـ ترتيب الأشعار ترتيبا تاريخياً من الأقدم إلى الأحدث،
2ـ ضبط الأشعار بالشكل التام،
3ـ تحديد غرض كل نص شعري، ووزنه العروضي،
4ـ شرح المفردات والعبارات في الهوامش،
5ـ إعداد جداول إحصائية للأشعار حسب أغراضها: المدح، أو الهجاء، أو غيرهما. وتضم هذه الجداول :
أـ جدول بأسماء الملوك اللخميين وزوجاتهم الذين قيلت فيهم الأشعار، وأسماء الشعراء من أصحاب الدواوين وممن لا دواوين لهم.
ب ـ جدول لشعر المدح الذي قيل في الملوك اللخميين وفيه أسماء الملوك، وأسماء الشعراء وقصائد المدح، وقصائد المدح والاستعطاف.
ج ـ جدول لشعر المدح بكل أنواعه: المدح الخالص، والمدح والاستعطاف، والمدح والاعتذار، والمدح والقول في مرض، والمدح والتهديد، والمدح والتحريض. ومجموع أبيات القصائد في كل نوع، والمجموع الكلي هو 692 بيتاً..
د ـ جدول لشعر الهجاء بكل أنواعه؛ ومجموع أبياته 355 بيتاً.
هـ ـ جداول لكل ما قيل من شعر في الأغراض المختلفة، وتضم اسماء الملوك، وأسماء الشعراء، والغرض كالاعتذار والاستعطاف، والتحريض، والرثاء، والتحذير والإنذار، والتحدي، والوصف والتشبيب؛ ومجموع الأبيات 471 بيتاً.
ثم جدول عام يبين مجموع الأبيات في جميع الأغراض يبلغ 1518 بيتاً.
ويختتم الكتاب الذي يقع في 145 صفحة من القطع الكبير، بفهارس متعدِّدة مثل : فهرست الشعراء، وفهرست المصادر، وفهرست الموضوعات.
وقد يتساءل المرء عن دواعي هذه التفاصيل، وتكمن الإجابة في دقة الباحثة وشموليتها، وكذلك في كون هذا البحث في الأصل أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في الآداب.
ومن هذه الجداول يتبيّن لنا أن الأشعار قيلت في الملوك التالية أسماؤهم:
المنذر بن ماء السماء، المنذر بن المنذر بن ماء السماء ( الملقب بالأسود)، عمرو بن المنذر بن ماء السماء (عمرو بن هند)، قابوس بن المنذر، النعمان بن المنذر.
أما الشعراء أصحاب القصائد فهم (بالترتيب الألفبائي):
الأعشى ميمون، أوس بن حجر، الحارث بن حلزة، الحارث بن ظالم، حجر بن خالد، الربيع بن زياد، الرهال العجلي، زهير بن أبي سلمى، سويد بن الخذاق الشني، طرفة بن العبد، عبد قيس بن الخفاف التميمي، عبيد بن الأبرص، عبيد الله بن قيس الرقيات، عدي بن زيد العبادي، علقمة الفحل، عمرو بن ثعلبة الطائي، عمرو بن كلثوم، عمرو بن ملقط الطائي، قيس بن جروة، لبيد بن ربيعة،مالك بن نويرة، المتلمس الضبعي، المثقب العبدي، المرقش الأصغر، الممزق العبدي، المنخل اليشكري، النابغة الذبياني، يزيد بن الخذاق.
وهكذا نرى أن هؤلاء الشعراء الثمانية والعشرين يضمون فحول الشعر الجاهلي.
ولكي نأخذ فكرة تقريبية عن صنعة هذا الديوان، نضرب مثلاً من أول قصيدة ومن آخر قصيدة فيه . ففي الصفحة 11 من الكتاب، نجد أول قصيدة وتعالجها الباحثة بالشكل التالي:
” َـ ما قيل من قصائد في المدح الخالص :
1ـ مدح الأسود بن المنذر(3):
+قال الأعشى الكبير يمدح الأسود بن المنذر في قصيدة مطلعها (4): [ الخفيف] طـ ما بُكاءُ الكبيرِ بالأطلالِ وسُؤالِي، فَهَلْ ترُدُّ سؤالي؟
والتي يمكن تقسيمها على الشكل التالي:
من البيت 1 ـ 17 : الوقوف على الأطلال وتذكُّر الحبيبة.
من البيت 18 ـ 36: وصف الناقة وهي في طريقها إلى الأسود.
من البيت 37ـ 75: مدح الأسود بن المنذر.
37ـ لا تَشَكّْيْ إليَّ وانتجِعي الأسْـــ ــوَدَ أهلَ النَّدى، وأهلَ الفَعالِ (5)
38ـ فرعُ نبعٍ يهتزُّ في غُصُنِ المجْـ ــدِ غزيرُ النَّدى شديدُ المِحالِ (6)
… إلخ. ”
أما آخر قصيدة في الديوان فهي :
” ما قيل في المتجرِّدة (723)
ـ قال المنخل اليشكري في قصيدة مطلعها (724) [ مجزوء الكامل] إن كنتِ عاذلتي فسيري نحو العِراقِ ولا تحوري
والتي يمكن تقسيمها على الشكل التالي:
ـ من البيت 1 ـ 12 : يخاطب الشاعر عائلته ويريدها أن ترافقه إلى العراق، وأن لا تسأل عن معظم ما عنده من مال بل تسأل عن كرمه وجوده وحسن أخلاقه وقوته وقوة فوارس قومه الذين تقر عينه بهم، كما تقر عينه بالنساء اللائي يعاتبهن ويجري في الهوى معهن.
ـ من البيت13 ـ 24: وصفه لمبادلته الحب مع إحداهن، ووصفه لحال سكره وصحوه، وتشبيبه بهند.
13 ولقد دخلتُ على الفتا ةِ الخِدرَ في اليومِ المطيرِ
14 الكاعب الحسناء ترْ فُلُ في الدَّمَقْسِ وفي الحريرِ(725)..
15 فدفعتُها فتدافَعَـــتْ مَشْيَ القَطــاةِ إلى الغديـــرِ ( 726)
16 ولَـثِمتُها فتنفَّســـتْ كَتَنَفُـــسِ الظَّبيِ البَهـــيــرِ (727)
….إلخ.
خاتمة:
وإذا نظرنا في هذين النموذجين والتعليقات عليهما في الهوامش ندرك بوضوح حجم الجهود التي بذلتها الباحثة الكريمة لجمع أشعار الديوان من المصادر والمراجع المختلفة، ودقتها في التعريف بالأعلام، وشرح المفردات. وهي تستحق بذلك الشكر من الحيرة وأهلها وجميع محبي الأدب العربي وتاريخ الحضارة الإنسانية.
الكتاب الثاني
إمارة المناذرة أول مُلك عربي بالحيرة، دراسة تاريخية
يقع هذا الكتاب في 145 صفحة من القطع المتوسط. وإذا كان صغيراً في حجمه، فإنه كبير في قيمته وأهميته، فهو يسلط الضوء على فترة حوالي500 سنة من تاريخنا العربي قبل الإسلام، لم تنل حظها من اهتمام المؤرخين.
صورة الغلاف:
أول ما يلفت نظرنا في هذا الكتاب غلافه، فهو يضمُّ لوحةً منمنمةً فنية من القرن الخامس عشر الميلادي، وردت في مخطوطة ” خمسة ” لنظامي بريشة بهزاد، تصوّر لنا ـ بمنظور عجيب وحركية آسرة وألوان خلابة ـ بناء قصر ” الخورنق ” في مدينة الحيرة الذي يقال إنه استغرق عشرين عاماً بأمر من النعمان بن امرؤ القيس ملك الحيرة (390ـ 418م ) الذي بلغت الإمارة في عهده شأوا عالياً من السمو الثقافي، والرفاه الاقتصادي، والتقدم العمراني.
لقد نال هذا القصر شهرة عالمية، وذاع خبره في كثير من البلاد، حتى أُطلِق اسمه على كثير من المعابد والقصور الفخمة المحصَّنة. كنتُ، ذات مرة، مع بعض أعضاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة في زيارة للكرنك بالأقصر في مصر، فسألني عالم اللغة الدكتور تمام حسان ما إذا كنتُ أعرف أصل تسمية ” الكرنك”؛ وعندما أجبت بالنفي، قال إنها ” الخورنق” من العراق.
التقديم والمقدمة:
في تقديمه للكتاب، أشار المؤرخ الدكتور محمد رزوق إلى النقص الموجود في المصادر التاريخية حول إمارة الحيرة، ولهذا فإن المؤلفة استثمرت المصادر الأدبية لتسدّ ” ثغرة كبيرة في تاريخنا العربي”، وتمكنت من إعطائنا صورة محددة عن هذه الإمارة ” تختلف عن الصورة التي عرفناها سابقاً”.
وفي مقدمتها، أكدت المؤلّفة ما ورد في التقديم بقولها إن صناعتها لديوان الأشعار التي قيلت في المناذرة اقنعتها ” بأن الشعر هو وثيقة جاهلية لن أقول عنها فنية فقط، بل وثيقة تاريخية أيضاً أرَّخت وتؤرخ لماضٍ عريق لا يمكن تجاهله أو تناسيه “، وأن عنايتها بالشعر العربي القديم هو الدافع الأول وراء الدراسة التاريخية لإمارة الحيرة.
مدينة الحيرة ومكانتها في العراق:
في القسم الأول من الكتاب، تتناول المؤلِّفة الفاضلة مدينة الحيرة من حيث تسميتها، وتأسيسها، وموقعها وتركيبتها السكانية. فتشير إلى أن الحيرة، لغةً، تعني التردُّد ، كما تعني الإقامة في المكان والتجمّع فيه. ويُطلق لفظ ” الحيرة” كذلك على بعض التجمعات السكانية في الوطن العربي، مثل بلدة “الحيرة” الواقعة بالقرب من مدينة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وتقع ” الحيرة ” العراقية على بعد ثلاثة أميال من مدينة الكوفة، وتمرُّ بها فروع من نهر الفرات، ما أكسب هواءَها رقة، وماءَها عذوبة، وأرضها خصوبة، فكثرت فيها النباتات والبساتين. ويقول الأخباريون إن نبوخذ نصر ملك بابل (605ـ 562 ق.م.) باني الجنائن المعلّقة فيها، هو الذي أسس الحيرة، وأن المناذرة، الذين ينتمون إلى قبيلة لخم إحدى قبائل تنوخ، هاجروا إليها من جنوبي اليمن، بدءً من نهاية القرن الميلادي الأول، بسبب انهيارات سد مأرب، وأن الملك الحميري تبع أبو كرب ( ت 430م) ترك فيها بعض جيشه في إحدى غزواته.
وأهل الحيرة خليط من القبائل البدوية العربية التي كانت تلتمس أسباب الحياة، لها ولإبلها وماشيتها، في المناطق الخصبة. وهكذا فالحيرة ضمت قبائل متعدد من القحطانية والعدنانية مثل لخم، وأزد، وحمير، وطي، وكلب، وتميم. وكانت تلك القبائل تعتنق نِحلاً دينية كثيرة: فمنهم الوثنيون ، والصابئة، والمجوس، واليهود، والنصارى، النسطوريون واليعاقبة، وغيرهم.
وكان لانتشار النصرانية في الحيرة أثرٌ في إلمام أهلها بالآرامية التي كانت غالبة في دراسات الكنيسة اللاهوتية وما يتصل بها من العلوم، التي كانت تكتب بالخط النبطي المتأخرالذي تولَّد منه الخط العربي قبل الإسلام.
ملوك الحيرة:
ومن الناحية السياسية، كانت الحيرة عاصمة مملكة المناذرة، نسبة إلى أسماء ملوكها. وعندما استطاع أردشير بن بابك، سنة 230م، تكوين الدولة الساسانية وإعادة توحيد الإمبراطورية الفارسية بعد تقسيمها إلى دويلات من قبل الإسكندر المقدوني، أخذ يبسط سلطانه على الكيانات السياسية المجاورة، ومنها مملكة المناذرة التي أخذت تحرس التجارة الفارسية، وتحفظ حدودها، فنالت استقلالا ذاتياً.
تخصّص المؤلِّفة الفاضلة القسم الثاني من كتابها القيم لملوك المناذرة: قوائم اسمائهم، وسني توليهم الحكم، وعلاقاتهم بالقبائل العربية والإمارات المجاورة لهم، وأثرهم في حياة العرب الجاهليين أدبياً وثقافياً.
ويختلف الأخباريون في عدد ملوك الحيرة ومدَّة حكمهم، فمنهم من يعدّهم خمسة وعشرين ملكاً حكموا في مدة ستمئة وثلاث وعشرين سنة وأحد عشر شهرا؛ ومنهم من ينقصهم لعشرين ملكاً حكموا مدة خمسمئة واثنتين وعشرين سنة وثمانية أشهر. وقامت الباحثة الفاضلة بإعداد التشجيرات المختلفة لحصر أسماء أولئك الملوك طبقاً لرواية كلِّ أخباري: الطبري، الدنيوري، اليعقوبي، المسعودي، ابن رشيق القيرواني. وتعرِّف بكلِّ ملك يرد اسمه في إحدى الشجرات. وتنتهي إلى ما يأتي:
” حياة الملوك اللخميين في الحيرة يمكن النظر إليها انطلاقاً من طورين:
الأول، بدأ مع عمرو بن عدي إلى تولية ملوك كندة الإمارة في الحيرة.
والثاني، بدأ من استرجاع المنذر بن ماء السماء الحيرة من أيدي كندة إلى تولية آخر ملوكهم الأقوياء النعمان بن المنذر.
أما ما بعد هذا الطور الثاني، فقد تولى الفرس مهمة تعيين الحكام الفارسيين لإدارة حكم الحيرة. وفي هذه المرحلة ذكر بعض الأخباريين تولية المنذر بن النعمان بن المنذر لمدة ثمانية أشهر، وكان آخر ملوك الأسرة اللخمية حيث انقرض أمرهم مع زوال ملك فارس بقدوم الجيش الإسلامي بزعامة خالد بن الوليد وفتح الحيرة.”
الحركة الثقافية في الحيرة:
ازدهرت حركة ثقافية أدبية في الحيرة وصار لها إشعاع حضاري على ما حولها من البلاد. وتضطلع الدكتورة بوعياد بتحليلٍ علميٍّ موضوعيٍّ لأسباب ذلك، فتردُّه إلى أن مملكة المناذرة استفادت من علاقاتها الوثيقة بالفرس وبالرومان معاً. فسياسياً كانت مرتبطة بالإمبراطورية الفارسية، ودينياً كانت تدين بالنصرانية التي يتبناها البيزنطينون . كما انها اشتركت في حروب ضد البيزنطينيين، وأستفادت من الاحتكاك بهم عسكرياً وتجاريا، في تعلُّم اللغات وفي اكتساب المعارف في العمارة والطب وترجمة بعض العلوم الإغريقية. أضف إلى ذلك التنافس بين إمارة المناذرة في العراق وإمارة الغساسنة في الشام، ورغبتهما في التطوُّر والتفوّق.
علاقة الحيرة بالقبائل العربية:
بعد تحليل عميق للبيئة العربية في شمال جزيرة العرب، تجد الباحثة الفاضلة نوعين من البيئة:
ـ الأولى، بيئة بدوية معظم أهلها من القبائل البدوية التي كانت تتنقَّل طلباً للماء والكلأ، وتعيش على تقاليد الغزو والنهب فيما بينها، ولا تخضع إلا لتقاليد القبيلة.
ـ الثانية، بيئة مدنية تخضع لإمارة مستقلة، مثل إمارة المناذرة في العراق، وإمارة الغساسة في الشام.
فعلاقة إمارة الحيرة بالبيئة الأولى يمكن تلخيصها في قيام الإمارة بدور الوسيط بين تلك القبائل المتناحرة أحياناً، ودور المشرّع للمواثيق والعهود بينها، ودور المدافع عن ممتلكاته وحدوده.
المناذرة والغساسنة:
أما العلاقة بالبيئة الثانية ، أي العلاقة بين المناذرة والغساسنة، فكانت تخضع لمصالح الدولتين العظميين: الساسانيين والبيزنطيين. وتقول المؤلّفة الفاضلة: ” فلما كان المناذرة الدرع الواقي للفرس والغساسنة المانع الحاجز للروم، كان طبيعياً أن تنشأ مثل هذه العلاقة القائمة على المناوشات والحروب.”
وبطريقة غير مباشرة تنبّه المؤلّفة الفاضلة إلى مقولة ” ما أشبه اليوم بالبارحة”. فدولة المناذرة ودولة الغساسنة دولتان عربيتان، فالأولى يعود أصلها إلى لخم اليمن، والثانية يعود أصلها إلى أزد اليمن. ولكن هاتيْن الإمارتيْن دخلتا في صراعات دامية وحروب طاحنة دامت قروناً عديدة، ليست في مصلحتهما، ولكن في خدمة أسيادهما من الفرس والبيزنطينيين .
وتسرد المؤلفة الفاضلة بأسلوب شائق ماتع، بعض تفاصيل هذه الصراعات، التي تدمي القلوب أسفاً وحسرة على الأرواح العربية التي أزهقت من أجل مصلحة المستعمِر.
أثر المناذرة في الحياة العربية الثقافية:
ويتناول القسم الأخير من الكتاب تأثير الحيرة في الحياة العربية الثقافية والأدبية، فتلخصه المؤلِّفة الفاضلة بقولها:
” كانت إمارة الحيرة أقوى الإمارات العربية، وأطولها عمراً، وأكثرها استقراراً، وأبلغها تأثيراً على عرب الجاهلية، سواء على مستواها الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو العمراني، وهي مستويات تداخلت فأدت إلى نهضة أدبية كان لعرب الحيرة ولأمرائهم فيها أبلغ تأثير في إذكاء قرائح الأدباء والشعراء على وجه الخصوص؛ وهي نهضة أدبية ارتكزت على عوامل متعددة يمكن حصرها في الازدهار الاقتصادي، والعمراني، والصراع السياسي.”*
استنتاج وخاتمة:
كان التاريخ في بداياته، وحتى لدى كثير من المشتغلين في التاريخ حالياً، يقتصر على سرد الأخبار أو ذكر الوقائع أو وصف الحوادث الماضية في تسلسلها الزمني فقط. ولكن إذا أُريد للتاريخ أن يكون علماً له تطبيقاته المستقبلية، فيتوجَّب عليه أن لا يكتفي بالسرد أو الإخبار، فذلك ما كان الأخباريون العرب القدامى يفعلون. [في المغرب يُقال الإخباريون، نسبة إلى المصدر ” الإخبار” أما في المشرق فيُقال الأخباريون، نسبة إلى الاسم “الأخبار”] (1) ، بل ينبغي على المؤرّخ اليوم تحليل الحوادث والوقائع، وتفسيرها، وتعليلها، والوقوف على أسبابها ونتائجها، والبحث بعمق عن الدوافع والقيم والعوامل والقوانين الكونية والفكرية المؤثرة في حركة التاريخ والمؤدية إلى صناعة الوقائع والأحداث. فالتاريخ لم يعُد مجرَّد أخبارٍ مرتبةٍ ترتيباً زمنياً، بل وسيلة لفهم الماضي، وتدبُّر الحاضر، والتنبؤ بالمستقبل.
وهذه النظرة العلمية للتاريخ هي التي أدت إلى ظهور النظرية ” التاريخية” القائلة بأن الأمور الحاضرة والأوضاع الراهنة ناشئة عن التطوُّر التاريخي، ولا يمكن تبديل نتائجها ولا فهمها على حقيقتها إلا بدراسة تاريخها. فهنالك قوانين علمية عامَّة، كونية وفكرية، تحكم سير الوقائع التاريخية وتطوُّر الجماعات الإنسانية على مر الزمان. ونجد جذور تلك النظرية لدى العلامة ابن خلدون (ت 808ه) في ” المقدمة”. فهذه المقدمة تتضمَّن القوانين التي تتحكّم في الأحداث والوقائع التي سردها ابن خلدون في تاريخه ” العِبر” فقد تطرق في ” المقدمة” إلى قوانين التطور التي يسير عليها تحوُّل المجتمعات البشرية من البداوة إلى الحضارة، والقوانين التي تتحكم في قيام الدول وسقوطها. وما تسميته لتاريخه بـ ” العِبر”، إلا نتيجة إدراكه العميق لإمكان الاستفادة من أحداث الماضي في مستقبل حياتنا. ولهذا فهو يقول في “المقدِّمة” : ” التاريخ يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم… حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك.” (2)
يفرّق المؤرخ المفكِّر المغربي الدكتور عبد الله العروي في كتابه ” مفهوم التاريخ”، بين ” الأرّاخ ” والمؤرّخ”، فالأول يضبط التواريخ للأحداث، أما الثاني فـ ” يسجل الأحداث في حال حدوثها، يحلِّلها على حالها، يعطي أسبابها الظاهرة، يستطلع نتائجها التي لا زالت خفية، ثم يتابع الحركة مقارناً في كل لحظة المتوقَّع بما يتحقق فعلاً”(3). [ يُلاحظ أن هذا المفكِّر العبقري اشتقّ كلمة “أرّاخ” على وزن (فَعّال) الذي يُستخدَم عادة لأصحاب المهن اليدوية مثل: خدّام، شغّال، زبّال، عتّال، حمّال، نجّار، صبّاغ، إلخ. ، على حين أن “مؤرِّخ” على وزن ( مُفعِّل) الذي يُستعمل عادة لأصحاب المهن الفكرية مثل: مفكِّر، محقِّق، مُفسّر، مُحدِّث، مُنجِّم، مُحلِّل، إلخ.] إذن، لا يتوقف عمل المؤرِّخ على جمع الأخبار وغربلتها وتمحيصها، وترتيب الوقائع والأحداث ترتيباً زمينا، بل عليه أن يستنبط القوانين الكونية التي تحكّمت في تلك الأحداث والتي ستتحكم في وقوعها في المستقبل.
والقانون العلمي هو قاعدةٌ تعبِّر عن علاقاتٍ ثابتة بين ظواهر الأشياء التي نعرف أحكامها منه. ولا يتضمَّن القانون العلميُّ أحكاماً إنشائيةً تشير إلى ما يجب أن يكون، بل أحكاماً وجوديةً تشير إلى ما هو كائنٌ فعلاً. فالقانون هو قاعدة توحي بها الملاحظة وتوكّدها التجربة(4). واكتشاف القوانين العلمية التي تصف الظواهر الطبيعية وتفسِّرها، تيسِّر للإنسان فهم العالم الذي يعيش فيه، بحيث يكون مقبولاً لديه، أو معقولاً، أي يتقبّله عقله. ولاكتشاف القوانين الطبيعية غايتان: وصف الظاهرة وتفسيرها.
وللقانونِ العلميِّ خصائصُ رئيسةٌ ثلاث:
1) الشمولية، أي أنه لا يقتصر على وصف حالة جزئية أو واقعة فريدة، بل يصف جميع الحالات الجزئية التي تنتمي إلى صنف واحد.
2) الشرطية، أي أنه يُصاغ في صورة ” إذا… إذن”. بمعنى أنه يخبرنا: إذا توفرت شروط معينة، وظروف محددة، إذن سيحصل كذا وكذا.
3) التنبؤية، أي القدرة على التنبؤ بالمستقبل عند تطبيق القانون على الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية التي يشملها(5) .
وتنضوي هذه الخصائص الثلاث تحت مبدأ القوانين (مبدأ الحتمية) الذي ينصُّ على أن العِلل نفسها ينتج عنها حتماً معلولاتٌ واحدة، في الظروف نفسها، وتحت الشروط ذاتها. أي أن مبدأ القوانين يقرّ بوجود نظام كليٍّ واحد في العالم، وهو نظام دائم ثابت لا يشذّ عنه شيء في الزمان ولا في المكان.
ومعروف أن علم المستقبل ( أو المستقبليات أو الدراسات المستقبلية) الذي تطوَّر في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، والذي يختص بالمحتمل والممكن والمفضَّل في المستقبل، ينبني على خصائص القوانين العلمية وحتميتها. فهو يرمي إلى تصوُّرِ وضعٍ مستقبلي مع سيناريوهات للحالات الطارئة المحتملة، بناء على عبرة مستخلصة من الماضي، ودراسة التطورات الراهنة على المستوييْن العالمي والإقليمي، واستخدام نماذج رياضية، واستثمار الإمكانات الحاسوبية. وهذا هو الأساس في الدراسات التي يكتبها بعض كبار المؤرخين والاقتصاديين الأمريكيين عن قرب انهيار الإمبراطورية الأمريكية، بناء على القوانين المستخلصة من التاريخ حول قيام الإمبراطوريات وانهيارها (6).
لقد ألّفت الدكتورة نزهة بوعياد كتابها ” إمارة المناذرة ” في الحيرة، بالاعتماد على مبادئ علم التاريخ. فقد جمعت أخبارها من مختلف المصادر الأدبية والتاريخية والمعجمية، ومحّصتها وغربلتها، وحللت الوقائع، وبحثت عن الأسباب والعلل التي أدت إليها. فمثلاً هجرة اللخميين إلى العراق، سببها انهيار سد مأرب؛ وعلة اختيارهم الحيرة تكمن في موقعها الجغرافي وخصوبة أرضها وطيب هوائها؛ وتركيبة سكان الحيرة المتنوعة تعود إلى انتجاعها من طرف القبائل البدوية التي تبحث عن الماء والكلاْ لأنعامها؛ وسقوطها تحت التأثير السياسي للإمبراطورية الفارسية ناتج من جوارها جغرافياً لهذه الدولة القوية التي تريد من إمارة الحيرة التعامل مع القبائل البدوية وحماية حدود الدولة الفارسية؛ وازدهار الإمارة الثقافي والاقتصادي والعمراني، نابع من تشجيع امرائها للثقافة، والاستفادة ليس من العلوم الفارسية فحسب، بل كذلك من البيزنطينيين بفضل الاحتكاك بهم تجارياً وعسكرياً ولغوياً؛ وهكذا دوليك. فتحليل الوقائع وتعليلها وتفسيرها كانت من أدوات البحث الموضوعي التي استخدمتها الباحثة الفاضلة بمهارة واقتدار.
وقد تضمّنت دراستها التاريخية قوانين ونتائج يمكن أن تستفيد منها الأمة العربية في راهنها ومستقبلها. فالدكتورة نزهة بوعياد قد رضعت الوطنية وحبَّ أمتها من أسرتها العريقة ذات النضال الطويل من أجل استقلال المغرب. بيدَ أن لباقة الدكتورة ولطفها وبراعتها اللغوية جعلتها تعرض تلك القوانين باستخدام التلميح لا التصريح، واستعمال الإشارة لا العبارة، ، بحيث يدرك القارئ اللبيب المغزى من الكلام؛ وهذا ما يقتضيه فنّ السرد الراقي، فالسرد لا يقتصر على القصة والرواية والمسرحية، بل على التاريخ كذلك.
ومن أهم هذه القوانين التي ألمحت إليها المؤلِّفة:
القانون الأول: تقسيم الأمة إلى دويلات صغيرة يؤدي إلى ضعفها وتخلّفها. ويستشف القارئ ذلك بوضوح من رواية أوردتها حول خطة الاسكندر المقدوني الذي تغلّب عسكرياً على الإمبراطورية الفارسية، فقام بتقسيمها إلى دويلات صغيرة وعيّن ملكاً على كل دويلة لا يأبه إلا بمصالحه، بحيث لا تقوم لتلك البلاد بعدها قائمة.
القانون الثاني (وهو مقلوب الأول): إن وحدة الأمّة تؤدي إلى ازدهارها ورفعتها. ويدرك القارئ ذلك من تفسيرها لتمكُّن الدولة الساسانية الفارسية من بسط نفوذها على الكيانات السياسية المجاورة لها ومنها إمارة المناذرة، وذلك لاستطاعة آردشير بن بابك، سنة 230 م، توحيد دويلات الإمبراطورية الفارسية، ما أدى إلى تعاظم قوتها، وعلو شأنها.
القانون الثالث: إذا كانت دويلات الأمة تحت نفوذ دول أجنبية، فإنها ستقاتل بعضها بعضاً، عندما تتعارض مصالح الأجانب. ويفهم القارئ الكريم هذا القانون من تفسير الدكتورة بوعياد للحروب الطاحنة بين المناذرة والغساسنة، على الرغم من أنهم من أصل واحد ( اليمن)، ويتحدثون بلغة واحدة (العربية)، ويدينون بدين واحد ( المسيحية آنذاك). ولكن المناذرة كانوا تحت التأثير الفارسي والغساسنة كانوا تحت التأثير البيزنطي، وعندما تتعارض مصالح البيزنطينيين والفرس، تندلع الحرب بين الغساسنة والمناذرة.
القانون الرابع: إن المنازعات بين الكيانات العربية المختلفة تؤدي إلى ضعفها وتسيُّد القوى الأجنبية عليها. وإذا كانت الباحثة الفاضلة قد أوضحت صحّة هذا القانون من خلال الخلافات المستمرة بين القبائل العربية، وكذلك بين المناذرة والغساسنة، في العصر الجاهلي، ما أدى إلى تسلّط الفرس والبيزنطينيين على العرب، فإن هذا القانون قد أثبت صحّته في العصور اللاحقة. فالمنازعات بين الممالك والإمارات العربية أواخر العصر العباسي خلال القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين شجَّع الحملات الصيــلبية ( 1096 ـــ 1291م) وأدى إلى احتلال الصليبين الأماكن المقدسة في الشام وإقامة دويلاتهم . وعندما استطاع صلاح الدين الأيوبي (1138 ـــ 1193م) توحيد الممالك العربية في مصر والشام والحجاز والعراق، سرعان ما تغلّب العرب وسقطت ممالك الصليبين في الشام تباعاً.
وأثبت هذا القانون صحته في حالة المنازعات المستمرة بين ملوك الطوائف في الأندلس في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، واستعانة بعضهم بالإسبان على محاربة بعضهم الآخر، ما أدى إلى استيلاء الإسبان على الإمارات العربية الواحدة تلو الأخرى حتى سقط آخر المعاقل العربية في غرناطة سنة 1492 م، وانتهى الوجود الإسلامي في الأندلس بعد أن دام حوالي ثمانية قرون من الزمن.
ومن تطبيقات هذا القانون ما حصل في الخليج العربي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين. فقد أدت المنازعات المستمرة بين العمانيين، والسعوديين، والقواسم، والبحرانيين، واستعانة بعضهم بالإنجليز ضد بعضهم الآخر، إلى تدخلات الإنجليز وعدوانهم المتواصل على العرب حتى تمكنهم من استعمار هذه المنطقة العربية، كما أوضح ذلك الدكتور سلطان بن محمد القاسمي في كتابه القيم ” القواسم والعدوان البريطاني 1797 ـــ 1820) ” (7).
القانون الخامس: إن تشجيع التعليم والثقافة يؤدي إلى تطور اجتماعي واقتصادي وعمراني. وقد شجع الملوك المناذرة الثقافة والمعرفة والترجمة وأغدقوا العطاء على الشعراء فكان بلاطهم ملتقى الشعراء من جميع أنحاء البلاد العربية. وقد أثبت هذا القانون صحته في التقدّم الذي أحرزته الأمة الإسلامية في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، بفضل تشجيع الخلفاء العباسيين ـــ خاصة المنصور وهارون الرشيد والمأمون ـــ التعليم والثقافة والآداب، فكانوا يجزلون العطاء للعلماء والشعراء والمترجمين.
وهذا القانون هو محور “تقارير التنمية البشرية” التي يصدرها سنوياً البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة منذ سنة 1990 والتي يؤكد فيها إن تقدُّم الدول يعتمد على إعطائها الأهمية القصوى للتعليم والصحة.
ويمكننا أن نضيف قانوناً سادساً وهو مقلوب القانون الخامس، ولو أن الدكتورة لم تتطرق إليه لعدم علاقته بموضوعها في تلك الفترة وهو:
القانون السادس، إذا أردتَ تأخّر البلاد وتفكيكها، فعليك بتدمير ثقافتها المشتركة القائمة على لغتها الموحِّدة التي تعدُّ وسيلة أداة الاندماج الاجتماعي وأداة النفاذ إلى مصادر المعرفة وتراكمها. ولهذا فإن الغزاة في كل عصر يقومون أولاً بإحراق المكتبات أو إغلاقها وتعطيل المدارس وازدراء المثقفين وأهل العلم، كما فعل المغول عند اجتياحهم بغداد سنة 1258، وكما فعل المستعمِرون الفرنسيون عندما احتلوا الجزائر سنة 1830، وكما تفعل بعض حكومات الدول المتخلّفة التي تهمل التعليم والصحة، وتوقف بناء المدارس والمصحات.
وهذه القوانين معروفة متداولة في ثقافتنا العربية الإسلامية التي عبّرت عنها بالأمثال والحِكم والأقوال السائرة. فالقانونين الأول والثاني، مثلاً، عبّر عنهما معن بن زائدة ببيت شعر ذهب مثلاً وهو:
تأبى العِصيُّ، إذا أجتمعن، تَكسُّراً وإذا افترقن، تكسَّرت آحادا
وختاماً، لقد أنتجت لنا الدكتورة نزهة بوعياد دراسة تاريخية علمية عن إمارة المناذرة في الحيرة، وكلنا أمل في أن انشغالاتها الأكاديمية العديدة تسمح لها بالإيفاء بالوعد الذي قطعته على نفسها في مقدمة الكتاب، عندما عبّرت عن رغبتها في أن يكون فاتحة سلسلة من الكتب تتناول الإمارات العربية في العصر الجاهلي كإمارة كندة وإمارة الغساسة، وهكذا ستوفّر للباحثين مادة علمية دسمة عن أهم الكيانات السياسية العربية في العصر الجاهلي، وتعمّق من فهمنا لأحوال ذلك العصر.
ـــــــــــــ
الهوامش
( ملاحظة: إن الهوامش من 3 إلى النجمة * هي أرقام الهوامش في النصوص الأصلية في الديوان، أما بقية الهوامش من النجمة إلى آخر الهوامش فهي هوامشي)
3ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير، 1/ 326، الأسود: هو لقب للمنذر بن المنذر بن المنذر بن ماء السماء.
4ـ ديوانه، ص 283ـ 295، والأبيات 37ـ 75 في ديوانه 289ـ 295.
5ـ انتجعي: اقصدي، الندى: الكرم، الفعال: الأعمال الجيدة
ــــــ
723ـ المتجرّدة ، كما جاء في الأغاني، 21/6: اسمها ماوية، وقيل: هند بنت المنذر بن الأسود الكلبية، وهي كما جاء في الشعر والشعراء، ص 255: امرأة النعمان بن المنذر وكان للنعمان منها ولدان، كان الناس يقولون إنهما من المنخل.
724ـ الأصمعيات، ص 58 ـ 61.
725 ـ الكاعب: البادي ثديُها، ترفل: تختال، الدمسق: الحرير الأبيض.
726 ـ القطاة: واحدتها القطا وهو نوع من الطير، الغدير: قطعة من الماء يغادرها السيل.
727 ـ البهير: من البهر وهو ما يعتري الإنسان عند السعي الشديد والعدو من النهج وتتابع النفس.
• .نزهة بوعياد. إمارة المناذرة، ص 111.
(1) د. علي القاسمي (المنسِّق) وآخرون. المعجم العربي الأساسي ( تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1989)
(2) ابن خلدون. مقدمة ابن خلدون (بيروت: الكتاب العربي، ب ت)
(3) د.عبد الله العروي. مفهوم التاريخ ( بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط 5: 2012)، ص 44.
(4) د. جيمل صليبا. المعجم الفلسفي ( بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1982)
(5) د. محمود فهمي زيدان. ” قانون” في الموسوعة الفلسفية العربية (بيروت : معهد الإنماء العربي، 1986)
(6) Nail Ferguson. The Rise and Fall of the American Empire ( Penguin, 2005)
(7) د. سلطان بن محمد القاسمي. القواسم والعدوان البريطاني 1797ــ 1820 ( الشارقة : منشورات القاسمي، 2013)

مقالات ذات صلة