تجليّات ذكرى الحبّ الممنوع في رواية (مرافئِ الحبِّ السبعة)
تجليّات ذكرى الحبّ الممنوع
في رواية "مرافئِ الحبِّ السبعة" لعلي القاسمي
الثنائيّات المتضادة: أثيرة (وفاء الموت)/ سليم (ألم الحبّ)
بقلم: كمال لعناني
باحث، جامعة مولود معمري ـ تيزي وزو، الجزائر
الثنائيّات المتضادة: أثيرة (وفاء الموت)/ سليم (ألم الحبّ)
بقلم: كمال لعناني
باحث، جامعة مولود معمري ـ تيزي وزو، الجزائر
يعدُّ الإبداع الأدبي الفضاء الأنسب للفرد لتفجير واستخراج مكنونات قُدراتيّة تعبّر عمّا تجوب به نفسيّة ذلك الفرد المبدع. وقد يكون ذلك الإبداع شعرًا أو نثرًا أو مزيجًا بينهما بلغة قد يكون طابعها البساطة والسّلاسة أو قد تكون تلك اللغة متخفيّة وراء شخصية المبدع، لا يكشف مغاليقها إلاّ متمرس، أو قد تبقى سرًا بين المبدع وما كتب. ومن بين أبرز تلك الصور التي تتيح للمبدع التعبير وممارسة نشاطه الرواية. ولعلّ من بين الروايات التي استهوتني وأردت كشف حُجُبها رواية "مرافئ الحبّ السبعة" لعلي القاسمي، الصادرة عام 2012م، في طبعتها الأولى عن المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء المغربيّة والحمراء بيروت – لبنان. سأحاول مقاربة أفكاره وفق دراسة تأويليّة لعلّنا بها نستطيع التّغلغل في نص الرواية وكشف مكنوناتها ومغاليقها.
سنبدأ بعتبة العنوان باعتباره أحد المداخل المشروعة والمُلِمَّة للمضمون لعلّه صورة ما هو آتٍ، العنوان جملة اسميّة يبتدأ بكلمة تدلّ على صيغة الجمع ألا وهي "مرافئ"، والمرفأ مكان ترسو فيه السفن إمّا للاستراحة أو لطارئ أو لإنزالٍ. وبالتالي فالسفينة لا تدوم راسية، فالمرفأ مكان فقط للتوقف وبعدها الاستمرار. وعلى ضوء هذا فربط العنوان بالمرفأ يوحي لنا منذ البداية أنّ "سليم الهاشمي"/بطل الرواية، قد توقف في سبعة مرافئ.
والكلمة الثانيّة من العنوان "الحبّ" بصيغة الجمع أيضا، وبالتالي فالمحبوب لم يكن واحدا فقط. فقد تعدّد بتعدّد توقف سفينته والمتمثلة في قلب "سليم الهاشمي". فالحبّ يكون بالقلب والوجدان، وبالتالي فقلب الهاشمي مثل السفينة يرسو/يحب، وبعدها يواصل مسيرته. فقلب "سليم الهاشمي" من خلال العنوان توقف ورسا في سبعة مرافئ. فبداية حبّ الهاشمي بدأت منذ نعومة أضفاره بحبّه لأمّه. فذكريات الهاشمي أشبه بالثنائيّات المتقابلة المتعاكسة، فبرجوعه للذكرى هو كسر لقيد الألم والحزن والغمّ. وبالتالي فهذه الثنائيات المتقابلة أشبه بثنائيات دي سوسير في دراسته للغة، فإذا كان الدّال مقابلا للمدلول/ فإنّ ألم سليم الهاشمي مقابل للرمز وللذكرى القديمة. وبمجرد استحضار تلك الذكرى (أثيرة) يزول ألم الكاتب. فالذكرى عند سليم الهاشمي أشبه بالدواء العلاجي.
- ذكرى الأم/وحمى الأرق والحزن:
فسليم الهاشمي ليكسِر ذكرى حزنه وحبّه المفقود أو لم يصل إليه بعد، فتذكّره لحبيبته يزيد من أوجاعه فيصاب بالحمى من أجلها فإذا كانت أمّه هي التي تواسيه في حمّى مرضه وهو صغير بريء مريض يقول: "... عندما كانت الحمّى تصيبني في طفولتي، كانت أمّي، تُقبِل عليّ، مذعورة باسمة... وتقول بلهجتها: فديتك بروحي. ليت دموعك غسّلتني. وليتك كفّنتني قبل أن أراك تتوجّع، يا حبيبي". فإذا كان في عصر براءته وطفولته، يوجد من يقف بجانبه ويفديه بروحه ألا وهي أمّه الحبيبة، وهو فلذة كبدها، } المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخيرٌ أملا} [الكهف: ٤٦]. فالنص القرآني خير مجيب على ذلك لما فيها من موعظة وعبرة للمؤمنين، فالابن نعمة لكنها آيلة إلى الزوال، سنة الله في خلقه. فمن يواسيه في غيابها وفي بعده عنها إلا ذِكراها الجميلة، بعد أن لفظته حبيبته "أثيرة" وتركت أرق الفراش يراوده من ليلة لأخرى.
- ذكرى الأم/ذكرى قريته الصغيرة/كسر لهمّ وحزن غياب أثيرة:
كَسْر الهاشمي لذكرى الألم والغمّ بذكرى أمّه هذه الأخيرة استدعت واستحضرت ذكرى قريته الصغيرة البسيطة (باحة الدار/النخلة/تمر النخلة/شال أمّه...) فيستحضر "سليم الهاشمي" ذكريات الطفولة وحكايات أمّه اللطيفة، ويبرز عفّة وعظمة أمّه ونسبها الشريف، فقد كانت بنت الريف رعت الغنم وحرست ليلاً بسلاح البندقية فيا لها من أمّ عظيمة وتزوجت رجلاً، وهو أب سليم الهاشمي، وهو من وجهاء المدينة، فيستحضر سليم الهاشمي ذكرى الصبى، وكيف كان يلعب تحت النخلة في فناء منزله، وأمّه العظيمة رحمها الله تطهو الخبز على الحطب، ويستحضر أيضًا كيف سقط في بئر المنزل، كلّ هذه المعاناة والمكابدة هي أشبه بالبكاء على الأطلال في القصيدة العموديّة، فنسيج رواية علي القاسمي أشبه بنسيج القصائد العموديّة والتي من سماتها؛ الوقوف على الطلل وصف للدار والرحلة والتغزل بالمحبوبة، ونسيج الرواية على هذه الشاكلة، فهي مليئة بالوقوف على الأطلال (فراق الوطن/موت الأم/أسر أثيرة/...)، ووصف لرحلات "سليم الهاشمي" عبر مختلف أنحاء العالم (العراق – بيروت. بيروت – أوستن بأمريكا. أمريكا – الرباط بالمغرب. المغرب – الرياض بالسعوديّة) والتغزل بمرافئ حبّه السبعة.
- ذكرى حليب الأمّ/مذاق الوطن:
هي ثنائية أخرى من ثنائيات الرواية فحليب أمّه يذكره بما أنتجت أرضه الغالية العراق من تمر النخلة التي كان يتغذى على رطبها، وبالتالي فذكرى الرطب يذكره بسماء العراق الشامخ الفسيح هي مكابدة أخرى يعيشها "سليم الهاشمي"، كل ذلك لينسى حبّه لأثيرة، فالنخلة والرطب أحالاه إلى:
- ذكرى أبيه/كسر لغمه وحبّه لأثيرة:
فذكرَ أباه بوحشة، وهو يتلو قصة وسورة مريم } فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنتُ نسياً منسيا. فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا} [مريم: 23/24]. فالنخلة في ذكرى الهاشمي أشبه بالقدسيّة، لما لها من مكانة في قلبه وذكرى، فإذا كانت العفيفة مريم تقوّت ببركة إلهيّة، وهي كرامة لها من عند الله عزّ وجل بقوة يقينها بمرتبتها، فشبه "سليم الهاشمي" أمّه العظيمة بشجرة مريم المقدسة، قال تعالى: " }وهُزي إليك بجذع النخلة تُساقط عليك رُطباً جنيا} [مريم: ٢٥] . فبقدرته جلّ جلاله يكون إثمار الجذع اليابس رطبًا ببركة تحريكها إياه، وتلك كرامة إلهيّة لها. فالهاشمي حين شعوره بالجوع وهو صغير يطلب من أمّه الأكل. يقول: "... ماما ..." تقول أمّه: يا روح ماما؟ أقول: أريد رُطبًا وحليبا ... تنهض بخفة وفرح لتجلب لي ما طلبت". فأمّ الهاشمي العظيمة العفيفة أشبه بقدسية جذع النخلة.
- ذكرى النخلة/حنين الدار/كسر لحب وغمّ أثيرة:
فالنّخلة هي الطّلل المستحضر المُتراتب في ذهن "سليم الهاشمي"، جرّه إلى ذكرى المنزل، فقد كان منزله مربع الشكل، يتألف من طابقين وتتوسطه باحة صغيرة، بها حديقة صغيرة، وفي وسطها النخلة التي يمكن رؤيتها من أيّ زاوية من زوايا المنزل، فالنخلة في فكر الهاشمي أصبحت كمثل أي فرد من أفراد عائلته وهي ترمز للوطن وللأم وللقدسيّة.
فالنخلة والأمّ ذكرى حبّ وعشق وحنين أبدي في ذات الهاشمي. هذا كله من أجلك يا "أثيرة" الذي أحبك يوما وأدَرتِ له ظهرك ذكرى. يقول: "...الأنهار تغيّر وجهتها، تنضب، تجفّ، تندثر؛ أمّا طيفك فإنّه يتّجه دومًا إليّ أينما كنتُ، يطاردني بعنادٍ من مدينة إلى أخرى... إنّه يحيل ربيعي خريفًا بغمزة منه؛ ... يحرق مروجي، ينقلني في لحظة من حقول يانعة إلى أقحل صحراء. يعبث بي كما يشاء". إذًا فطيف "أثيرة" أثّر في نفسيّة وشخصية الهاشمي إنّه عشق صادق عفوي لكنه حُرِم منه، إنّه عشق أقوى من عشق مجنون ليلى، هي "أثيرة" ملكة قلب سليم الهاشمي من دون منازع، لقد حاول النسيان لكن حرقة حبّها تراوده وتمنع عنه نومه، فلقد حرمته من أغلى حق طبيعي فطري في الإنسان ألا وهو النوم. }هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} [يونس: ٦٧]. فالليل وقت تغشاه الظُلمة، وهو الوقت المناسب لسكون الإنسان، وذلك للراحة من تعب الأعمال ومشقّات النهار، فكانت الظلمة باعثة النّاس على الراحة ومحدّدة لهم إبّانها بحيث يستوي في ذلك الفطن والغافل. فالليل رمز السكون والنهار رمز الإبصار، وهما ضدان لشيء واحد، ويدلّ ذلك على أنّ علّة السكون عدم الإبصار، وأنّ الإبصار يقتضي الحركة. وكل النّاس يعلمون ما في سكون الليل من نعمة وما في إبصارهم بالنهار من نعمة كذلك. لكن "أثيرة" بدّلت هذه النعمة – نعمة النوم – وأصبح الليل مرادفا للأرق والآهات عند "سليم الهاشمي"، فحولت ليله إلى نهار ونقضت فطرة الله في خلقه، فيا لها من ساحرة.
- ذكرى الرحيل/كسر لقيد وهمّ أثيرة:
يستحضر "سليم الهاشمي" ذكرى الرحيل المفزعة والمؤثرة في شخصه، كيف لا، وهو يترك أعزّ ما وهّبه وأنعم الله عليه الوطن والأهل. هو استحضار لينسى أو يحاول كسر طيف "أثيرة"، فاستحضاره لذكرى الرحيل ذكرته بأخذه لحفنة من تراب، وهذا دلالة على حبّه وتقديسه لوطنه الغالي العراق، وأخذه أيضا "لسعفة نخل" وهذا أيضا يدلّ على ارتباطه وتعلقه بمنتوج هذه الأرض الزكيّة وبالشجرة المباركة وتمرها المبارك والمخلد في سورة مريم. وأخذ معه ريشة من ريشات بطته، وهذا دلالة على تعلقه بحيوانات أرضه والبط يرمز للماء والأنهار، وبالتالي فهو يستحضر نهر دجلة والفرات الشهيرين، وأخذ معه شالاً أسودَ لأمّه؛ دلالة على حبّه الأعمى لأمّه، والشال رمز المرأة العربيّة وسترتها ورمز لدينها وإسلامها، فأمّه كانت كذلك بأتمِّ معنى الكلمة، والشال أخذه أسود، ليحيل لنا برمز اللون الأسود/الحداد. فسفره أشبه بموكب جنائزي، فيا له من يوم خريفي عاصف على قلب سليم الهاشمي. فإذا كان السفر في الأوقات الطبيعيّة، أي عند عامة الناس فضاء للترويح عن النّفس واستكشاف مواطن جديدة، فسفر الهاشمي عكس هذا تمامًا، فهو مرادفٌ للموت والحزن والأسى. فسافر خوفًا على حياته من حكم الدكتاتوريّة، ليقع في دكتاتوريّة وسلطة قلب "أثيرة".
- ذكرى زكي/لنسيان طيف أثيرة:
زكي إحدى شخوص الرواية المحوريّة والممهدة لبداية الرواية فزكي يستحضر شخصيّة حميدة. هذه الأخيرة – حميدة - على علاقة بزكي/خطيبته. فهي تسأل عنه باستمرار، وهي التي بدأ بها الراوي روايته، وبالتالي فهي تمثل شخصًا محوريًا في نصه. وزكي هو رفيق سليم الهاشمي في سفره إلى لبنان، والهاشمي في سفره إلى لبنان كان في مقتبل العمر أو في ريعان الشباب، وكان موظفًا بالعراق، يقول: "... لن أر بلدتي بعد اليوم، ولن أر أهلي، ولن أر طلابي، سيفتقدني النخل وفرسي وأهلي وطلابي". فهذا النص دليل قاطع على أن الهاشمي كان مدرسًا في جامعة بالعراق قبل أن يهجر وطنه.
- ذكرى نهر الفرات/المدرسة:
نهر الفرات يرمز إلى وطن "سليم الهاشمي"/العراق، ويذكّره بأيام المدرسة فقد كان يعبره يوميا للذهاب للمدرسة، وقد استحضر أوّل يوم من ذهابه للمدرسة مع أبيه، فهذا يدلّ على حبّ وتعلق أبيه بابنه وبالعلم. وقد استحضر بذلته الجديدة وفرحته المفرطة. وهذه الذكرى استحضرت والده/قوله الحق/: لقد كان والد سليم الهاشمي شخصًا محبًّا للعلم وذا تقاليد إسلاميّة محافظة، وقد تجلت هذه التربيّة في شخص الهاشمي ففي لحظة شوق للوطن كتب إلى أبيه وهو في ديار الغربة أمريكا قصة حقيقيّة عن أوّل يوم له في المدرسة، ومفادها قوله للحق، بعد أن وقع معلمهم أرضا فضحك سليم، فسأل المعلم : مَن ضحك؟ فسكت الجميع خائفين، فتجرأ سليم الهاشمي على قول الحق بأنّه هو من ضحك إتباعاً لوصايا والده "قل الحق ولو على نفسك". وكلّ هذه الذكريات كسر ومحاولة لنسيان طيف "أثيرة" الملتصقة بذاكرة الهاشمي رغم محاولاته للنسيان إلاّ أنها في كل مرّة تحضر ذاكِرَتَهُ، دون قصد منه وتدخل عنوة من أمره، إنّه قيد الحبّ، يقول: "... ها هو عمري ينساب مثل انسياب مياه المطر... وها هي حياتي تميل إلى الغروب ... وأنا ما زلت أخادع نفسي كما يفعل الأبله، ... وفي الليل أغمض عينيّ على خيبتي وأتظاهر بالنوم ...".
- ذكرى نهر الفرات/البطة (وفاء):
فقصة البطة وفاء هي مكابدة أخرى يعيشها الراوي، فهي هديّة من والده، وقد أطلق عليها هذا الاسم لعدّة اعتبارات منها: قرب السموأل من قريته، والذي يضرب به المثل في الوفاء/ أو أنّ أمّه كانت تحدثه كثيرا عن وفاء العرب/أو سمّاها كذلك تيمنًا بجارته الصغيرة. لكن هذه البطة تركته بمجرد رأيتها لسرب من البط، وهي غريزة الحيوان فمكانها مع السرب. وبذكر سليم الهاشمي لذكرى البطة "وفاء"، وكأنّه يناشد حبيبته أثيرة لماذا تركته. ونسيج عبقري هاشمي يوحي لنا لحظة تركه لبلده العراق كترك بطته "وفاء" له، ويوحي لنا هذا النص أيضًا برمز الماء الذي هو الحياة، لكن عند "سليم الهاشمي" يقابل الموت، فبرحيله وتركه لوطنه ونهره الفرات هو موت حقيقي، إذًا هو تناقض الموت والحياة في لحظة الحياة الحقيقيّة؛ لكن "أثيرة" ستحيي الهاشمي أيضا وتقتله وفي نفس الوقت تتركه حيّا.
- ذكرى الغربة/ذكرى دفن جده/حلم لاشعوري يستحضر أثيرة:
فإذا كان جدّ سليم الهاشمي قد دفنه والده، واعتنى بمراسيم جنازته، فسليم الهاشمي يناجي الغربة ويتساءل من سيدفنه إذا ماتَ؟ ومن يعتني به؟ وقد سرد لنا حِكَمَ جدّه أيام الصغر، وهو في سرده هذا ليهرب وليكسر ذكرى "أثيرة" يقول: "في فورة الحمى التي انتابتني هذه الليلة، رأيتكِ تقتربين منّي، يا أثيرة؛ عيناك شاسعتان ترفلان بأزهار النرجس، وخداك تفاحتان...". هنا سيطرت على عقله "أثيرة" وأسرته. وأثيرة هذه تسكن أو تقطن في المغرب، تقول: "سليم يا حبيبي لم يفارق خيالك عيني ولا قلبي لحظة واحدة منذ افترقنا. لقد أحرقَتْ كبدي نيران الندم. ماذا فعلت بكَ عندما كنت ضيفي في المغرب. أتيتكَ اليوم لأعتذر إليكَ، لأطلب الصفح منكَ، لأعوضك ما فاتك من حناني وشهدي، سأنسيك أيام العذاب والليالي السهد. تعال إليّ، يا حبيبي...".
كان نظام الحكم العراقي ملكيا، كما هو موجود في كتب التاريخ حتى عام 1958م ثم وقع انقلاب عسكري أطاح بالنظام وتتالت انقلابات أخرى في العراق، ممّا أوقع هذا البلد في دوامة من العنف واللا استقرار فكانت النتيجة حتميّة هجرة الكثير من الخبرات والكفاءات، وسليم الهاشمي من بينهم. فسليم الهاشمي هنا بذكره لأثيرة في حلمه دلالة قاطعة على عدم مجاراته لحبّه لها. وهي طالبة كانت تدرس عند سليم الهاشمي فوقع في حبّها منذ نظرته الأولى فأسرته وتركته مكبل الوجدان، يقول: "... أو كما التقينا في قاعة الدرس في المرّة الأولى. عيناي تلتصقان في جبهتك، وعيناك تغرسان المحبّة في نفسي...". فحلم الهاشمي هنا هو تألّم في حدّ ذاته وفي لا شعوره تظهر له "أثيرة"، تطلب المسامحة رغم مرور عشرين عاما لم يلتق بها، فيسامحها ويثبت لها حبّه وتعلقه بها حتى الثمالة، يقول: "يا حبيبتي أثيرة، سامحتك منذ اليوم الأوّل، نسيت ما فعلتِ بي... بكيت من أجلك كثيرا هل رأيت قتيلا بكى من حب قاتله ... سعيد برأيتك مرّة أخرى. ولنبدأ من جديد...". فهذا شاهد على تشبّث "سليم الهاشمي" بالأمل الدائم للعودة والظفر بحبيبته "أثيرة"، فهو ينسج حلمًا لا شعوريًا يناجيها فيه بأنّه لا حرج بالعودة إليها فهو مازال مولعا بها. وقد بلغ به الوله والشوق حدّ البكاء، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على صدق مشاعره، فبكاء الرجال من ذهب، فقلما نجد من يبكي من أجل ما فقد. ورغم ذلك ورغم قتلِها له بهَجْرها إلاّ أنّه لا يمكن أن يتخلّى عنها أو يقع في حبّ أخرى، فحبّه لها مثل الحبّ الصوفي المتعبّد في محرابه، يقول في حلمه الذي يعتبر حقيقة بالنسبة له: "وتسأليني: وهل عرفتَ غيري من الفتيات خلال هذه السنوات، يا سليم؟ فأجيب: نعم، نعم، يا أثيرة، لكنّهن لم يدخلن مهجتي كما دخلت أنت، بقين خارج أسوار القلب ... أنتِ لحن حياتي الخالد ... أنتِ روحي، تمنيت لو أستطيع العشق بعدك...". إذًا فسليم الهاشمي لم يتمكن من نسيانها رغم أنّه التقى بأخريات لكن حبّه لأثيرة طبع في قلبه، كما يطبع الوشم على الذهب، إذًا هو اعتراف من "سليم الهاشمي" بأنّ "أثيرة" مازالت وستظل عشقه المفقود المنتظر.
- ذكرى سليم الهاشمي في بيروت/ذكرى موت زكي:
بهجرة سليم الهاشمي إلى بيروت وذكر ذلك في روايته ليروي ويسرد مرارة ما وقع له من ماضٍ أليم، وليبيّن لأثيرة بأنّه رحل من وطنه خوفا على روحه وأسره، لكن للأسف فسليم الهاشمي هرب من الأسر والموت ليقع في أسر "أثيرة" طوال حياته، فهجْرته إلى لبنان مع صديقه زكي كانت ضروريّة، وقد استغل وقته للدراسة والمطالعة، في حين صدم بموت صديقه "زكي" من قبل أشخاص المخابرات العراقيّة، وهذا يوحي بأنّه رغم الظروف الصعبة التي مرّ بها، إلاّ أنّ طاقته وحرمانه فجّرها في طلب العلم والتأليف. وسليم الهاشمي في كلّ مرّة يستحضر "أثيرة" التي خيّبت ظنّه وأدَارَت له ظهرها، إنّه مكر النساء أو كبريائهن أو فلسفتهن في الحياة فمن يفهمهن؟ يقول: "عندما التقيت بك، يا أثيرة، كانت غربتي ضاربة، هل كنت تُحسين بغربتي؟ كنت بعيدًا عن مضارب أهلي ... وأتيت أنت، وتوهمتُ أنَّني لقيت جميع أهلي فيك، ظننت أنّك ستكونين لي الأمّ والأخت والبنت والحبيبة، ولكنك وضعت ميِّتا بيني وبينك ... فبقيت، كما كنتُ، أعاقر الوحدة، وأرتشف الغربة حتى الثمالة...". إذًا هو اعتراف من "سليم الهاشمي" بغربته وبوحشته لوطنه فتوسّم في "أثيرة" موطنه الثاني ونسي أنّه خارج العراق، لكنّها أجابت بأنّها وفيّة لزوجها الميت، هي إجابة "أثيرة". وحسب رأيي فإنّ سليم الهاشمي يستحقّك يا "أثيرة" فزوجك قد مات فعوضك الله بحب ربّما لن تجد مثله أيّ امرأة أخرى، لكنك رفضت؟؟. رغم تأكيده الدائم على ولوعه بها يقول: "... أنتِ يا أثيرة موجودة في جميع الأنحاء والأماكن والاتجاهات: أتصوّر خيالكِ في عقلي وذهني ونفسي، وأراك أينما ذهبتُ وحيثما حللتُ، وأسمع اسمكِ في جميع المنطوقة، وأرى رسمك في جميع صفحات الكتاب الذي أقرأ. فكيف أهرب منكِ؟".
- ذكرى وداد/أرادها وأرادته/القدر فرق بينهما:
"وداد" هنا هي حبّ الهاشمي الأوّل حينما كان طالبًا في الكلّيّة في بغداد، وهي من أسرة مترفة ذات ثقافة معاصرة وذات قيم ومبادئ إسلاميّة محافظة، لكن القدر الإلهيّ أبى أن يجمع بينهما، فقد توفيت "وداد" حبّه الأوّل، فاضطر إلى السّفر وترك بغداد، سافر لإكمال دراسته "الماجستير"، ثم عاد ليدرّس من جديد في بغداد لكن المفاجأة والقدر ألقاه وعرفه بأختها التي أصبحت تَدرُس عند الهاشمي. فقد استحضر مأساة حبّه لوداد ثانيّة واستذكر صبابة وألم الذكرى. فاستحضر سليم الهاشمي هذه الذكرى في مشهد جنائزي ربطه بموت صديقه العزيز زكي، ورغم أنّ سليم الهاشمي قد وقع في حبّ "وداد" قبل "أثيرة"، إلاّ أنّه سرعان ما يتبدّد ذلك الحبّ أمام أسر "أثيرة"، فقد محت قلب سليم الهاشمي وجعلته صفحة بيضاء لا يتحدّث إلاّ باسمها ولا يفتح مغاليقه إلاّ لها، فيا لك من محظوظة يا "أثيرة"، لكن يا للخسارة لم يظفر بك، ووضعت رجلاً ميتا أمام قلب سليم الهاشمي، فالحياة تستمر، والهاشمي نسي حبّه الأوّل بمجرد أن رآكِ، فحاول ومحا ماضيه من أجلكِ، رغم أنّه ماض أليم/موت حبّه الأول "وداد". الهاشمي أيضًا ماتت حبيبته و"أثيرة" مات زوجها، هو فتح قلبه لأثيرة لكنّها هي أرادت المأساة والشقاء العاطفي لسليم الهاشمي.
- ذكرى استشهاد أخيه أحمد/ترويح عن نفس الهاشمي/ ألم الذكرى:
الملاحظ والمتتبّع للرواية يلاحظ أنّ عائلة الهاشمي مهدّدة من قبل المعارضة أو أشبه بذلك، باعتبار أنّ أخ سليم الهاشمي كان ضابطًا كبيرا في الجيش العراقي، واستشهد في معركة جنين ضدّ الصهاينة، وأبوه كان مناضلاً كبيرًا في سبيل قضيّة الوطن/العراق. وبالتالي فرحيل الهاشمي كان ضرورة لا بدّ منها خوفًا على حياته باعتباره كان يعمل في وكالة الأنباء العراقيّة، وأيضًا ما يمكن ملاحظته أنّ سليم الهاشمي كان مدلّل العائلة الصغير؛ إذ أصرت العائلة على أن يهاجر خوفًا على حياته، يقول: "... ومع ذلك، فأنت (أبوه) وأخوتي تقتصدون من قوت يومكم لتمكنوني من الابتعاد عن الخطر والسفر إلى لبنان ثمّ إلى أمريكا للدراسة فيها وتحسين فرصي في المستقبل ... كم تساءلت في نفسي بعد ذلك: هل يمكن للإنسان أن يبني سعادته على شقاء الآخرين وتعاستهم؟". إذًا هو تصريح من سليم الهاشمي بتضحية عائلته من أجله وحفاظًا على سلامته، وهو إذ يذكر هذه الأحداث، فكيف لقلب "أثيرة" أن يلفظه ويتركه وحيدًا، إنّها معاناة الهاشمي الشخصيّة، بحث عن البديل ببراءة لكنّه خاب ظنه فيمن يواسيه "أثيرة".
- ذكرى عيدة/استحضار للوطن/تشتيت لألم الهاشمي:
"عيدة" شخصيّة أخرى من شخوص الهاشمي تُذكّره بطفولته في بادية العراق حينما كانت ترعى الغنم وسليم الهاشمي كان يلعب معها، إنّها تذكره بوطنه الغالي العراق، فكم لعب معها وكم مرحا معًا دون أن يعلم بمصيره المجهول التعيس فذكراه لعيدة يُذكره بذكرى الضحك الصبيانيّة البريئة، هذا الضحك الذي بدّدته "أثيرة" حزنًا وألمًا على شفتي سليم الهاشمي.
- ذكرى عمي كاكا يارة محمد/تبديد لحزن والد الهاشمي وسليم الهاشمي:
فكاكا يارة محمد هو صديق أبي سليم الهاشمي المثالي، وهو إحدى الشخوص التي استعان بها سليم الهاشمي ليُبدِّد لوعة حزن أبيه لحظة السفر إلى أمريكا، ولتبديد حزنه وحبّه لأثيرة باستذكار هذه الشخصيّة التي يضرب بها المثال في الوفاء والأخلاق والمعاملة. فأبو الهاشمي محظوظ لأنّه التقى بهذه الشخصيّة التي اعتبرها هبة إلهيّة، عكس سليم الهاشمي الذي التقى "أثيرة" المبدِّدة لأحلامه ولأجمل المشاعر الإنسانيّة في هذه الحياة، ألا وهو الحبّ الإنساني الهاشمي الأعمى الصافي البريء.
- ذكرى سفر الهاشمي إلى أمريكا/الوداع الأخرس/قيد أثيرة:
ذِكر سليم الهاشمي لسفرياته جانب آخر من الرواية يطبعها طابع التشويق، وكل ذلك مكابدته لحبه "أثيرة"، فهو يحاول التهرب ويرصد أهمّ محطات حياته ومغامرته التي صبغتها صفة الغربة والوحدانيّة في عالم بعيد عنه، كل ذلك ليثبت لأثيرة أنّه تكبد الأمرين الغربة ولوعة حبّه لك، لكنّك تركته وحده، فيا لها من مغالطة إنسانيّة وقساوة قلب أنثوي مغربي.
- ذكرى أوستن/تحدي الدراسة:
فأوستن مدينة أمريكية سافر إليها سليم الهاشمي مجبرًا من وطنه الغالي العراق، وما دام قد وقع فعل السفر إلى هذا المرفأ الغريب الذي يخلو من رائحة الأهل ومذاق الفرات، فاستغل سليم الهاشمي وقته أحسن استغلال في الدراسة والحصول على مختلف الشهادات العلميّة التي يحلم أي طالب للعلم بالحصول عليها. فسليم الهاشمي هذا الشاب النجيب الذي يحبّ العلم، وقد انطبقت عليه مقولة "اطلبوا العلم ولو في الصين". فدخل جوّ الدراسة وكلّه عزم وحيويّة فنوّع نشاطاته بين التحصيل العلمي وممارسة الرياضة والمطالعة والعمل لأنّه لم يبعث ولم يحصل على منحة، كما يحصل أي طالب نجيب على هذه المنح، وإنّما كان يُحصِل قُوتَه من عرق جبينه وبساعديه المعجونين بشجاعة الرجل العربي العراقي.
- ذكرى الأمريكيّة سوزان/أرادته فلم يردها فكسر قلبها/محو أثيرة لهذه الذكرى:
"سوزان" هي طالبة أمريكيّة تختلف عن المرأة العربيّة في الكثير من الخصلات والمبادئ، لكنها غاية وروعة في الجمال، كما صورها الهاشمي يقول الراوي: "... رأى أنثى لم يرَ مثلها من قبل، وجها وقواما أبدعهما الخالق ووهبتهما الطبيعة ... وانتحر الورد عشقا على خديها...". فالملاحظ على هذا القول أنّ جمال سوزان لا يقاوم وأنّها أعجبته ذات مرّة، لكن بمجرد أن يذكر لفظ "أثيرة" تَمَّحِي "سوزان" ويَمَّحِي مكانها في ذاكرته، وربّما ينسى إن كان قد صادف "سوزان" ذات مرّة. إذًا فأثيرة تكسر وتمحي كل شيء من ذاكرة الهاشمي وكأنّها "ممحاة الذاكرة الهاشميّة"، فقد سيطرت على تفكير الهاشمي وشغلت قلبه وذكراه، فيا لها من امرأة ساحرة. وقد ذكر إنسانيّة أساتذته بأوُستن، فمن بين تلك المحاسن أنهم يدعون الطلبة إلى بيوتهم لتناول الطعام ولكسر حاجز طالب/أستاذ. فدعاهم أحد الأساتذة إلى منزله فكان ذلك تعميقًا وتقريبًا لسوزان من قلبه، خصوصًا حين وجد حصانًا في مزرعة الأستاذ فذكره ذلك بذكريات الصبي، وكيف كان يذهب إلى الصيد مع أبيه رفقة الصقر والسلوقي، وكيف كان يجيد ركوب الخيل التي تعتبر رمز العربي وشهامته، فقد تغنى بالخيل أغلب الشعراء وخصصوا لها أروع القصائد، يقول المتنبي: }
الخيل والليل والبيداء تعرفني.........والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فالخيل رمز العربي وأشد ارتباطًا بالحياة، ونظرًا لقدسيتها العربيّة فقد خصّها القرآن بسورة العاديات والعاديات ضبحاً. فالموريات قدحاً. فالمغيرات صبحا. فأثرن به نقعا. فوسطن به جمعاً.}العاديات:[ ١ - ٥ ]، فقد أقسم بها الله في مجمل حديثه فالعاديات هنا الخيل، والضبح هو صوت أنفاسها إذا عدت، ووصف صكّ حوافرها للأرض والحجارة، وأنّها تغير وتباغت العدوّ وقت الصّباح فتهيج بالصبح غبارًا. فإدراج سليم الهاشمي لهذه الذكريات هروبٌ من أسر محبوبته "أثيرة" ومحاولة إعطاء نوع من القصّ لتذليل معاناته. وأيضا إثباتٌ لعروبته الأصيلة وفخرٌ بانتمائه لها وبانتمائه للعالم الإسلامي عربيّة ودينًا ووطنًا.
- ذكرى أستاذه آرتشبولد أ/دكتاتوريّة حكام بلده العراق/ألم هجر أثيرة:
آرتشبولد هيل هو أستاذ سليم الهاشمي، ولمّا لاحظ تفوق سليم الهاشمي علميًّا أبـى إلاّ أن يسأله لماذا لـم تبعثه الـعـراق بمنحـة،، وللأسف فالهاشمي فرّ من بلده خوفًا على روحه وهروبًا من دكتاتوريّة حكام بلده، فاحتار الهاشمي من سرّ معرفة أستاذه بشخصه وتأثره بحياة الهاشمي الذي يدفع تكاليف الدراسة بمفرده،، فرأى أستاذه أن يساعده بأن يكون معاونًا له في تقديم الدروس، فسُرّ الهاشمي بذلك. يقول الأستاذ: "لقد اطلعت أمس الأوّل على ملفّك مرّة أخرى واكتشفت أنّك تدرس على حسابك الخاص، ولا تتمتع بمنحة دراسيّة". إذًا فالهاشمي بحبّه للعلم ونَجابتِه أثبت لأستاذه تميزه وتفرده، ممّا دفع بالأستاذ إلى مساعدته ومدّ يد العون، فسليم الهاشمي مثال الطالب العربي الناجح المتميّز تلقّى يد العون في غربته من الأستاذ الأجنبي، في حين لم يتلقّ ذلك من حبّه العربي "أثيرة" هي ثنائيّة عكسيّة تثير الكثير من التساؤل في شخص "أثيرة".
- ذكرى موت أمّه/موت أحلامه/تعقدّ أزمة الهاشمي النفسية:
وهو في أوسطن بأمريكا تلقى سليم الهاشمي نبأ وفاة أمّه العزيزة الطاهرة، فلقد وقع عليه الخبر كالصاعقة، أوقعه الفراش وحزن حزنًا لا مثيل له، فأصبح للحزن تأثير الخمر ومفعوله، فالهاشمي يواجه الحزن بالكتابة والرواية لكن، الغريب في الأمر أنّ حبّه لأمّه قد أثرّ فيه وأصبغ على حياته موتًا وأحزانًا، لكن بمجرد رؤيته لأثيرة في المغرب رجعت إليه الحياة كل ذلك متناقضات سليم الهاشمي في حبّه، فالموت والحزن قابله بعشقه وجنونه لأثيرة/"مَاحِيَة الذاكرة القديمة الهاشمية". يقول: "أمّا الحزن فهو مقيم في شمال الروح وجنوبها، ومستقرّ في سويداء القلب وصميمه، منذ عصور سحيقة ... منذ أن تركتني حبيبتي أمتطي سفينة نوح ولم تلحق بي ... وظلت واقفة على التل من دون أن تكترث لندائي لها بأن تركب السفينة معنا، ومن دون أن تأبه بصراخي". فالحزن صاحب وصديق الهاشمي منذ سفره وتركه الوطن/العراق فقد سماه بالموت الأصغر أمّا موت أمّه فسماه بالموت الأكبر. ورغم هذا الحزن إلاّ أنّه بمجرد أن يذكر "أثيرة" يزول كل شيء هي دواؤه وسرّ علاجه.
- ذكرى الوطن/ مرض الحنين:
وبإنهاء سليم الهاشمي دراسته وحصوله على مختلف الشهادات اعتراه نوع من الحزن والغربة والشقاء رغم وجود حبّه سوزان لكن الهاشمي حنّ لوطنه واشتاق إليه، وأصبحت الإنجليزيّة لغة غريبة عنه رغم إتقانه لها، إنّها لوعة اشتياق العربيّة والإسلام، إنّها نسيم العراق العظيم يلوح في الأفق، لكن في كل الأحوال العراق ليس على ما يرام وباعتبار الهاشمي هاجر خوفًا على نفسه باعتباره ابن مناضل وأخ شهيد، وباعتباره كان يعمل في وكالة الأنباء العراقيّة فلا يمكنه العودة. يقول: "يا أيها الوطن المضمّخ بدماء الأبرياء والشهداء. يا أيها الوطن المعانق روح بلا فكاك ... أجبني أيها الوطن ... أتذكر فتًى ودّعك قبل الفجر ... أتذكرني يا عراق؟ كيف تخليت عني ... صحيح أنّه يحدث أحيانا أنّ الذين نحبهم أكثر، هم الذين يسارعون إلى التخلي عنّا وخذلانِنا في أحرج الأوقات، ويخلقون أمضى الجروح في أغوار الذات؟ وداعًا يا حبي الأكبر". فالهاشمي هنا يخاطب البلد وكأنّه إنسان عاقل يسمع ويعقل إنّه جنون اللحظة/جنون الغربة/جنون الوحدة/جنون الحبّ. لكن يستدرك مخاطبا بأنّ من نحبهم هم من يخذلوننا، وهذا تلميح إلى "أثيرة" التي خذلته وتركته يتغنى هنا وهناك بأصدق وأنبل المشاعر. وبحنينه ومشاعره تُجاه الوطن فقط أصابه المرض؛ مرض التفكير في العراق ومرض الانتساب إلى العروبة، فقد سُئِلَ عددٌ من معارفه عن حاله، فكانت إجابتهم: إنّه مريضٌ حقًّا، يقول: "وذكروه بأنّ الحنين يسمى باللغة الإنجليزية (HOMESICKNESS) أي مرض الحنين إلى) الوطن) ... ولا علاج له إلا بالعودة ... هناك يسمع الأذان ... وتتناهى أصوات اللغة العربيّة". وفعلاً فقد عاد إلى الوطن العربي لكن ليس بلده الأصلي فاستقر بالمغرب الأقصى، ويا ليته لم يذهب إلى هناك، فسليم الهاشمي هرب من دكتاتوريّة حكامه وبطشهم، وفرّ من إحساسه بالغربة في أمريكا رغم وجود من يواسيه "سوزان"، ليقع في غربة وأسْرِ "أثيرة".
- ذكرى موطنه الرباط/حبّه للعربيّة/أسره الأبدي:
فعند قدومه إلى كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في الرباط بصفة أستاذ، قَدَّم أوّل محاضرة بعنوان "طبيعة اللغة والأوهام الشائعة عنها"، وقد تناول في هذا المقال الأخطاء الشائعة عند بعض الناس عن ماهيّة اللغة، خاصّةً ذلك الخطأ الشائع القائل: إنّنا يجب أن ندرّس العلوم والتقنيّات باللغات الغربيّة كالإنجليزيّة والفرنسيّة، لتوافر المصطلحات العلميّة فيهما، ولقدرتهما على التعبير عن المفاهيم العلميّة، وأنّ اللغة العربيّة لا تصلح لتدريس العلوم والتقنيّات، لعدم توفّرها على المصطلحات اللازمة، لأنّها لغة دين وآدابٍ وليست لغة علومٍ وتقنيّاتٍ. فقد تطرق سليم الهاشمي في هذا المقال إلى الأخطاء والأوهام الشائعة عن اللغة: مثل: الكتابة هي اللغة، أو وجود رابطة طبيعيّة بين الكلمات ومعانيها، أو وجود لغات متطوِّرة وأخرى بدائيَّة، أو وجود لغات منطقيّةٍ وأخرى غير منطقيّة، أو لغات جميلة وأُخرى قبيحة، أو لغات صعبة وأخرى سهلة، وأكدّ أنّ اللغة نظام رمزيّ صوتيّ، تستخدمه الجماعة الناطقة بتلك اللغة للتواصل والتفاهم، وأنّ أيّ لغة تستطيع أن تفي بأغراض الناطقين بها، فللغة وسائلها اللسانيّة للاستجابة لجميع احتياجاتهم، فسليم الهاشمي هنا يفنّد ادّعاءات أعداء التعريب بضرورة الإبقاء على استخدام اللغة الفرنسيّة أو الإنجليزيّة في تدريس العلوم والطب في البلاد العربيّة. إذًا فقد كان مدافعًا عن العربيّة محبًّا لها، ودليله أنّ أول مقال له مجدّ فيه العربيّة لغة وطنه ورمز عروبته. وقلنا قد أُسِر قلبه في المغرب بلقائه "أثيرة" فهذه الشخصيّة تتحرك في كل أجزاء الرواية من بدايتها إلى نهايتها، هي رواية تلخص لوعة حبّه لأثيرة المغربيّة، ومادامت هي بطلة الرواية سنعرض بعض نماذج اجتماع االهاشمي بها، فبعد أن ألقى أوّل محاضرة في بلاد المغرب عن اللغة العربيّة وأهميتها انتقل إلى قاعة الدرس وبدأ يحدّق ويتلو القائمة الاسميّة للطلبة، لكن هناك وجه أثّر فيه هو وجه "أثيرة" يقول: "... وبعد أن استعرض جميع الوجوه الطيّبة، أحسّ بأنّ وجها منها ترك أثرًا محيرًا في نفسه. عينان سوداوان فيهما بوح محبوب، ونداء مكبوت، عينان سوداوان اختصرا أحزاني. إنّه وجه أشعرني بألفة عجيبة ... وجه تتلألأ في عينيه دموع عشتار، وزينب، وأمّي، وليلى العامريّة ودموع صبايا بغداد يوم استباحها جيش هولاكو". إذًا ذكرى أوّل لقاء رمت الهاشمي بسهم حبّها سهم العينين السوداوين، وبوجها الجذّاب بدّد أحزانه كلّها الماضيّة (ترك الوطن/الغربة/موت أمّه/موت صديقه زكي/موت حبّه الأول وداد/تركه لسوزان) فهذه الأحزان أمام وجه "أثيرة" النيّر ذابت كما يذوب ثلج الشتاء، إنّه ربيع الهاشمي (أثيرة) في بلاد المغرب. وكما هي طبيعة الأمور في التدريس ينبغي على المحاضر أو المدرس أن يكون موضوعيًا في توزيع نظراته على طلابه إنّه واجب المهنة لكن سليم الهاشمي في تلك الحجرة/الحجرة التي تتلقى فيها أثيرة الدروس. كان ينجذب بنظراته إليها دون وعي منه. وقد تفاجأ بمبادرتك يا "أثيرة" فإنّك أنت من بادرت إلى الذهاب إلى مكتبه؟ ثم خرجت وقلتِ سأعود لاحقا. هل هي حكمة النساء؟ أم فلسفة أثيرة الخاصة؟ فبذهابك إلى الهاشمي إلى مكتبه بعثت في روحه الأرق والتساؤل. تمهلي فأنت من بدأ بالزيارة؟ هل هي مجاملة؟ وعدّت مرّة أخرى، يقول: "بعد بضعة أيام، دخلت أثيرة مكتب الدكتور سليم الهاشمي في الكليّة بعد الدرس الذي ألقاه ... ألقيت التحيّة ... وظللت صامتةً، يا أثيرة ... كان في عينيك حزن لا يضارعه إلا بؤسي ... وقلت لي، يا أثيرة: هل تودّ زيارة فاس، سيسعد أهلي باستقبالك واستضافتك". إذًا فبعودة "أثيرة" ودعوة سليم الهاشمي، إلى منزلها نوع من المجاملة المبهمة في نفس "أثيرة"، وقد رفض طلبها لأنّه من غير العادة والمساواة أن يزور الأستاذ الطالب دون زملائه. وقد أصرت "أثيرة" على الهاشمي بالذهاب معها إلى المنزل، يقول: "ما دامت الكلّية قد أُغلقت، لم أعد أنا طالبة ولم تعد أنت أستاذًا، وبذلك تستطيع أن تقبل دعوتي لتشرفنا في المنزل. وقلت لك وأنا شارد الذهن: إن شاء الله". إذًا أصرت "أثيرة" على دعوة سليم الهاشمي وتمكنت من إقناعه/كيد النساء. وكان الطلبة مضربين وأثيرة تزور الهاشمي يوميًا في مكتبه؟ ربما هي معجبة به؟ وإلاّ لماذا الزيارة؟ فقد حيرت شخص الهاشمي بزياراتها المتتاليّة. يقول: "لا أعرف شيئا عن طبيعة علاقتنا، لا أعرف شيئًا عن موقعي في خريطة قلبها، فالمعرفة تتأتّى من الفهم، والفهم يتأتّى من الوضوح، وليس هناك شيء واضح لي". فسليم الهاشمي لم يفهم شيئا من جرّاء لقاءاتها به المتتاليّة، وأخلاقيّات مهنته تمنعه من التعبير عن مشاعره نحوها. فاعتاد الهاشمي على أثيرة يقول: "... فتأخرت عن الحضور. فداهمني شعور بأنّني تعيس حقّا وكأنّني أعيش على زياراتك القصيرة، أو أحيا على أمل اللقاء بك يوميا". إذًا اعتاد الهاشمي على "أثيرة"، فهي تشبه بأفيون العصر المخدرات، فالمروج يعطي للشخص الأوّل مجانًا مع تشجيعات ثم يتركه يعتاد وبعدها يمنعها عنه ويطلب ما يريد من مصاريف. وأثيرة هنا اقتربت من الهاشمي فاعتاد عليها، ولكن حين تَغِيب يقلق ويحس بالاضطراب. فتساءل الهاشمي عن سرّ قلقه فوجد نفسه عاشقا لا حول ولا قوّة له، إنّها طبيعة الإنسان الغريزيّة، المرأة بحاجة للرجل والرجل بحاجة للمرأة. " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون" [الروم: ٢١].
يقول: "... كنت مستعدّا أن أضحي بكلّ ما أملك من أجل أن أعثر على طبيب يخرجني من مصيبتي. فها هي قريبة منّي بجسدها تأتيني كلّ يوم، وهي بعيدة عني بقلبها ...". فغموض "أثيرة" ومرض الهاشمي بحبّها جعلته يدوس على أغلى ما يملك "شهادة الدكتوراه" ويدوس على تعاليم إسلامه ويذهب للعرافة لعلّه يظفر بحبّ "أثيرة". وبذهابه للعرافة ظهرت "أثيرة" مرّة أخرى وأصبحت تزوره مرّة على مرّة. وتعمّقت زيارتهما وذهب معها إلى منزلها رغبة منها ومكث يومين وفي اليوم الثالث عاود الرجوع إلى الرباط لكن الثلوج منعتهما من مواصلة الرّحلة فمكثا في نزل يقول: "... فقد اختفت البحيرة وأشجار الغابة وراء ستار العتمة الخرساء في تلك الأمسيّة الفريدة، كما اختفت جميع الذكريات خلف أكمات النسيان في ذاكرتي، فلم أرَ أمامي سوى وجهك الأسمر السحر ...". إذًا فقد قبلتِ الخروج معه، والتنزّه وأنتِ مسرورة. وفي مكوثها أحيَت أثيرة أنوثتها بعد عدّة أيام من مبيتها في النزل فاكتشفت بأنّها حامل وبأنّ زوجها/الميت؛ الذي أسَرها ظل يكذب عليها بأنّها لا تستطيع الإنجاب، وباحت بعدها بأنّها حامل وبأنّها ستسقطه لعدم مناسبة الوقت،، لكن سفر الهاشمي إلى الرياض بداعي الإضرابات في المغرب مدّة خمسة أعوام بعد أن وعدته "أثيرة" بأنّها تحبّه وبأنّها ستتزوجه مستقبلا، سافر على أمل الحبّ والفرح وبريق حصوله على حبّه "أثيرة"، لكن في خضم هذه الفترة قطعت اتصالاتها به واختفت للأبد من حياته. إذًا ما يمكن قوله عن "أثيرة" أنّها فعلاً رمز لخيانة الوعد ورمز للموت والحزن في ذات الهاشمي، إنّه مكر النساء ﭧ ﭨ ﭽ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭼ [يوسف: ٢٨]. فكيد "أثيرة" قد أصبغ على حياة الهاشمي نوعًا من الحيرة، ربّما سحرته بدعوته إلى منزلها، فأثيرة "ماحيَة ذاكرة الحزن وألم الغربة الهاشميّة" استطاعت أن تفعل به ما تشاء فحولت قلبا بريئا إلى قلب متألم حزين، فلماذا وَعدَته بالزواج؟ ولماذا بادرت بالخروج معه؟ ولماذا تتركيه؟ فعلاً إنّ كيدكن عظيم. وبالعودة إلى لسان العرب بحثا عن اسم أثيرة نجد: (أثر) "الأَثَرُ: بقيّة الشيء، آثَارٌ وأُثُرٌ. والأَثَرُ، بالتحريك ما بقي من رسم الشيء. والتَأْثِيرُ: إبقاء الأثَرِ في الشيءِ. وأَثَرَ في الشيء: ترك فيه أثرًا. والأَثِيرَةُ من الدَوَابِ: العظيمةُ الأثَرِ في الأرض بِخُفِّهَا أو حافِرِها بَيِّنَةُ الإِثَارَة. والأُثْرَةُ والمَأْثَرَةُ، بفتح الثاء وضمها: المَكْرُمَةُ المُتَوارَثَةُ. وفي الحديث: ألا إنّ كل دم وَمَأْثَرَةٍ كانت في الجاهليّة فإنّها تحت قدميّ هاتين. مآثِرُ العرب. مكارمهم ومفاخرها التي تُؤْثَرُ، أي تُذْكَرُ وتُروى، والميم زائدة، وآثَرَهُ أكرَمَه. ورجل أَثِيرٌ: مَكِينٌ مُكْرَمٌ، والجمع أُثَرَاءُ والأنثى أثيِيرَة". فلقد وفق علي القاسمي إلى حدّ بعيد في اختيار اسم حبيبة بطل الرواية/سليم الهاشمي أو البؤرة المهيمنة، فأطلق عليها اسم "أثيرة"، فهي ما بقيت من رسم على قلب سليم الهاشمي فهي آثار لدغ بليغ، فشخص "سليم الهاشمي" في الحدث السردي يتفجّر ارتباطًا بشخص "أثيرة"، وكلمة "سليم" في المعاجم العربيّة؛ تعني "الشخص اللّديغ" كما سنبين لاحقا، أو فلنقل ما حفرته بحوافرها في ذِكراه الأليمة لتحلّ هي محلّ كلّ الذكريات الماضيّة، فحبّ سليم الهاشمي وإكرامه لحبّه لها جعل منه البطل الملدوغ بلا منازع يتحرّك في جميع مراحل الرواية متكبدًا ومعانيًا جميع لسعات "أثيرة" وملخصًا؛ همّ حياته وغربة نفسه ودكتاتوريّة حكم بلاده. لكن "أثيرة" سيطرت على كلّ هذه الأحوال وحلّت محلها فنقضت ومحت كل ذكريات الهاشمي، ووضعت ناقضا بينه وبينها هو الوفاء لزوج مُتَوَفًّى، وأسرت قلب الهاشمي وأخلفت الوعد واختفت. وبالعودة أيضا لمعجم لسان العرب بحثا عن معنى اسم البطل المحوري في الرواية "سليم الهاشمي" نجد: "والسَّلْمُ: لَدغُ الحيَّةِ. وَالسَّليمُ: اللّدِيغ، فَعيل مِنَ السَّلامةِ، وإنَّما ذلكَ عَلى التَّفاؤُلِ لهُ بِهَا خِلافًا لمَا يُحْذَرُ عَلَيْه مِنه؛ والملدُوغُ مَسْلُومٌ وسلِمٌ بمعنَى سالِمٍ، وإنّما سُمِّي اللّديغ سليمًا لأنَّهمْ تَطَيَّرُوا منَ اللَّديغ، فَقَلَبُوا المعنَى، كَما قَالُوا لِلْحَبَشِيِّ: أبو البيضاءِ، وكَمَا قالوا لِلْفَلاةِ: مَفَازَةٌ: تَفاءَلوا بِالفَوزِ، وهِي مَهْلَكَةٌ، فَتَفاءلوا له بالسَّلاَمَةِ، وقِيل: إِنَّمَا سُمِّيَ اللَّديغُ سَليمًا لأنَّهُ مُسْلَمٌ لِمَا بِهِ، أو أُسْلِمَ لِما بهِ (عن ابن الأعرابي) قال الأزهري: قال الليث: السَّلْمُ اللَّدْغُ؛ قال: وهُوَ منْ غُدَدِهِ، وما قاله غيره. وقول ابن الأعرابي: سَلِيمٌ بمعنى مُسْلَمٍ، كما قالوا مُنْقَعٌ ونقِيعٌ، ومُتَمٌ ويَتِمٌ، ومُسْخَنٌ وسَخينٌ، وقد يُسْتَعارُ السَّليم للجريح ... وقيل السَليمُ الجريح المُشفِى على الهلكةِ ... السَّليمُ: اللَّديغُ. يُقَالُ: سَلَمَتْهُ الحيّة، أي لدَغَتهُ". إذًا فلقد وُفّق أو فلنقل تفنّن علي القاسمي في تسميّة أبطال روايته، فالبطل المحوري والرئيسي في الرواية "سليم الهاشمي"، فقد وجدنا أنّ كلمة سليم/لدغ الحيّة. هي أيضا ثنائيّة ضديّة فاطلاق لفظة "سليم" تبركا للمريض بالشفاء. فسليم كما صورته الرواية يمثل الشخص الملدوغ/حبّ أثيرة، التي لدغته وتركت سمّها ينخر جميع جسمه، فحبّ سليم الهاشمي أشبه بلدغ الحيّة، فعلي القاسمي باعتباره رائد المعجميّة قد اختار الاسم المناسب للبطل وجعله يتكبد معاناته في جميع أطوار الروايّة، فالبطل سليم الهاشمي يعدّ الشخصية أو/البؤرة المهينة على نص الروايّة. فاللدغ والألم تقابله الشخصيّة الثانيّة/البؤرة المهيمنة الثانيّة/أثيرة. فبحضورها في ذهن سليم الهاشمي يزول ألم لدغ الحية/حبّه لأثيرة.
يُعَدُّ شخصا "أثيرة"/"
سنبدأ بعتبة العنوان باعتباره أحد المداخل المشروعة والمُلِمَّة للمضمون لعلّه صورة ما هو آتٍ، العنوان جملة اسميّة يبتدأ بكلمة تدلّ على صيغة الجمع ألا وهي "مرافئ"، والمرفأ مكان ترسو فيه السفن إمّا للاستراحة أو لطارئ أو لإنزالٍ. وبالتالي فالسفينة لا تدوم راسية، فالمرفأ مكان فقط للتوقف وبعدها الاستمرار. وعلى ضوء هذا فربط العنوان بالمرفأ يوحي لنا منذ البداية أنّ "سليم الهاشمي"/بطل الرواية، قد توقف في سبعة مرافئ.
والكلمة الثانيّة من العنوان "الحبّ" بصيغة الجمع أيضا، وبالتالي فالمحبوب لم يكن واحدا فقط. فقد تعدّد بتعدّد توقف سفينته والمتمثلة في قلب "سليم الهاشمي". فالحبّ يكون بالقلب والوجدان، وبالتالي فقلب الهاشمي مثل السفينة يرسو/يحب، وبعدها يواصل مسيرته. فقلب "سليم الهاشمي" من خلال العنوان توقف ورسا في سبعة مرافئ. فبداية حبّ الهاشمي بدأت منذ نعومة أضفاره بحبّه لأمّه. فذكريات الهاشمي أشبه بالثنائيّات المتقابلة المتعاكسة، فبرجوعه للذكرى هو كسر لقيد الألم والحزن والغمّ. وبالتالي فهذه الثنائيات المتقابلة أشبه بثنائيات دي سوسير في دراسته للغة، فإذا كان الدّال مقابلا للمدلول/ فإنّ ألم سليم الهاشمي مقابل للرمز وللذكرى القديمة. وبمجرد استحضار تلك الذكرى (أثيرة) يزول ألم الكاتب. فالذكرى عند سليم الهاشمي أشبه بالدواء العلاجي.
- ذكرى الأم/وحمى الأرق والحزن:
فسليم الهاشمي ليكسِر ذكرى حزنه وحبّه المفقود أو لم يصل إليه بعد، فتذكّره لحبيبته يزيد من أوجاعه فيصاب بالحمى من أجلها فإذا كانت أمّه هي التي تواسيه في حمّى مرضه وهو صغير بريء مريض يقول: "... عندما كانت الحمّى تصيبني في طفولتي، كانت أمّي، تُقبِل عليّ، مذعورة باسمة... وتقول بلهجتها: فديتك بروحي. ليت دموعك غسّلتني. وليتك كفّنتني قبل أن أراك تتوجّع، يا حبيبي". فإذا كان في عصر براءته وطفولته، يوجد من يقف بجانبه ويفديه بروحه ألا وهي أمّه الحبيبة، وهو فلذة كبدها، } المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخيرٌ أملا} [الكهف: ٤٦]. فالنص القرآني خير مجيب على ذلك لما فيها من موعظة وعبرة للمؤمنين، فالابن نعمة لكنها آيلة إلى الزوال، سنة الله في خلقه. فمن يواسيه في غيابها وفي بعده عنها إلا ذِكراها الجميلة، بعد أن لفظته حبيبته "أثيرة" وتركت أرق الفراش يراوده من ليلة لأخرى.
- ذكرى الأم/ذكرى قريته الصغيرة/كسر لهمّ وحزن غياب أثيرة:
كَسْر الهاشمي لذكرى الألم والغمّ بذكرى أمّه هذه الأخيرة استدعت واستحضرت ذكرى قريته الصغيرة البسيطة (باحة الدار/النخلة/تمر النخلة/شال أمّه...) فيستحضر "سليم الهاشمي" ذكريات الطفولة وحكايات أمّه اللطيفة، ويبرز عفّة وعظمة أمّه ونسبها الشريف، فقد كانت بنت الريف رعت الغنم وحرست ليلاً بسلاح البندقية فيا لها من أمّ عظيمة وتزوجت رجلاً، وهو أب سليم الهاشمي، وهو من وجهاء المدينة، فيستحضر سليم الهاشمي ذكرى الصبى، وكيف كان يلعب تحت النخلة في فناء منزله، وأمّه العظيمة رحمها الله تطهو الخبز على الحطب، ويستحضر أيضًا كيف سقط في بئر المنزل، كلّ هذه المعاناة والمكابدة هي أشبه بالبكاء على الأطلال في القصيدة العموديّة، فنسيج رواية علي القاسمي أشبه بنسيج القصائد العموديّة والتي من سماتها؛ الوقوف على الطلل وصف للدار والرحلة والتغزل بالمحبوبة، ونسيج الرواية على هذه الشاكلة، فهي مليئة بالوقوف على الأطلال (فراق الوطن/موت الأم/أسر أثيرة/...)، ووصف لرحلات "سليم الهاشمي" عبر مختلف أنحاء العالم (العراق – بيروت. بيروت – أوستن بأمريكا. أمريكا – الرباط بالمغرب. المغرب – الرياض بالسعوديّة) والتغزل بمرافئ حبّه السبعة.
- ذكرى حليب الأمّ/مذاق الوطن:
هي ثنائية أخرى من ثنائيات الرواية فحليب أمّه يذكره بما أنتجت أرضه الغالية العراق من تمر النخلة التي كان يتغذى على رطبها، وبالتالي فذكرى الرطب يذكره بسماء العراق الشامخ الفسيح هي مكابدة أخرى يعيشها "سليم الهاشمي"، كل ذلك لينسى حبّه لأثيرة، فالنخلة والرطب أحالاه إلى:
- ذكرى أبيه/كسر لغمه وحبّه لأثيرة:
فذكرَ أباه بوحشة، وهو يتلو قصة وسورة مريم } فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنتُ نسياً منسيا. فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا} [مريم: 23/24]. فالنخلة في ذكرى الهاشمي أشبه بالقدسيّة، لما لها من مكانة في قلبه وذكرى، فإذا كانت العفيفة مريم تقوّت ببركة إلهيّة، وهي كرامة لها من عند الله عزّ وجل بقوة يقينها بمرتبتها، فشبه "سليم الهاشمي" أمّه العظيمة بشجرة مريم المقدسة، قال تعالى: " }وهُزي إليك بجذع النخلة تُساقط عليك رُطباً جنيا} [مريم: ٢٥] . فبقدرته جلّ جلاله يكون إثمار الجذع اليابس رطبًا ببركة تحريكها إياه، وتلك كرامة إلهيّة لها. فالهاشمي حين شعوره بالجوع وهو صغير يطلب من أمّه الأكل. يقول: "... ماما ..." تقول أمّه: يا روح ماما؟ أقول: أريد رُطبًا وحليبا ... تنهض بخفة وفرح لتجلب لي ما طلبت". فأمّ الهاشمي العظيمة العفيفة أشبه بقدسية جذع النخلة.
- ذكرى النخلة/حنين الدار/كسر لحب وغمّ أثيرة:
فالنّخلة هي الطّلل المستحضر المُتراتب في ذهن "سليم الهاشمي"، جرّه إلى ذكرى المنزل، فقد كان منزله مربع الشكل، يتألف من طابقين وتتوسطه باحة صغيرة، بها حديقة صغيرة، وفي وسطها النخلة التي يمكن رؤيتها من أيّ زاوية من زوايا المنزل، فالنخلة في فكر الهاشمي أصبحت كمثل أي فرد من أفراد عائلته وهي ترمز للوطن وللأم وللقدسيّة.
فالنخلة والأمّ ذكرى حبّ وعشق وحنين أبدي في ذات الهاشمي. هذا كله من أجلك يا "أثيرة" الذي أحبك يوما وأدَرتِ له ظهرك ذكرى. يقول: "...الأنهار تغيّر وجهتها، تنضب، تجفّ، تندثر؛ أمّا طيفك فإنّه يتّجه دومًا إليّ أينما كنتُ، يطاردني بعنادٍ من مدينة إلى أخرى... إنّه يحيل ربيعي خريفًا بغمزة منه؛ ... يحرق مروجي، ينقلني في لحظة من حقول يانعة إلى أقحل صحراء. يعبث بي كما يشاء". إذًا فطيف "أثيرة" أثّر في نفسيّة وشخصية الهاشمي إنّه عشق صادق عفوي لكنه حُرِم منه، إنّه عشق أقوى من عشق مجنون ليلى، هي "أثيرة" ملكة قلب سليم الهاشمي من دون منازع، لقد حاول النسيان لكن حرقة حبّها تراوده وتمنع عنه نومه، فلقد حرمته من أغلى حق طبيعي فطري في الإنسان ألا وهو النوم. }هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} [يونس: ٦٧]. فالليل وقت تغشاه الظُلمة، وهو الوقت المناسب لسكون الإنسان، وذلك للراحة من تعب الأعمال ومشقّات النهار، فكانت الظلمة باعثة النّاس على الراحة ومحدّدة لهم إبّانها بحيث يستوي في ذلك الفطن والغافل. فالليل رمز السكون والنهار رمز الإبصار، وهما ضدان لشيء واحد، ويدلّ ذلك على أنّ علّة السكون عدم الإبصار، وأنّ الإبصار يقتضي الحركة. وكل النّاس يعلمون ما في سكون الليل من نعمة وما في إبصارهم بالنهار من نعمة كذلك. لكن "أثيرة" بدّلت هذه النعمة – نعمة النوم – وأصبح الليل مرادفا للأرق والآهات عند "سليم الهاشمي"، فحولت ليله إلى نهار ونقضت فطرة الله في خلقه، فيا لها من ساحرة.
- ذكرى الرحيل/كسر لقيد وهمّ أثيرة:
يستحضر "سليم الهاشمي" ذكرى الرحيل المفزعة والمؤثرة في شخصه، كيف لا، وهو يترك أعزّ ما وهّبه وأنعم الله عليه الوطن والأهل. هو استحضار لينسى أو يحاول كسر طيف "أثيرة"، فاستحضاره لذكرى الرحيل ذكرته بأخذه لحفنة من تراب، وهذا دلالة على حبّه وتقديسه لوطنه الغالي العراق، وأخذه أيضا "لسعفة نخل" وهذا أيضا يدلّ على ارتباطه وتعلقه بمنتوج هذه الأرض الزكيّة وبالشجرة المباركة وتمرها المبارك والمخلد في سورة مريم. وأخذ معه ريشة من ريشات بطته، وهذا دلالة على تعلقه بحيوانات أرضه والبط يرمز للماء والأنهار، وبالتالي فهو يستحضر نهر دجلة والفرات الشهيرين، وأخذ معه شالاً أسودَ لأمّه؛ دلالة على حبّه الأعمى لأمّه، والشال رمز المرأة العربيّة وسترتها ورمز لدينها وإسلامها، فأمّه كانت كذلك بأتمِّ معنى الكلمة، والشال أخذه أسود، ليحيل لنا برمز اللون الأسود/الحداد. فسفره أشبه بموكب جنائزي، فيا له من يوم خريفي عاصف على قلب سليم الهاشمي. فإذا كان السفر في الأوقات الطبيعيّة، أي عند عامة الناس فضاء للترويح عن النّفس واستكشاف مواطن جديدة، فسفر الهاشمي عكس هذا تمامًا، فهو مرادفٌ للموت والحزن والأسى. فسافر خوفًا على حياته من حكم الدكتاتوريّة، ليقع في دكتاتوريّة وسلطة قلب "أثيرة".
- ذكرى زكي/لنسيان طيف أثيرة:
زكي إحدى شخوص الرواية المحوريّة والممهدة لبداية الرواية فزكي يستحضر شخصيّة حميدة. هذه الأخيرة – حميدة - على علاقة بزكي/خطيبته. فهي تسأل عنه باستمرار، وهي التي بدأ بها الراوي روايته، وبالتالي فهي تمثل شخصًا محوريًا في نصه. وزكي هو رفيق سليم الهاشمي في سفره إلى لبنان، والهاشمي في سفره إلى لبنان كان في مقتبل العمر أو في ريعان الشباب، وكان موظفًا بالعراق، يقول: "... لن أر بلدتي بعد اليوم، ولن أر أهلي، ولن أر طلابي، سيفتقدني النخل وفرسي وأهلي وطلابي". فهذا النص دليل قاطع على أن الهاشمي كان مدرسًا في جامعة بالعراق قبل أن يهجر وطنه.
- ذكرى نهر الفرات/المدرسة:
نهر الفرات يرمز إلى وطن "سليم الهاشمي"/العراق، ويذكّره بأيام المدرسة فقد كان يعبره يوميا للذهاب للمدرسة، وقد استحضر أوّل يوم من ذهابه للمدرسة مع أبيه، فهذا يدلّ على حبّ وتعلق أبيه بابنه وبالعلم. وقد استحضر بذلته الجديدة وفرحته المفرطة. وهذه الذكرى استحضرت والده/قوله الحق/: لقد كان والد سليم الهاشمي شخصًا محبًّا للعلم وذا تقاليد إسلاميّة محافظة، وقد تجلت هذه التربيّة في شخص الهاشمي ففي لحظة شوق للوطن كتب إلى أبيه وهو في ديار الغربة أمريكا قصة حقيقيّة عن أوّل يوم له في المدرسة، ومفادها قوله للحق، بعد أن وقع معلمهم أرضا فضحك سليم، فسأل المعلم : مَن ضحك؟ فسكت الجميع خائفين، فتجرأ سليم الهاشمي على قول الحق بأنّه هو من ضحك إتباعاً لوصايا والده "قل الحق ولو على نفسك". وكلّ هذه الذكريات كسر ومحاولة لنسيان طيف "أثيرة" الملتصقة بذاكرة الهاشمي رغم محاولاته للنسيان إلاّ أنها في كل مرّة تحضر ذاكِرَتَهُ، دون قصد منه وتدخل عنوة من أمره، إنّه قيد الحبّ، يقول: "... ها هو عمري ينساب مثل انسياب مياه المطر... وها هي حياتي تميل إلى الغروب ... وأنا ما زلت أخادع نفسي كما يفعل الأبله، ... وفي الليل أغمض عينيّ على خيبتي وأتظاهر بالنوم ...".
- ذكرى نهر الفرات/البطة (وفاء):
فقصة البطة وفاء هي مكابدة أخرى يعيشها الراوي، فهي هديّة من والده، وقد أطلق عليها هذا الاسم لعدّة اعتبارات منها: قرب السموأل من قريته، والذي يضرب به المثل في الوفاء/ أو أنّ أمّه كانت تحدثه كثيرا عن وفاء العرب/أو سمّاها كذلك تيمنًا بجارته الصغيرة. لكن هذه البطة تركته بمجرد رأيتها لسرب من البط، وهي غريزة الحيوان فمكانها مع السرب. وبذكر سليم الهاشمي لذكرى البطة "وفاء"، وكأنّه يناشد حبيبته أثيرة لماذا تركته. ونسيج عبقري هاشمي يوحي لنا لحظة تركه لبلده العراق كترك بطته "وفاء" له، ويوحي لنا هذا النص أيضًا برمز الماء الذي هو الحياة، لكن عند "سليم الهاشمي" يقابل الموت، فبرحيله وتركه لوطنه ونهره الفرات هو موت حقيقي، إذًا هو تناقض الموت والحياة في لحظة الحياة الحقيقيّة؛ لكن "أثيرة" ستحيي الهاشمي أيضا وتقتله وفي نفس الوقت تتركه حيّا.
- ذكرى الغربة/ذكرى دفن جده/حلم لاشعوري يستحضر أثيرة:
فإذا كان جدّ سليم الهاشمي قد دفنه والده، واعتنى بمراسيم جنازته، فسليم الهاشمي يناجي الغربة ويتساءل من سيدفنه إذا ماتَ؟ ومن يعتني به؟ وقد سرد لنا حِكَمَ جدّه أيام الصغر، وهو في سرده هذا ليهرب وليكسر ذكرى "أثيرة" يقول: "في فورة الحمى التي انتابتني هذه الليلة، رأيتكِ تقتربين منّي، يا أثيرة؛ عيناك شاسعتان ترفلان بأزهار النرجس، وخداك تفاحتان...". هنا سيطرت على عقله "أثيرة" وأسرته. وأثيرة هذه تسكن أو تقطن في المغرب، تقول: "سليم يا حبيبي لم يفارق خيالك عيني ولا قلبي لحظة واحدة منذ افترقنا. لقد أحرقَتْ كبدي نيران الندم. ماذا فعلت بكَ عندما كنت ضيفي في المغرب. أتيتكَ اليوم لأعتذر إليكَ، لأطلب الصفح منكَ، لأعوضك ما فاتك من حناني وشهدي، سأنسيك أيام العذاب والليالي السهد. تعال إليّ، يا حبيبي...".
كان نظام الحكم العراقي ملكيا، كما هو موجود في كتب التاريخ حتى عام 1958م ثم وقع انقلاب عسكري أطاح بالنظام وتتالت انقلابات أخرى في العراق، ممّا أوقع هذا البلد في دوامة من العنف واللا استقرار فكانت النتيجة حتميّة هجرة الكثير من الخبرات والكفاءات، وسليم الهاشمي من بينهم. فسليم الهاشمي هنا بذكره لأثيرة في حلمه دلالة قاطعة على عدم مجاراته لحبّه لها. وهي طالبة كانت تدرس عند سليم الهاشمي فوقع في حبّها منذ نظرته الأولى فأسرته وتركته مكبل الوجدان، يقول: "... أو كما التقينا في قاعة الدرس في المرّة الأولى. عيناي تلتصقان في جبهتك، وعيناك تغرسان المحبّة في نفسي...". فحلم الهاشمي هنا هو تألّم في حدّ ذاته وفي لا شعوره تظهر له "أثيرة"، تطلب المسامحة رغم مرور عشرين عاما لم يلتق بها، فيسامحها ويثبت لها حبّه وتعلقه بها حتى الثمالة، يقول: "يا حبيبتي أثيرة، سامحتك منذ اليوم الأوّل، نسيت ما فعلتِ بي... بكيت من أجلك كثيرا هل رأيت قتيلا بكى من حب قاتله ... سعيد برأيتك مرّة أخرى. ولنبدأ من جديد...". فهذا شاهد على تشبّث "سليم الهاشمي" بالأمل الدائم للعودة والظفر بحبيبته "أثيرة"، فهو ينسج حلمًا لا شعوريًا يناجيها فيه بأنّه لا حرج بالعودة إليها فهو مازال مولعا بها. وقد بلغ به الوله والشوق حدّ البكاء، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على صدق مشاعره، فبكاء الرجال من ذهب، فقلما نجد من يبكي من أجل ما فقد. ورغم ذلك ورغم قتلِها له بهَجْرها إلاّ أنّه لا يمكن أن يتخلّى عنها أو يقع في حبّ أخرى، فحبّه لها مثل الحبّ الصوفي المتعبّد في محرابه، يقول في حلمه الذي يعتبر حقيقة بالنسبة له: "وتسأليني: وهل عرفتَ غيري من الفتيات خلال هذه السنوات، يا سليم؟ فأجيب: نعم، نعم، يا أثيرة، لكنّهن لم يدخلن مهجتي كما دخلت أنت، بقين خارج أسوار القلب ... أنتِ لحن حياتي الخالد ... أنتِ روحي، تمنيت لو أستطيع العشق بعدك...". إذًا فسليم الهاشمي لم يتمكن من نسيانها رغم أنّه التقى بأخريات لكن حبّه لأثيرة طبع في قلبه، كما يطبع الوشم على الذهب، إذًا هو اعتراف من "سليم الهاشمي" بأنّ "أثيرة" مازالت وستظل عشقه المفقود المنتظر.
- ذكرى سليم الهاشمي في بيروت/ذكرى موت زكي:
بهجرة سليم الهاشمي إلى بيروت وذكر ذلك في روايته ليروي ويسرد مرارة ما وقع له من ماضٍ أليم، وليبيّن لأثيرة بأنّه رحل من وطنه خوفا على روحه وأسره، لكن للأسف فسليم الهاشمي هرب من الأسر والموت ليقع في أسر "أثيرة" طوال حياته، فهجْرته إلى لبنان مع صديقه زكي كانت ضروريّة، وقد استغل وقته للدراسة والمطالعة، في حين صدم بموت صديقه "زكي" من قبل أشخاص المخابرات العراقيّة، وهذا يوحي بأنّه رغم الظروف الصعبة التي مرّ بها، إلاّ أنّ طاقته وحرمانه فجّرها في طلب العلم والتأليف. وسليم الهاشمي في كلّ مرّة يستحضر "أثيرة" التي خيّبت ظنّه وأدَارَت له ظهرها، إنّه مكر النساء أو كبريائهن أو فلسفتهن في الحياة فمن يفهمهن؟ يقول: "عندما التقيت بك، يا أثيرة، كانت غربتي ضاربة، هل كنت تُحسين بغربتي؟ كنت بعيدًا عن مضارب أهلي ... وأتيت أنت، وتوهمتُ أنَّني لقيت جميع أهلي فيك، ظننت أنّك ستكونين لي الأمّ والأخت والبنت والحبيبة، ولكنك وضعت ميِّتا بيني وبينك ... فبقيت، كما كنتُ، أعاقر الوحدة، وأرتشف الغربة حتى الثمالة...". إذًا هو اعتراف من "سليم الهاشمي" بغربته وبوحشته لوطنه فتوسّم في "أثيرة" موطنه الثاني ونسي أنّه خارج العراق، لكنّها أجابت بأنّها وفيّة لزوجها الميت، هي إجابة "أثيرة". وحسب رأيي فإنّ سليم الهاشمي يستحقّك يا "أثيرة" فزوجك قد مات فعوضك الله بحب ربّما لن تجد مثله أيّ امرأة أخرى، لكنك رفضت؟؟. رغم تأكيده الدائم على ولوعه بها يقول: "... أنتِ يا أثيرة موجودة في جميع الأنحاء والأماكن والاتجاهات: أتصوّر خيالكِ في عقلي وذهني ونفسي، وأراك أينما ذهبتُ وحيثما حللتُ، وأسمع اسمكِ في جميع المنطوقة، وأرى رسمك في جميع صفحات الكتاب الذي أقرأ. فكيف أهرب منكِ؟".
- ذكرى وداد/أرادها وأرادته/القدر فرق بينهما:
"وداد" هنا هي حبّ الهاشمي الأوّل حينما كان طالبًا في الكلّيّة في بغداد، وهي من أسرة مترفة ذات ثقافة معاصرة وذات قيم ومبادئ إسلاميّة محافظة، لكن القدر الإلهيّ أبى أن يجمع بينهما، فقد توفيت "وداد" حبّه الأوّل، فاضطر إلى السّفر وترك بغداد، سافر لإكمال دراسته "الماجستير"، ثم عاد ليدرّس من جديد في بغداد لكن المفاجأة والقدر ألقاه وعرفه بأختها التي أصبحت تَدرُس عند الهاشمي. فقد استحضر مأساة حبّه لوداد ثانيّة واستذكر صبابة وألم الذكرى. فاستحضر سليم الهاشمي هذه الذكرى في مشهد جنائزي ربطه بموت صديقه العزيز زكي، ورغم أنّ سليم الهاشمي قد وقع في حبّ "وداد" قبل "أثيرة"، إلاّ أنّه سرعان ما يتبدّد ذلك الحبّ أمام أسر "أثيرة"، فقد محت قلب سليم الهاشمي وجعلته صفحة بيضاء لا يتحدّث إلاّ باسمها ولا يفتح مغاليقه إلاّ لها، فيا لك من محظوظة يا "أثيرة"، لكن يا للخسارة لم يظفر بك، ووضعت رجلاً ميتا أمام قلب سليم الهاشمي، فالحياة تستمر، والهاشمي نسي حبّه الأوّل بمجرد أن رآكِ، فحاول ومحا ماضيه من أجلكِ، رغم أنّه ماض أليم/موت حبّه الأول "وداد". الهاشمي أيضًا ماتت حبيبته و"أثيرة" مات زوجها، هو فتح قلبه لأثيرة لكنّها هي أرادت المأساة والشقاء العاطفي لسليم الهاشمي.
- ذكرى استشهاد أخيه أحمد/ترويح عن نفس الهاشمي/ ألم الذكرى:
الملاحظ والمتتبّع للرواية يلاحظ أنّ عائلة الهاشمي مهدّدة من قبل المعارضة أو أشبه بذلك، باعتبار أنّ أخ سليم الهاشمي كان ضابطًا كبيرا في الجيش العراقي، واستشهد في معركة جنين ضدّ الصهاينة، وأبوه كان مناضلاً كبيرًا في سبيل قضيّة الوطن/العراق. وبالتالي فرحيل الهاشمي كان ضرورة لا بدّ منها خوفًا على حياته باعتباره كان يعمل في وكالة الأنباء العراقيّة، وأيضًا ما يمكن ملاحظته أنّ سليم الهاشمي كان مدلّل العائلة الصغير؛ إذ أصرت العائلة على أن يهاجر خوفًا على حياته، يقول: "... ومع ذلك، فأنت (أبوه) وأخوتي تقتصدون من قوت يومكم لتمكنوني من الابتعاد عن الخطر والسفر إلى لبنان ثمّ إلى أمريكا للدراسة فيها وتحسين فرصي في المستقبل ... كم تساءلت في نفسي بعد ذلك: هل يمكن للإنسان أن يبني سعادته على شقاء الآخرين وتعاستهم؟". إذًا هو تصريح من سليم الهاشمي بتضحية عائلته من أجله وحفاظًا على سلامته، وهو إذ يذكر هذه الأحداث، فكيف لقلب "أثيرة" أن يلفظه ويتركه وحيدًا، إنّها معاناة الهاشمي الشخصيّة، بحث عن البديل ببراءة لكنّه خاب ظنه فيمن يواسيه "أثيرة".
- ذكرى عيدة/استحضار للوطن/تشتيت لألم الهاشمي:
"عيدة" شخصيّة أخرى من شخوص الهاشمي تُذكّره بطفولته في بادية العراق حينما كانت ترعى الغنم وسليم الهاشمي كان يلعب معها، إنّها تذكره بوطنه الغالي العراق، فكم لعب معها وكم مرحا معًا دون أن يعلم بمصيره المجهول التعيس فذكراه لعيدة يُذكره بذكرى الضحك الصبيانيّة البريئة، هذا الضحك الذي بدّدته "أثيرة" حزنًا وألمًا على شفتي سليم الهاشمي.
- ذكرى عمي كاكا يارة محمد/تبديد لحزن والد الهاشمي وسليم الهاشمي:
فكاكا يارة محمد هو صديق أبي سليم الهاشمي المثالي، وهو إحدى الشخوص التي استعان بها سليم الهاشمي ليُبدِّد لوعة حزن أبيه لحظة السفر إلى أمريكا، ولتبديد حزنه وحبّه لأثيرة باستذكار هذه الشخصيّة التي يضرب بها المثال في الوفاء والأخلاق والمعاملة. فأبو الهاشمي محظوظ لأنّه التقى بهذه الشخصيّة التي اعتبرها هبة إلهيّة، عكس سليم الهاشمي الذي التقى "أثيرة" المبدِّدة لأحلامه ولأجمل المشاعر الإنسانيّة في هذه الحياة، ألا وهو الحبّ الإنساني الهاشمي الأعمى الصافي البريء.
- ذكرى سفر الهاشمي إلى أمريكا/الوداع الأخرس/قيد أثيرة:
ذِكر سليم الهاشمي لسفرياته جانب آخر من الرواية يطبعها طابع التشويق، وكل ذلك مكابدته لحبه "أثيرة"، فهو يحاول التهرب ويرصد أهمّ محطات حياته ومغامرته التي صبغتها صفة الغربة والوحدانيّة في عالم بعيد عنه، كل ذلك ليثبت لأثيرة أنّه تكبد الأمرين الغربة ولوعة حبّه لك، لكنّك تركته وحده، فيا لها من مغالطة إنسانيّة وقساوة قلب أنثوي مغربي.
- ذكرى أوستن/تحدي الدراسة:
فأوستن مدينة أمريكية سافر إليها سليم الهاشمي مجبرًا من وطنه الغالي العراق، وما دام قد وقع فعل السفر إلى هذا المرفأ الغريب الذي يخلو من رائحة الأهل ومذاق الفرات، فاستغل سليم الهاشمي وقته أحسن استغلال في الدراسة والحصول على مختلف الشهادات العلميّة التي يحلم أي طالب للعلم بالحصول عليها. فسليم الهاشمي هذا الشاب النجيب الذي يحبّ العلم، وقد انطبقت عليه مقولة "اطلبوا العلم ولو في الصين". فدخل جوّ الدراسة وكلّه عزم وحيويّة فنوّع نشاطاته بين التحصيل العلمي وممارسة الرياضة والمطالعة والعمل لأنّه لم يبعث ولم يحصل على منحة، كما يحصل أي طالب نجيب على هذه المنح، وإنّما كان يُحصِل قُوتَه من عرق جبينه وبساعديه المعجونين بشجاعة الرجل العربي العراقي.
- ذكرى الأمريكيّة سوزان/أرادته فلم يردها فكسر قلبها/محو أثيرة لهذه الذكرى:
"سوزان" هي طالبة أمريكيّة تختلف عن المرأة العربيّة في الكثير من الخصلات والمبادئ، لكنها غاية وروعة في الجمال، كما صورها الهاشمي يقول الراوي: "... رأى أنثى لم يرَ مثلها من قبل، وجها وقواما أبدعهما الخالق ووهبتهما الطبيعة ... وانتحر الورد عشقا على خديها...". فالملاحظ على هذا القول أنّ جمال سوزان لا يقاوم وأنّها أعجبته ذات مرّة، لكن بمجرد أن يذكر لفظ "أثيرة" تَمَّحِي "سوزان" ويَمَّحِي مكانها في ذاكرته، وربّما ينسى إن كان قد صادف "سوزان" ذات مرّة. إذًا فأثيرة تكسر وتمحي كل شيء من ذاكرة الهاشمي وكأنّها "ممحاة الذاكرة الهاشميّة"، فقد سيطرت على تفكير الهاشمي وشغلت قلبه وذكراه، فيا لها من امرأة ساحرة. وقد ذكر إنسانيّة أساتذته بأوُستن، فمن بين تلك المحاسن أنهم يدعون الطلبة إلى بيوتهم لتناول الطعام ولكسر حاجز طالب/أستاذ. فدعاهم أحد الأساتذة إلى منزله فكان ذلك تعميقًا وتقريبًا لسوزان من قلبه، خصوصًا حين وجد حصانًا في مزرعة الأستاذ فذكره ذلك بذكريات الصبي، وكيف كان يذهب إلى الصيد مع أبيه رفقة الصقر والسلوقي، وكيف كان يجيد ركوب الخيل التي تعتبر رمز العربي وشهامته، فقد تغنى بالخيل أغلب الشعراء وخصصوا لها أروع القصائد، يقول المتنبي: }
الخيل والليل والبيداء تعرفني.........والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فالخيل رمز العربي وأشد ارتباطًا بالحياة، ونظرًا لقدسيتها العربيّة فقد خصّها القرآن بسورة العاديات والعاديات ضبحاً. فالموريات قدحاً. فالمغيرات صبحا. فأثرن به نقعا. فوسطن به جمعاً.}العاديات:[ ١ - ٥ ]، فقد أقسم بها الله في مجمل حديثه فالعاديات هنا الخيل، والضبح هو صوت أنفاسها إذا عدت، ووصف صكّ حوافرها للأرض والحجارة، وأنّها تغير وتباغت العدوّ وقت الصّباح فتهيج بالصبح غبارًا. فإدراج سليم الهاشمي لهذه الذكريات هروبٌ من أسر محبوبته "أثيرة" ومحاولة إعطاء نوع من القصّ لتذليل معاناته. وأيضا إثباتٌ لعروبته الأصيلة وفخرٌ بانتمائه لها وبانتمائه للعالم الإسلامي عربيّة ودينًا ووطنًا.
- ذكرى أستاذه آرتشبولد أ/دكتاتوريّة حكام بلده العراق/ألم هجر أثيرة:
آرتشبولد هيل هو أستاذ سليم الهاشمي، ولمّا لاحظ تفوق سليم الهاشمي علميًّا أبـى إلاّ أن يسأله لماذا لـم تبعثه الـعـراق بمنحـة،، وللأسف فالهاشمي فرّ من بلده خوفًا على روحه وهروبًا من دكتاتوريّة حكام بلده، فاحتار الهاشمي من سرّ معرفة أستاذه بشخصه وتأثره بحياة الهاشمي الذي يدفع تكاليف الدراسة بمفرده،، فرأى أستاذه أن يساعده بأن يكون معاونًا له في تقديم الدروس، فسُرّ الهاشمي بذلك. يقول الأستاذ: "لقد اطلعت أمس الأوّل على ملفّك مرّة أخرى واكتشفت أنّك تدرس على حسابك الخاص، ولا تتمتع بمنحة دراسيّة". إذًا فالهاشمي بحبّه للعلم ونَجابتِه أثبت لأستاذه تميزه وتفرده، ممّا دفع بالأستاذ إلى مساعدته ومدّ يد العون، فسليم الهاشمي مثال الطالب العربي الناجح المتميّز تلقّى يد العون في غربته من الأستاذ الأجنبي، في حين لم يتلقّ ذلك من حبّه العربي "أثيرة" هي ثنائيّة عكسيّة تثير الكثير من التساؤل في شخص "أثيرة".
- ذكرى موت أمّه/موت أحلامه/تعقدّ أزمة الهاشمي النفسية:
وهو في أوسطن بأمريكا تلقى سليم الهاشمي نبأ وفاة أمّه العزيزة الطاهرة، فلقد وقع عليه الخبر كالصاعقة، أوقعه الفراش وحزن حزنًا لا مثيل له، فأصبح للحزن تأثير الخمر ومفعوله، فالهاشمي يواجه الحزن بالكتابة والرواية لكن، الغريب في الأمر أنّ حبّه لأمّه قد أثرّ فيه وأصبغ على حياته موتًا وأحزانًا، لكن بمجرد رؤيته لأثيرة في المغرب رجعت إليه الحياة كل ذلك متناقضات سليم الهاشمي في حبّه، فالموت والحزن قابله بعشقه وجنونه لأثيرة/"مَاحِيَة الذاكرة القديمة الهاشمية". يقول: "أمّا الحزن فهو مقيم في شمال الروح وجنوبها، ومستقرّ في سويداء القلب وصميمه، منذ عصور سحيقة ... منذ أن تركتني حبيبتي أمتطي سفينة نوح ولم تلحق بي ... وظلت واقفة على التل من دون أن تكترث لندائي لها بأن تركب السفينة معنا، ومن دون أن تأبه بصراخي". فالحزن صاحب وصديق الهاشمي منذ سفره وتركه الوطن/العراق فقد سماه بالموت الأصغر أمّا موت أمّه فسماه بالموت الأكبر. ورغم هذا الحزن إلاّ أنّه بمجرد أن يذكر "أثيرة" يزول كل شيء هي دواؤه وسرّ علاجه.
- ذكرى الوطن/ مرض الحنين:
وبإنهاء سليم الهاشمي دراسته وحصوله على مختلف الشهادات اعتراه نوع من الحزن والغربة والشقاء رغم وجود حبّه سوزان لكن الهاشمي حنّ لوطنه واشتاق إليه، وأصبحت الإنجليزيّة لغة غريبة عنه رغم إتقانه لها، إنّها لوعة اشتياق العربيّة والإسلام، إنّها نسيم العراق العظيم يلوح في الأفق، لكن في كل الأحوال العراق ليس على ما يرام وباعتبار الهاشمي هاجر خوفًا على نفسه باعتباره ابن مناضل وأخ شهيد، وباعتباره كان يعمل في وكالة الأنباء العراقيّة فلا يمكنه العودة. يقول: "يا أيها الوطن المضمّخ بدماء الأبرياء والشهداء. يا أيها الوطن المعانق روح بلا فكاك ... أجبني أيها الوطن ... أتذكر فتًى ودّعك قبل الفجر ... أتذكرني يا عراق؟ كيف تخليت عني ... صحيح أنّه يحدث أحيانا أنّ الذين نحبهم أكثر، هم الذين يسارعون إلى التخلي عنّا وخذلانِنا في أحرج الأوقات، ويخلقون أمضى الجروح في أغوار الذات؟ وداعًا يا حبي الأكبر". فالهاشمي هنا يخاطب البلد وكأنّه إنسان عاقل يسمع ويعقل إنّه جنون اللحظة/جنون الغربة/جنون الوحدة/جنون الحبّ. لكن يستدرك مخاطبا بأنّ من نحبهم هم من يخذلوننا، وهذا تلميح إلى "أثيرة" التي خذلته وتركته يتغنى هنا وهناك بأصدق وأنبل المشاعر. وبحنينه ومشاعره تُجاه الوطن فقط أصابه المرض؛ مرض التفكير في العراق ومرض الانتساب إلى العروبة، فقد سُئِلَ عددٌ من معارفه عن حاله، فكانت إجابتهم: إنّه مريضٌ حقًّا، يقول: "وذكروه بأنّ الحنين يسمى باللغة الإنجليزية (HOMESICKNESS) أي مرض الحنين إلى) الوطن) ... ولا علاج له إلا بالعودة ... هناك يسمع الأذان ... وتتناهى أصوات اللغة العربيّة". وفعلاً فقد عاد إلى الوطن العربي لكن ليس بلده الأصلي فاستقر بالمغرب الأقصى، ويا ليته لم يذهب إلى هناك، فسليم الهاشمي هرب من دكتاتوريّة حكامه وبطشهم، وفرّ من إحساسه بالغربة في أمريكا رغم وجود من يواسيه "سوزان"، ليقع في غربة وأسْرِ "أثيرة".
- ذكرى موطنه الرباط/حبّه للعربيّة/أسره الأبدي:
فعند قدومه إلى كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في الرباط بصفة أستاذ، قَدَّم أوّل محاضرة بعنوان "طبيعة اللغة والأوهام الشائعة عنها"، وقد تناول في هذا المقال الأخطاء الشائعة عند بعض الناس عن ماهيّة اللغة، خاصّةً ذلك الخطأ الشائع القائل: إنّنا يجب أن ندرّس العلوم والتقنيّات باللغات الغربيّة كالإنجليزيّة والفرنسيّة، لتوافر المصطلحات العلميّة فيهما، ولقدرتهما على التعبير عن المفاهيم العلميّة، وأنّ اللغة العربيّة لا تصلح لتدريس العلوم والتقنيّات، لعدم توفّرها على المصطلحات اللازمة، لأنّها لغة دين وآدابٍ وليست لغة علومٍ وتقنيّاتٍ. فقد تطرق سليم الهاشمي في هذا المقال إلى الأخطاء والأوهام الشائعة عن اللغة: مثل: الكتابة هي اللغة، أو وجود رابطة طبيعيّة بين الكلمات ومعانيها، أو وجود لغات متطوِّرة وأخرى بدائيَّة، أو وجود لغات منطقيّةٍ وأخرى غير منطقيّة، أو لغات جميلة وأُخرى قبيحة، أو لغات صعبة وأخرى سهلة، وأكدّ أنّ اللغة نظام رمزيّ صوتيّ، تستخدمه الجماعة الناطقة بتلك اللغة للتواصل والتفاهم، وأنّ أيّ لغة تستطيع أن تفي بأغراض الناطقين بها، فللغة وسائلها اللسانيّة للاستجابة لجميع احتياجاتهم، فسليم الهاشمي هنا يفنّد ادّعاءات أعداء التعريب بضرورة الإبقاء على استخدام اللغة الفرنسيّة أو الإنجليزيّة في تدريس العلوم والطب في البلاد العربيّة. إذًا فقد كان مدافعًا عن العربيّة محبًّا لها، ودليله أنّ أول مقال له مجدّ فيه العربيّة لغة وطنه ورمز عروبته. وقلنا قد أُسِر قلبه في المغرب بلقائه "أثيرة" فهذه الشخصيّة تتحرك في كل أجزاء الرواية من بدايتها إلى نهايتها، هي رواية تلخص لوعة حبّه لأثيرة المغربيّة، ومادامت هي بطلة الرواية سنعرض بعض نماذج اجتماع االهاشمي بها، فبعد أن ألقى أوّل محاضرة في بلاد المغرب عن اللغة العربيّة وأهميتها انتقل إلى قاعة الدرس وبدأ يحدّق ويتلو القائمة الاسميّة للطلبة، لكن هناك وجه أثّر فيه هو وجه "أثيرة" يقول: "... وبعد أن استعرض جميع الوجوه الطيّبة، أحسّ بأنّ وجها منها ترك أثرًا محيرًا في نفسه. عينان سوداوان فيهما بوح محبوب، ونداء مكبوت، عينان سوداوان اختصرا أحزاني. إنّه وجه أشعرني بألفة عجيبة ... وجه تتلألأ في عينيه دموع عشتار، وزينب، وأمّي، وليلى العامريّة ودموع صبايا بغداد يوم استباحها جيش هولاكو". إذًا ذكرى أوّل لقاء رمت الهاشمي بسهم حبّها سهم العينين السوداوين، وبوجها الجذّاب بدّد أحزانه كلّها الماضيّة (ترك الوطن/الغربة/موت أمّه/موت صديقه زكي/موت حبّه الأول وداد/تركه لسوزان) فهذه الأحزان أمام وجه "أثيرة" النيّر ذابت كما يذوب ثلج الشتاء، إنّه ربيع الهاشمي (أثيرة) في بلاد المغرب. وكما هي طبيعة الأمور في التدريس ينبغي على المحاضر أو المدرس أن يكون موضوعيًا في توزيع نظراته على طلابه إنّه واجب المهنة لكن سليم الهاشمي في تلك الحجرة/الحجرة التي تتلقى فيها أثيرة الدروس. كان ينجذب بنظراته إليها دون وعي منه. وقد تفاجأ بمبادرتك يا "أثيرة" فإنّك أنت من بادرت إلى الذهاب إلى مكتبه؟ ثم خرجت وقلتِ سأعود لاحقا. هل هي حكمة النساء؟ أم فلسفة أثيرة الخاصة؟ فبذهابك إلى الهاشمي إلى مكتبه بعثت في روحه الأرق والتساؤل. تمهلي فأنت من بدأ بالزيارة؟ هل هي مجاملة؟ وعدّت مرّة أخرى، يقول: "بعد بضعة أيام، دخلت أثيرة مكتب الدكتور سليم الهاشمي في الكليّة بعد الدرس الذي ألقاه ... ألقيت التحيّة ... وظللت صامتةً، يا أثيرة ... كان في عينيك حزن لا يضارعه إلا بؤسي ... وقلت لي، يا أثيرة: هل تودّ زيارة فاس، سيسعد أهلي باستقبالك واستضافتك". إذًا فبعودة "أثيرة" ودعوة سليم الهاشمي، إلى منزلها نوع من المجاملة المبهمة في نفس "أثيرة"، وقد رفض طلبها لأنّه من غير العادة والمساواة أن يزور الأستاذ الطالب دون زملائه. وقد أصرت "أثيرة" على الهاشمي بالذهاب معها إلى المنزل، يقول: "ما دامت الكلّية قد أُغلقت، لم أعد أنا طالبة ولم تعد أنت أستاذًا، وبذلك تستطيع أن تقبل دعوتي لتشرفنا في المنزل. وقلت لك وأنا شارد الذهن: إن شاء الله". إذًا أصرت "أثيرة" على دعوة سليم الهاشمي وتمكنت من إقناعه/كيد النساء. وكان الطلبة مضربين وأثيرة تزور الهاشمي يوميًا في مكتبه؟ ربما هي معجبة به؟ وإلاّ لماذا الزيارة؟ فقد حيرت شخص الهاشمي بزياراتها المتتاليّة. يقول: "لا أعرف شيئا عن طبيعة علاقتنا، لا أعرف شيئًا عن موقعي في خريطة قلبها، فالمعرفة تتأتّى من الفهم، والفهم يتأتّى من الوضوح، وليس هناك شيء واضح لي". فسليم الهاشمي لم يفهم شيئا من جرّاء لقاءاتها به المتتاليّة، وأخلاقيّات مهنته تمنعه من التعبير عن مشاعره نحوها. فاعتاد الهاشمي على أثيرة يقول: "... فتأخرت عن الحضور. فداهمني شعور بأنّني تعيس حقّا وكأنّني أعيش على زياراتك القصيرة، أو أحيا على أمل اللقاء بك يوميا". إذًا اعتاد الهاشمي على "أثيرة"، فهي تشبه بأفيون العصر المخدرات، فالمروج يعطي للشخص الأوّل مجانًا مع تشجيعات ثم يتركه يعتاد وبعدها يمنعها عنه ويطلب ما يريد من مصاريف. وأثيرة هنا اقتربت من الهاشمي فاعتاد عليها، ولكن حين تَغِيب يقلق ويحس بالاضطراب. فتساءل الهاشمي عن سرّ قلقه فوجد نفسه عاشقا لا حول ولا قوّة له، إنّها طبيعة الإنسان الغريزيّة، المرأة بحاجة للرجل والرجل بحاجة للمرأة. " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون" [الروم: ٢١].
يقول: "... كنت مستعدّا أن أضحي بكلّ ما أملك من أجل أن أعثر على طبيب يخرجني من مصيبتي. فها هي قريبة منّي بجسدها تأتيني كلّ يوم، وهي بعيدة عني بقلبها ...". فغموض "أثيرة" ومرض الهاشمي بحبّها جعلته يدوس على أغلى ما يملك "شهادة الدكتوراه" ويدوس على تعاليم إسلامه ويذهب للعرافة لعلّه يظفر بحبّ "أثيرة". وبذهابه للعرافة ظهرت "أثيرة" مرّة أخرى وأصبحت تزوره مرّة على مرّة. وتعمّقت زيارتهما وذهب معها إلى منزلها رغبة منها ومكث يومين وفي اليوم الثالث عاود الرجوع إلى الرباط لكن الثلوج منعتهما من مواصلة الرّحلة فمكثا في نزل يقول: "... فقد اختفت البحيرة وأشجار الغابة وراء ستار العتمة الخرساء في تلك الأمسيّة الفريدة، كما اختفت جميع الذكريات خلف أكمات النسيان في ذاكرتي، فلم أرَ أمامي سوى وجهك الأسمر السحر ...". إذًا فقد قبلتِ الخروج معه، والتنزّه وأنتِ مسرورة. وفي مكوثها أحيَت أثيرة أنوثتها بعد عدّة أيام من مبيتها في النزل فاكتشفت بأنّها حامل وبأنّ زوجها/الميت؛ الذي أسَرها ظل يكذب عليها بأنّها لا تستطيع الإنجاب، وباحت بعدها بأنّها حامل وبأنّها ستسقطه لعدم مناسبة الوقت،، لكن سفر الهاشمي إلى الرياض بداعي الإضرابات في المغرب مدّة خمسة أعوام بعد أن وعدته "أثيرة" بأنّها تحبّه وبأنّها ستتزوجه مستقبلا، سافر على أمل الحبّ والفرح وبريق حصوله على حبّه "أثيرة"، لكن في خضم هذه الفترة قطعت اتصالاتها به واختفت للأبد من حياته. إذًا ما يمكن قوله عن "أثيرة" أنّها فعلاً رمز لخيانة الوعد ورمز للموت والحزن في ذات الهاشمي، إنّه مكر النساء ﭧ ﭨ ﭽ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭼ [يوسف: ٢٨]. فكيد "أثيرة" قد أصبغ على حياة الهاشمي نوعًا من الحيرة، ربّما سحرته بدعوته إلى منزلها، فأثيرة "ماحيَة ذاكرة الحزن وألم الغربة الهاشميّة" استطاعت أن تفعل به ما تشاء فحولت قلبا بريئا إلى قلب متألم حزين، فلماذا وَعدَته بالزواج؟ ولماذا بادرت بالخروج معه؟ ولماذا تتركيه؟ فعلاً إنّ كيدكن عظيم. وبالعودة إلى لسان العرب بحثا عن اسم أثيرة نجد: (أثر) "الأَثَرُ: بقيّة الشيء، آثَارٌ وأُثُرٌ. والأَثَرُ، بالتحريك ما بقي من رسم الشيء. والتَأْثِيرُ: إبقاء الأثَرِ في الشيءِ. وأَثَرَ في الشيء: ترك فيه أثرًا. والأَثِيرَةُ من الدَوَابِ: العظيمةُ الأثَرِ في الأرض بِخُفِّهَا أو حافِرِها بَيِّنَةُ الإِثَارَة. والأُثْرَةُ والمَأْثَرَةُ، بفتح الثاء وضمها: المَكْرُمَةُ المُتَوارَثَةُ. وفي الحديث: ألا إنّ كل دم وَمَأْثَرَةٍ كانت في الجاهليّة فإنّها تحت قدميّ هاتين. مآثِرُ العرب. مكارمهم ومفاخرها التي تُؤْثَرُ، أي تُذْكَرُ وتُروى، والميم زائدة، وآثَرَهُ أكرَمَه. ورجل أَثِيرٌ: مَكِينٌ مُكْرَمٌ، والجمع أُثَرَاءُ والأنثى أثيِيرَة". فلقد وفق علي القاسمي إلى حدّ بعيد في اختيار اسم حبيبة بطل الرواية/سليم الهاشمي أو البؤرة المهيمنة، فأطلق عليها اسم "أثيرة"، فهي ما بقيت من رسم على قلب سليم الهاشمي فهي آثار لدغ بليغ، فشخص "سليم الهاشمي" في الحدث السردي يتفجّر ارتباطًا بشخص "أثيرة"، وكلمة "سليم" في المعاجم العربيّة؛ تعني "الشخص اللّديغ" كما سنبين لاحقا، أو فلنقل ما حفرته بحوافرها في ذِكراه الأليمة لتحلّ هي محلّ كلّ الذكريات الماضيّة، فحبّ سليم الهاشمي وإكرامه لحبّه لها جعل منه البطل الملدوغ بلا منازع يتحرّك في جميع مراحل الرواية متكبدًا ومعانيًا جميع لسعات "أثيرة" وملخصًا؛ همّ حياته وغربة نفسه ودكتاتوريّة حكم بلاده. لكن "أثيرة" سيطرت على كلّ هذه الأحوال وحلّت محلها فنقضت ومحت كل ذكريات الهاشمي، ووضعت ناقضا بينه وبينها هو الوفاء لزوج مُتَوَفًّى، وأسرت قلب الهاشمي وأخلفت الوعد واختفت. وبالعودة أيضا لمعجم لسان العرب بحثا عن معنى اسم البطل المحوري في الرواية "سليم الهاشمي" نجد: "والسَّلْمُ: لَدغُ الحيَّةِ. وَالسَّليمُ: اللّدِيغ، فَعيل مِنَ السَّلامةِ، وإنَّما ذلكَ عَلى التَّفاؤُلِ لهُ بِهَا خِلافًا لمَا يُحْذَرُ عَلَيْه مِنه؛ والملدُوغُ مَسْلُومٌ وسلِمٌ بمعنَى سالِمٍ، وإنّما سُمِّي اللّديغ سليمًا لأنَّهمْ تَطَيَّرُوا منَ اللَّديغ، فَقَلَبُوا المعنَى، كَما قَالُوا لِلْحَبَشِيِّ: أبو البيضاءِ، وكَمَا قالوا لِلْفَلاةِ: مَفَازَةٌ: تَفاءَلوا بِالفَوزِ، وهِي مَهْلَكَةٌ، فَتَفاءلوا له بالسَّلاَمَةِ، وقِيل: إِنَّمَا سُمِّيَ اللَّديغُ سَليمًا لأنَّهُ مُسْلَمٌ لِمَا بِهِ، أو أُسْلِمَ لِما بهِ (عن ابن الأعرابي) قال الأزهري: قال الليث: السَّلْمُ اللَّدْغُ؛ قال: وهُوَ منْ غُدَدِهِ، وما قاله غيره. وقول ابن الأعرابي: سَلِيمٌ بمعنى مُسْلَمٍ، كما قالوا مُنْقَعٌ ونقِيعٌ، ومُتَمٌ ويَتِمٌ، ومُسْخَنٌ وسَخينٌ، وقد يُسْتَعارُ السَّليم للجريح ... وقيل السَليمُ الجريح المُشفِى على الهلكةِ ... السَّليمُ: اللَّديغُ. يُقَالُ: سَلَمَتْهُ الحيّة، أي لدَغَتهُ". إذًا فلقد وُفّق أو فلنقل تفنّن علي القاسمي في تسميّة أبطال روايته، فالبطل المحوري والرئيسي في الرواية "سليم الهاشمي"، فقد وجدنا أنّ كلمة سليم/لدغ الحيّة. هي أيضا ثنائيّة ضديّة فاطلاق لفظة "سليم" تبركا للمريض بالشفاء. فسليم كما صورته الرواية يمثل الشخص الملدوغ/حبّ أثيرة، التي لدغته وتركت سمّها ينخر جميع جسمه، فحبّ سليم الهاشمي أشبه بلدغ الحيّة، فعلي القاسمي باعتباره رائد المعجميّة قد اختار الاسم المناسب للبطل وجعله يتكبد معاناته في جميع أطوار الروايّة، فالبطل سليم الهاشمي يعدّ الشخصية أو/البؤرة المهينة على نص الروايّة. فاللدغ والألم تقابله الشخصيّة الثانيّة/البؤرة المهيمنة الثانيّة/أثيرة. فبحضورها في ذهن سليم الهاشمي يزول ألم لدغ الحية/حبّه لأثيرة.
يُعَدُّ شخصا "أثيرة"/"
يُعَدُّ شخصا "أثيرة"/"سليم الهاشمي" البؤرتان المهيمنتان على نص الرواية أو فلنقل "البؤرة الأساس"، ففي تتبعنا لمراحل الرواية كشفت لنا الرواية عن حياة سليم الهاشمي الشخصيّة، بعد أن أحبّ "أثيرة"، فصوّر لنا سيرته الحياتيّة ببراعة متناهيّة، بدءًا برحلته إلى لبنان، مرورًا بأوستن والرياض ونهاية بالمغرب الأقصى. ففي سرده تبيّن أنّ سليم الهاشمي نسجها بنوع من الروعة والسلاسة، مركزًا على حبّه لأثيرة، فكل مرحلة من مراحل حياته الموحشة والصعبة واستحضار "أثيرة" تزول آثار ذكريات الحزن والألم والغربة فأثيرة وحزن سليم الهاشمي مترابطان وثنائيتان متضادتان. حزن/استحضار حبّ أثيرة/زوال ذلك الألم. ويمكن أن نلخص مرافئ حب الهاشمي السبعة في:
- ذكرى حبّه لجنس المرأة/الارتباط/الزواج/
لكن لم يحصل ذلك الارتباط إنّها تناقضات الهاشمي لحبّه الممنوع يقول: "ستمضي حياتي موشومةً بثلاث نسوة: امرأة أرادتني وأردتها، ولكن القدر لم يرِدنا معًا؛ وامرأة أرادتني ولم أُردها فكسرتُ قلبها، وظل ضميري مصلوبًا على خيبة أملها؛ وامرأة أردتُها، ولكنّها لفظتني ولم أستطع نسيانها. وأنت المرأة الأخيرة، يا أثيرة". فالمرأة الأولى هي "وداد"، أمّا الثانيّة فهي "سوزان"، أمّا الثالثة فهي "أثيرة". وتُمثل "أثيرة" عنصر التضاد في روايته فبحضورها تكون قد ألغت جميع النسوة اللاتي وقع الهاشمي في حبّهنّ (وداد/سوزان/رابحة).
- ذكرى حبّ الصداقة زكي/حميدة/عيدة.
- ذكرى حبّه لأسرته (أمّه الغاليّة/أبوه العزيز/أخوه الشهيد أحمد/ وجميع إخوته/وكل قريب لشخص الهاشمي).
- ذكرى حبّه لوطنه العراق وللوطن العربي عامة (اللغة العربيّة، الإسلام، الأرض= ماء الفرات، بطته وفاء، النخلة، قريته، جواده، ...).
- ذكرى حبّه للدراسة/سبب غربته/وسبب نجاحاته العلميّة ويمكن أن نذكر مرافئ حبّه أو فلنقل "تجليّات وانعكاس ذكرى الحبّ الممنوع في رواية مرافئ الحب السبعة" أو الثنائيّات المتضادة: أثيرة (وفاء الموت)/ سليم الهاشمي (ألم الحبّ) مرتّبة كما يلي:
إذًا فكل ما يمكن قوله في الأخير؛ إنّ حبّ سليم الهاشمي أشبه بالمدّ والجزر فالبؤرة المهيمنة على الرواية "أثيرة"/"سليم الهاشمي"، سيطرت على النص ونقضت ونفت كل المرافئ التي أحبّها الهاشمي طيلة سيرته الحياتيّة، فعرف علي القاسمي كيف ينسجها بلغته الراقيّة وبراعته الأدبيّة وحسن انتقاء مفرداته، وذلك باعتباره أحسن المصطلحيين والمعجميين والمترجمين والروائيين على المستوى العالمي. فيمكن أن نشبه رواية "مرافئ الحب السبعة" بلوحة "الموناليزا" الشهيرة، فهي قطعة نفيسة ولَجَت المكتبات العربيّة؛ فالرواية تُعدّ حصيلة فكر معجمي ومصطلحي ومترجم وناقد عالمي، فقد استطاع أن يرسمها وينتقي لها أحسن الألفاظ المناسبة للمعاني، بأسلوب مشوق رائع، داخل فضاء ممزوج بالحقيقة والخيال باعتبارها نص روائي يحتمل كل التوقعات والتأويلات، وتوحي لنا ببلاغة سرد فريدة مازجت بين كل تقنيات السرد، داخل ثنائيات متضادة أشبه بالمدّ والجزر، وبشخصيات ذات معاني باطنيّة تَنُمّ عن ثنائيّات متضادة. فلقد جمع السرد بيئات مختلفة عربيّة/غربيّة، وعبرت عن ثقافات متنوعة وصورت وقائع اجتماعيّة وسياسيّة واقتصادية ونفسيّة مختلفة بتقنيّة ولغة رائعة مشوقة وعبّرت عن مختلف الحِكَم والمآثر، وهذا دليل على ذهنٍ وفكرٍ وصانعٍ مُتمرس في مجال سبك الألفاظ ومصاقبة المعاني. وبالتالي تُعَدّ هذه الرواية مكسب ثمين للمكتبات العربيّة. ولا تَتَغَيَّا هذه الدراسة كشف الأسرار وإعطاء الحقيقة، وإنّما هي مجرد محاولة واقتراب وقراءة لنص علي القاسمي.
الهوامش:
- ذكرى حبّه لجنس المرأة/الارتباط/الزواج/
لكن لم يحصل ذلك الارتباط إنّها تناقضات الهاشمي لحبّه الممنوع يقول: "ستمضي حياتي موشومةً بثلاث نسوة: امرأة أرادتني وأردتها، ولكن القدر لم يرِدنا معًا؛ وامرأة أرادتني ولم أُردها فكسرتُ قلبها، وظل ضميري مصلوبًا على خيبة أملها؛ وامرأة أردتُها، ولكنّها لفظتني ولم أستطع نسيانها. وأنت المرأة الأخيرة، يا أثيرة". فالمرأة الأولى هي "وداد"، أمّا الثانيّة فهي "سوزان"، أمّا الثالثة فهي "أثيرة". وتُمثل "أثيرة" عنصر التضاد في روايته فبحضورها تكون قد ألغت جميع النسوة اللاتي وقع الهاشمي في حبّهنّ (وداد/سوزان/رابحة).
- ذكرى حبّ الصداقة زكي/حميدة/عيدة.
- ذكرى حبّه لأسرته (أمّه الغاليّة/أبوه العزيز/أخوه الشهيد أحمد/ وجميع إخوته/وكل قريب لشخص الهاشمي).
- ذكرى حبّه لوطنه العراق وللوطن العربي عامة (اللغة العربيّة، الإسلام، الأرض= ماء الفرات، بطته وفاء، النخلة، قريته، جواده، ...).
- ذكرى حبّه للدراسة/سبب غربته/وسبب نجاحاته العلميّة ويمكن أن نذكر مرافئ حبّه أو فلنقل "تجليّات وانعكاس ذكرى الحبّ الممنوع في رواية مرافئ الحب السبعة" أو الثنائيّات المتضادة: أثيرة (وفاء الموت)/ سليم الهاشمي (ألم الحبّ) مرتّبة كما يلي:
إذًا فكل ما يمكن قوله في الأخير؛ إنّ حبّ سليم الهاشمي أشبه بالمدّ والجزر فالبؤرة المهيمنة على الرواية "أثيرة"/"سليم الهاشمي"، سيطرت على النص ونقضت ونفت كل المرافئ التي أحبّها الهاشمي طيلة سيرته الحياتيّة، فعرف علي القاسمي كيف ينسجها بلغته الراقيّة وبراعته الأدبيّة وحسن انتقاء مفرداته، وذلك باعتباره أحسن المصطلحيين والمعجميين والمترجمين والروائيين على المستوى العالمي. فيمكن أن نشبه رواية "مرافئ الحب السبعة" بلوحة "الموناليزا" الشهيرة، فهي قطعة نفيسة ولَجَت المكتبات العربيّة؛ فالرواية تُعدّ حصيلة فكر معجمي ومصطلحي ومترجم وناقد عالمي، فقد استطاع أن يرسمها وينتقي لها أحسن الألفاظ المناسبة للمعاني، بأسلوب مشوق رائع، داخل فضاء ممزوج بالحقيقة والخيال باعتبارها نص روائي يحتمل كل التوقعات والتأويلات، وتوحي لنا ببلاغة سرد فريدة مازجت بين كل تقنيات السرد، داخل ثنائيات متضادة أشبه بالمدّ والجزر، وبشخصيات ذات معاني باطنيّة تَنُمّ عن ثنائيّات متضادة. فلقد جمع السرد بيئات مختلفة عربيّة/غربيّة، وعبرت عن ثقافات متنوعة وصورت وقائع اجتماعيّة وسياسيّة واقتصادية ونفسيّة مختلفة بتقنيّة ولغة رائعة مشوقة وعبّرت عن مختلف الحِكَم والمآثر، وهذا دليل على ذهنٍ وفكرٍ وصانعٍ مُتمرس في مجال سبك الألفاظ ومصاقبة المعاني. وبالتالي تُعَدّ هذه الرواية مكسب ثمين للمكتبات العربيّة. ولا تَتَغَيَّا هذه الدراسة كشف الأسرار وإعطاء الحقيقة، وإنّما هي مجرد محاولة واقتراب وقراءة لنص علي القاسمي.
الهوامش:
1علي القاسمي، مرافئ الحبّ السبعة، ط1. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، المغرب/الحمراء، بناية المقدسي، بيروت لبنان، 2012، ص 13/14.
- ينظر: محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس: 1984، ج16، ص89.
- ينظر: محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ص88.
- الرواية، ص 18.
- الرواية، ص 20.
- ينظر: محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج11، ص 227/228.
- الرواية، ص 22.
- الرواية، ص 24.
- الرواية، ص 28.
- الرواية، ص 40.
- الرواية، ص 40.
- الرواية، ص 42.
- الرواية، ص 42.
- الرواية، ص 42.
- الرواية، ص 52.
- الرواية، ص 62.
- الرواية، ص 91.
- الرواية، ص 118.
- الرواية، ص 151.
- الرواية، ص 164.
- الرواية، ص 223.
- الرواية، ص 230.
- الرواية، ص 243.
- الرواية، ص 244/245.
- الرواية، ص 247.
- الرواية، ص 250.
- الرواية، ص 258.
- الرواية، ص 259.
- الرواية، ص 260.
- الرواية، ص 264.
- الرواية، ص 290.
- ابن منظور، لسان العرب، تح: عبد الله علي الكبير/محمد أحمد حسب الله/هاشم محمد الشاذلي، طبعة جديدة، دار المعارف، كورنيش القاهرة، مادة (أ ث ر).
- المصدر نفسه، مادة (س ل م).
- الرواية، ص 58.
التعليقات
|
|
|
|
|
|
|
|
|