عاطف محمد عبد المجيد، الترجمة خلطة سحرية من العلم والفن والموهبة
الترجمة خلطة سحرية من العلم والفن والموهبة
لمَ يُترْجِم العرب ما تُرجِمَ من قبل؟
نقلا عن جريدة أخبار الأدب
نشر بوساطة عاطف محمد عبد المجيد في أخبار الأدب يوم 21 - 06 - 2013
كثيراً ما يلجأ بعض المترجمين العرب إلي ترجمة بعض الأعمال التي تمت ترجمتها من قبل أكثر من مرة.وهنا لابد وأن نتساءل لمَ يحْدث هذا؟..وما هي الإضافة التي ستقدمها ترجمة جديدة لعمل تُرجم بالفعل؟..وفي ظل الفوضي التي تسود عالم الترجمة في الوطن العربي ربما يكون سبب ذلك راجعاً إلي عدم وجود خطة مسبقة لترجمة هذه الأعمال إلي جانب أنه ليست هناك قاعدة بيانات موحدة في العالم العربي تضم الأعمال التي أنجزت ترجمتها وتلك التي تقف في طابور الانتظار،وبهذا يجهل - في أغلب الأحيان ذ المترجمون في بلد ما ما ترجم في بلد آخر.هذا إضافة إلي أن بعض المترجمين يطلقون علي بعض ما ترجم حُكْم قيمة،فيقدمون علي الترجمة ظناً منهم أنهم سيقدمون ترجمة أفضل مما تمت.
ومن الأعمال التي تمت ترجمتها أكثر من مرة رواية العجوز والبحر الشهيرة لأرنست هيمنجواي والتي صدرت مؤخراً عن دار (رؤية) للنشر والتوزيع تحت اسم (الشيخ والبحر) وأنجز ترجمتها العراقي د.علي القاسمي الذي صدَّرها بمقدمة تقترب من السبعين صفحة يذكر فيها سبب إقدامه علي ترجمة هذه الرواية وأشياء أخري (يسميها القاسمي قصة ويكتب علي غلافها رواية!).يفتتح القاسمي مقدمته ببيان مكانة هذه الرواية في الأدب العالمي والتي حصل هيمنجواي بسببها علي جائزة نوبل في الآداب في العام 1954.بعد ذلك يذكر أن صديقاً سأله:لماذا تترجم الشيخ والبحر وأنت تعلم أنها نُقلت إلي العربية عدة مرات منذ أكثر من نصف قرن؟..ويجيب القاسمي بأنه كان يمكنه أن يقول إن الطبعات القديمة قد نفدت ولم تعد متوافرة للجيل الجديد،وكذلك كان يمكن أن يقول إن علماء اللغة وخبراء الترجمة يوصون بإعادة ترجمة الأعمال الأدبية الخالدة بين حقبة وأخري،لأن اللغة في تحوّل وتغيّر وتطوّر باستمرار.كذلك كان في استطاعته أن يقول إنه يستمتع بهذه الرواية ويتمثلها بعمق ويتفاعل معها علي وجه أصدق عندما يقوم بتدريسها أو شرحها أو ترجمتها.
وبعد أن يقر بصدق تلك الإجابات إلا أنه آثر أن يجيب علي النحو التالي:المترجم وسيط بين مؤلف أجنبي وقاريء وطني،وسيط بين لغة الأصل المرسِلة ولغة الترجمة المتلقِّية.ويتوقف نجاح المترجم علي كيفية أداء هذا الوسيط لدوره وإتقانه له.ويعتمد تفوق المترجم علي تمكّنه من اللغتين وإلمامه بالثقافتين ومعرفته لموضوع النص وإدراكه لأسلوب المؤلِّف وتقنياته.ثم يذكر القاسمي أن معظم الذين ترجموا (الشيخ والبحر) لم يأخذوا في الاعتبار خصائص أسلوب هيمنجواي ولا تقنياته السردية.ويقصد بالأسلوب مجموعة الملامح التعبيرية التي يختارها المؤلف من العناصر اللغوية القابلة للتبادل لنقل مقاصده إلي القاريء والتأثير فيه،ويختلف الأسلوب من كاتب إلي آخر،حسب نفسيته وثقافته وخلفيته الاجتماعية.ويخلص إلي أن يقول إن ترجمة الأعمال الأدبية تتطلب من المترجِم تخصصاً في الجنس الأدبي الذي يترجمه وإلماماً بالمجال الموضوعي الذي يتناوله ومعرفة بثقافة المؤلف الأصلي وحضارة العصر الذي عاش فيه واستيعاباً لأسلوب الكاتب وتقنياته في الكتابة،إضافة إلي تمكن المترجم من أسرار اللغة المنقول منها واللغة المنقول إليها.ثم يذكر القاسمي خصائص أسلوب هيمنجواي وتقنياته ويُجْملها في:السهولة..الاقتصاد في اللغة..عدم المبالغة..الحيادية في السرد..اللغة الإشارية..اللامباشرية..إشراك القاريء في العملية الإبداعية.
بعد ذلك يصل القاسمي في مقدمته هذه إلي دراسة مقارنة بين ترجمته هو وبين الترجمات العربية الأخري التي سبقت ترجمته لرواية الشيخ والبحر.يقول إنه لما كان يزعم أنه مُلمٌّ بتطور القصة والرواية في الولايات المتحدة الأمريكية،وترجم عدداً من القصص الأمريكية وأنه عارف بدور هيمنجواي في تطوير الأساليب الكتابية في اللغة الإنجليزية وأن أسلوبه - القاسمي ذ في اللغة العربية يقترب في سهولته من أسلوب هيمنجواي في الإنجليزية، دخل في روعه أنه يستطيع أن ينتج ترجمة جيدة للشيخ والبحر.ويقر القاسمي بأن معرفته بهيمنجواي وثقته بمؤهلاته في ترجمته جعلتاه يترجم الشيخ والبحر دون أن يقرأ أياً من الترجمات العربية الأخري لهذه القصة كما يسميها.غير أنه وبعد أن أنجز ترجمته ألقي نظرة علي أفضل ترجمتين للرواية ليقارنهما بترجمته.يقارن بين ترجمته وترجمة منير بعلبكي وترجمة د.زياد زكريا.ثم يورد المقطع الافتتاحي في الرواية مفنّداً بعض العيوب التي شابت الترجمتين الأخريين معترضاً علي لفظة العجوز التي وردت عند بعلبكي وزكريا،إضافة إلي بعض المفردات الأخري التي لم يفهما مدلولاتها داخل السياق القصصي.ثم يَخْلُص القاسمي في نهاية مقدمته إلي أن الترجمات العربية السابقة لم تنقل مضامين القصة / الرواية بدقة وأنها أغفلت أسلوب هيمنجواي وتقنياته السردية وأنه أقْدَم علي هذه الترجمة لا لزيادة متعته فحسب بل لينقلها إلي القاريء العربي بطريقته الخاصة التي استثمر فيها جميع معرفته بهيمنجواي ولغته وأسلوبه وتقنياته من أجل أن تصبح الترجمة جسراً لا لعبور المضامين فحسب وإنما لعبور الأساليب والتقنيات والنفسيات كذلك.وأخيراً يؤكد د.علي القاسمي في مقدمته لترجمته لرواية الشيخ والبحر أن الترجمة الأدبية لم تصبح بعد علماً خالصاً وإنما هي خلطة سحرية من العلم والفن والموهبة.