أصدقاء الدكتور علي القاسمي

شذرات متناثرة من سيرة الاغتراب الموجعة «مرافئ الحب السبعـة» لعلي القاسمي أنموذجً


شذرات متناثرة من سيرة الاغتراب الموجعة «مرافئ الحب السبعـة» لعلي القاسمي أنموذجً
د. عبدالمالك أشهبون
ناقد وأكاديمي من المغرب
نشر بتاريخ: 2019-10-03 20:18:56
نقلا عن جريدة فكر الثقافية
       
                                     

الكتاب: "مرافئ الحب السبعة"
 المؤلف:  علي القاسمي
لناشر: المركز الثقافي العربي  
عدد الصفحات: 320 صفحة
تاريخ النشر: 2012



العدد 27 أكتوبر 2019-يناير 2020
من أبرز عناصر قوة أيِّ عمل روائي وجودُ مكانٍ يشدُّ القارئ إليه شدًّا، ويجعله يتذكر أمكنته التي عاش فيها طفولته، أو التي حلم العيش فيها. ولعمري إن تلك هي أهم مميزات أمكنة علي القاسمي المائزة، لا في رواية "مرافئ الحب السبعة"(1) فحسب، بل في كل مجاميعه القصصية أيضًا.
وبالعودة إلى المحطات الرئيسة البانية لصرح هذا العمل الروائي المتميز، نجدها تتألَّف من ثلاث محطات، وكلُّ محطة تنقسم إلى محطات فرعية مرقّمةٍ على النحو الآتي: القسم الأول/المحطة الأولى، بغداد- بيروت، ويبدأ من الصفحة الأولى إلى الصفحة 40؛ والقسم الثاني/المحطة الثانية: نيويورك- أوستن، تكساس، ويبدأ من الصفحة رقم 41 إلى الصفحة رقم 74. أمّا القسم الثالث/المحطة الثالثة: الرباط - الرياض، فيشتمل على الوحدات من الصفحة 75 إلى الصفحة 100. فكل واحد من الأمكنة التي عاش فيها الكاتب ـ في العراق أو خارجه ـ يملك شبكة كثيفة، ومركبة من العناصر الجاذبة، تشكل في النهاية جزءًا عضويًا من عملية نموه الفكري، وتكوين وعيه النفسي، وتمكينه من التشبث - بقوة - بعناصر الانتماء الأولى للوطن الأم.
1 ـ فضاءات ذات نكهة نوسطالجية عميقة:
إن المتأمل في كتابات علي القاسمي الإبداعية، لا بد أن تستوقفه نبرة ألمٍ عميقة مما هو كائن من جهة (الحاضر)، وانخطاف لذيذ بلحظات هاربة ولَّتْ ومضتْ، وبأمكنة طفولية بهية، مستعادة من الريف العراقي الأصيل من جهة ثانية (الماضي).
وعلى هذا الأساس الإبداعي المكين، يشرَع علي القاسمي في استرجاع ذكريات الصِّبَا التي يعتبرها الأجمل والأبهى؛ لأنها تنتمي لزمن آخر غير هذا الزمن الآني الغشوم، بكل ما يحمله ريف العراق من رموز البساطة، وعناصر الإثارة، وفضاء التَّشَكُّلِ الوجداني والعاطفي والروحي. ويمارس القاسمي في هذه الرواية رحلة مقلوبة في سنوات عمره الماضية، ليتسنى له التوقف عن التحديق في المجهول القادم، والتحرك نحو الماضي، حيث الذكريات السابحة في مياه الحياة، والمسيجة بظلال الأبدية المأمولة.
وانطلاقًا من هذا المكون الوجداني العميق، تغدو تلك التَذَكُّرات التي يرويها الكاتب - على لسان سارده - بعد سنوات من فراق الأهل والأحباب؛ تذكرات شاهدة على مراتع الطفولة وعناصر الإبصارات الأولى، وحالات توهج العشق الطفولي، إذ يعيد الكاتب تجسيد عوالمها التي عايشها عن كثب، عبر مخيلة خلاقة، في تشكيلات حكاية مشوقة، وكأنه يقرر لنا قاعدة أدبية وفلسفية مفادها أن من لا يعيش طفولة العالم فيه، يستحيل أن يكون أو يستمر كاتبًا.. مبدعًا!
خلال كل هذه الأمكنة المتعددة والمختلفة، يباغت الكاتب على لسان سارده قارئ الرواية ببوح شفيف يشعل جذوة الشوق، وهو يتكئ على رائحة ذكريات فوَّاحة العبير، يستعيد عبرها صور طفولته في القرية، وذكريات عن سنوات الدراسة الأولى في بغداد.
وكما يحلو للقاسمي أن يصرح دائمًا أن العراق في القلب؛ فإن تحقق هذا الشعار في نسيج عمله الروائي الأخير، جلِّي وتراهُ حتى عينُ الكفيف. فالعراق - في هذه الرواية - هي معشوقة (سليم) دومًا وأبدًا، فبتذكر ريفه ينتعش الفؤاد، وباستعادة علاماته الجغرافية البارزة ترتوي النفس الصادية، وباستحضار بغداد ـ بأزقتها وشوارعها وحواريهاـ تبتهج الروح العليلة، وتغرقُ في لجَّة من الذكريات التي لا قرار لها.
ولما كان (سليم) يستحضر شذراتٍ متناثرةً من سيرة أسرته؛ فإن حديثه عن نفسه، واستذكار أقرانه، والأحداث التي عاشها في كنف الريف العراقي الأثير، ليس استكشافًا لأمكنة غابرة وحسب، ولكن استعادة للزمن الجميل الذي عاشه في هذه الربوع الحميمة، في أحضان دفء البيت الأسروي العامر، وفي المدرسة التي انفتح من خلالها الصبي على عوالم جديدة، مدهشة ومثيرة ومؤلمة أحيانًا. في هذا السياق النوستالجي الخاص، يستعيد (سليم) ذكرى من سكنوا الديار من أهل وأحباب، ويسترجع كل من كانت لهم منزلةٌ في القلب والروح، مع حنين عارم إلى لُقْياهم عندما عزَّ اللقاءُ.
إن هذه التذكرات الضاربة في عمق الطفولة، هي - بمعنى من المعاني - سفرٌ في براري النفس، وترحال دائم في أعماق الروح. هكذا رصد الكاتب الأماكن المحيطة بالمدرسة وهو في طريقه إليها، ووصفها وصفًا انطباعيًا ذوقيًا أخاذًا، وهذا كله مهمٌّ في استحضار الذاكرة المكانية المعيشة التي تؤصل الهوية، وتعمق الارتباط بالوطن الأم. كما أنها تمثل - في العمق - عودة إلى الجذور أو إلى ينابيع الولادات الأولى، من حيث الإبصارات، أو التمثلات، أو التخيلات.
وكما أن العراق ليس ذاكرة أمكنة حميمة فحسب، بل هو فضاء صاخب بالاضطرابات السياسية، والانقلابات العسكرية، وتداعيات ذلك كله على حرية وكرامة وأسلوب عيش المواطن العراقي؛ عراق الاستبداد السياسي، والاعتقالات. في ظل هذه الوضاع، تضطر تلك الظروف الاستثنائية الكثير من أبناء الوطن الأم اللجوء إلى المنافي، هربًا من بطش سلطة الطغمة العسكرية الظالمة التي ملأت السجون بالمفكرين الأحرار، ولاحقت من هرب منهم خارج البلاد بالاغتيالات، في الفنادق والمطارات والشوارع وفي كل مكان، وابتدعت الاغتيال بالطرود الملغمة والرسائل المسممة.
في هذه الظروف الاستثنائية بالذات، هرب (سليم) ورفيقه (زكي) إلى بيروت، لكن يدَ الغدر امتدت إلى رفيقه، فاغتالوه في شارع الحمراء في وسط بيروت؛ لهذا السبب، لم يكن أمام (سليم) من خيار آخر غير  الهروب إلى أمريكا من جهة، ومواصلة دراسته العليا هناك من جهة أخرى.
2 ـ أمكنة الاغتراب القاسية
تدور رواية "مرافئ الحب السبعة" في فضاء زمكاني شاسع وواسع، يمتد مداه من عراق الخمسينيات من القرن العشرين، ويتصل بالجارة لبنان (المنفى الأول) حيث مقتل رفيقه (زكي)، بعدها يرتحل (سليم) إلى أمريكا، وهناك تبلغ حالة الاغتراب ذروتها مع اختلاف الثقافات، والعادات والتقاليد والطقوس، وحتى نمط العيش. فمن الصور الصارخة التي ترسخت في هذه الرواية، صورة حالة الاغتراب التي عاشها (سليم) خارج الوطن؛ صورة إنسان جوَّال، دائم التنقل والارتحال، من مغادرة ووصول ووداع ومنفى وشوق وحنين إلى الوطن في نهاية المطاف. فكيف عاش (سليم) غربته القاسية في المهجر الأمريكي؟
لا تخطئ عين القارئ المتفحص لعوالم الرواية، أنها رواية تحكي السيرة الوعثاء للغرباء، وهم يحملون صليب المحبة والشوق والحنين على كواهلهم النحيلة المتعبة، لا يدرون متى ولا أين المرفأ الأخير. ولقد بدأ إحساس (سليم) بالغربة منذ وطأت قدماه المهجر الأمريكي في رحلة طلب العلم، وتنامى هذا الشعور لحظة بلحظة، وهو يحاول جاهدًا التكيف مع الواقع الجديد بكل مميزاته: تحوَّلُ الناس هناك إلى كائناتٍ استهلاكية، وآلاتٍ ميكانيكية هجينة، والكلُّ يلهث وراء أوهام التملك والتبضع، والتباهي الاجتماعي، وهنا يلاحظ (سليم) أن الجوهر الإنساني في مهجره هذا يحتضر، ومعه تتكلس قيمه الوجدانية والجمالية والذوقية... ويتضاعف هذا الإحساس ويستفحل حينما ينال شهادة الدكتوراه، لحظتها «طفا ذلك الإحساس بالغربة وصار يمدُّ عنقه أكثر فأكثر حتى أبان عن وجهه المخيف، بحيث أمسى سليم ينظر إلى وجوه المارة في هذه المدينة فينكرها بل لا يستسيغها. إنها وجوه غريبة كما هو غريب عنها. وأخذت أصوات أهلها تبدو له نافرة ناشزة لا معنى لها على الرغم من إتقانه اللغة الإنكليزية.» (2)
هكذا عاش (سليم الهاشمي) تجربة المهجر كما عاشها من قبله المغتربون والمهجَّرون والمنفيون، بحيث تكاد تختصر سيرته معاناتهم النفسية، وتغوص في أعماق وجدانهم، لتكشف عن خيباتهم وانكساراتهم وآلامهم. وقد ظهر ذلك جليًا منذ اللحظة الأولى التي يرتطم فيها (سليم) بالعالم الجديد منبهرًا أول الأمر «فعند وصوله إلى هذه المدينة أول مرة، كان يجدها جذاّبة فاتنة تزدان شوارعها بالأشجار المورقة، وبالمارة التي تطفح وجوههم بالبشر والبسمة.»،(3) مرورًا بمحاولة إثبات ذاته في مجال تخصصه، لتجاوز عقدة التفوق لدى الآخر من جهة «لا بد أن هذا الشعور بالغربة كان يتقزَّم أمام عملاق طموحه في نيل تلك الدرجة العلمية أو أن ذلك الطموح ملأ عليه جميع مشاعره وغطى على غيره من الخواطر، وكان يؤمّل نفسه أن الأمور ستتغير في بلاده وسيعود إلى موطنه.»، وتقبل خيباته العاطفية، بكثير من الأسى والألم من جراء منظور الآخر لهاته القيم العاطفية والوجدانية السامية من جهة أخرى، وصولاً إلى تفاقم إحساسه بالغربة. يقول السارد في هذا الصدد: «أما اليوم فلم يعد بشعر بالارتياح إلى الفضاء وما يؤطره من أشجار وحيوان وإنسان. حتى السناجب  الصغيرة التي كانت قد أثارت انتباهه وإعجابه عندما وصل أول مرة إلى أوستن، وهي تقطع الشوارع بخفة وتتسلق الأشجار بسرعة، أخذت تزعجه وتثير أعصابه.» (4)
هكذا نجد أن الغربة علَّمت (سليم) الكثير والكثير، وكان من بين ما علمته: أنها رسخت لديه سؤال الأنا، وعلمته، أيضًا، أن يقدر قيمة الأشياء التي سكنت فؤاده، كما علمته سيرة الترحال هذه أن للغربة معاني كثيرة لا يكتشفها الإنسان إلا عندما يجرب الغربة بنفسه. فما أقساه من تعليم حين يصرخ (سليم) في وجه الأقدار: «أنا سندباد بحري جال العالم وقاسى الأهوال والصعاب، وهو اليوم يريد العودة إلى أهله، محملاً لا بالجواهر والذهب، وإنما مثقل بالهموم مثخن بالأحزان.»(5)
لكن الملاحظ أن محطة المغرب في "مرافئ العشق السبعة" شكلت محطة مفصلية، باعتباره فضاء جاذبًا وآسرًا وحميمًا ولم يكن فضاء عدوانيًا ولا معاديًا، كما لم يكن محطة للعبور. ففي فضاء المغرب، نجد أن (سليم) سيعوض خساراته، ويلوذ بدوحته، بل ويجعله المستقر الذي لم يبرحه يومًا إلا كي يعود إليه مشتاقًا، حتى أصبح مع مر السنين، جزءًا من سيرته الذاتية بكل أبعادها ومستوياتها.
ومن أبرز الأبعاد التي تحضر بقوة في هذه الرواية، نجد تضافر البعدين العاطفي والسياسي، بالإضافة إلى ما هو معرفي أكاديمي، ذلك ما نرصده في ثنايا الرواية بفنية جذابة، وأسلوب مشوق، وتسلسل آسر في الأحداث والوقائع من بداية الرواية إلى نهايتها. فحتى المغرب الذي لجأ إليه هروبًا من حكم العسكر في العراق، ها هو يصبح هدفًا لرصاص العسكر بعد المحاولة الانقلابية الشهيرة التي عرفها المغرب بداية السبعينيات من القرن الماضي، يومها شعر (سليم) بالضياع مرة أخرى من حظه العاثر الذي يطارده، أينما حل وارتحل، مبرزًا سخطه الشديد على حكم العسكر بأية حجة كانت، وتحت أية ذريعة.
غير أن لحظات العشق التي عاشها سليم مع (أثيرة) (الطالبة الجامعية المغربية آنذاك) شكلت منعطفًا حاسمًا في توطد علاقته مع المغرب، وهي تجربة حب، لا تخرج عن إطار تجارب (سليم) العاطفية المتعددة، المسرودة في هذه الرواية، والتي تتسم بكونها تجارب فاشلة ومقطوعة ومهدورة، والسبب واحد، ألا وهو حب العاشق لوطنه.
وهذا ما تجلِّيه العديد من اللحظات المفصلية الصعبة، التي كان فيها العاشق مخيرًا بين المكوث في وطنه أو الهجرة مع الحبيب إلى وطن آخر. هكذا لم تتردد (سوزان) في رفضها العيش مع (سليم) خارج وطنها الأم (أمريكا)؛ كما لم تتردد، كذلك، في التضحية بالحب مهما توطدت أركانه، والشيء بالشيء يذكر. فقد آثر سليم العودة إلى أرض الوطن بدلاً من الإقامة الدائمة مع حبيبته سوزان في أرض المهجر، بعد حصوله على شهادة الدكتوراه.
والأمر نفسه، ينطبق على قصة الحب التي جمعت (سليم) بـ(أثيرة)، التي بدورها فضلت البقاء في وطنها (المغرب) بدلاً من أن تلتحق بحبيبها في بلد آخر، حتى وإن وعدته بأنها ستلحق به إلى الرياض. حتى أن (سليم) لم يكن ينتظر أن يقرأ من (أثيرة) رسالة قصيرة جدًا مفادها: «أُحِبُّكَ أُحبُّكَ، ولكني لا أستطيع أن أفارق بلدي.».
ورغم ما حملته تلك الرسالة من خبر حزين وتعيس ومؤلم بالنسبة لسليم؛ فإن نار عشقِ (سليم) لحبيبته (أثيرة) لم يُصِبْهُ بالوهن، سواء بالنسيان، أو بالكِبَر، ولكن ها قد «مرّت قوافل الشهور وطوابير السنين وهو ما يزال في فتوته، يتبعني حيثما ذهبتُ، يوشِّح ليلي بأكاليل الألم»،(6) وما يزال لم يغلق كـل أبواب مرافئ الانتظار خلفه في انتظار عودة حبيبته، وهو يترقـب القـادميـن، ويدقـق في وجـوه المسافريـن، باحثًا - في الزحام - عـن ظلها وعطـرهـا وأثـرهـا، عـلَّ صـدفــة جـمـيـلــة تـأتــي بـهــا إلـيــه .
ومهما حاول (سليم) أن يتظاهر بأن مفعول عشق حبيبته (أثيرة) قد انتهى، وأن نبض قلبه لا يخفق من ذكراها، غير أن كل ربوع المغرب ظلت عالقة في ذاكرته، وفي روح تلك الربوع يرفرف طيف حبيبته، الذي ظل يلاحقه، ولم يستطِع نسيانها حتى بعد مغادرته المغرب.
ومرة أخرى يعود (سليم) إلى المغرب بعد خمس سنوات من تلك الليلة الباذخة التي غدت موشومة في ذاكرته، وبالضبط في بحيرة ضاية عُوَا ضواحي مدينة إيفران الجميلة، والتساؤلات تنثال عليه من كل جانب: «لا أدري لماذا، ربما لأفتح جراحات القلب ثانية، وأنشج بكائيات الفراق مرة أخرى، فقد أدمنتُ على معاقرة الحزن ولا أمل بالشفاء، وصار دوائي الوحيد هو الداء نفسه.» (7)
كل هذه المعطيات وغيرها تفضي بنا إلى أن تعامل الروائي مع المغرب باعتباره - مكانا روائيًا - لا ينحصر في استعراض محتوياته وصوره ومؤثثاته، بل بما هو مكان عاش في كنفه سليم تجاربَ عاطفية ملتهبة ومتقدة.
من هنا تبدو تلك الأماكن غير مستقلة عن سيرته الذاتية، ذات المنحى العاطفي بالذات، لذلك لا تبرز - تلك الأمكنة - معزولة كانت، أو محايدة، أو موضوعية؛ وإنما باعتبارها أمكنة ذوات حمولات عاطفية نبيلة، تنأى بها عن كونها مجرد فضاءات جغرافية صماء، أو أبنية إسمنتية جوفاء، تحتوي على فراغات وجدران وغرف وسقوف...
هكذا نجد أن هناك بلدانًا رسخت في دخيلة الكاتب وطأة الاغتراب، كما نجد أن بلدانًا أخرى مكَّنته من فرصة الاستقرار، ووفَّرت له الحد الأدنى من الدفء النفسي والدعم المعنوي، وذلك ما حصل له عند وصوله إلى المغرب في سبعينيات القرن الماضي في مهمة أكاديمية (إلقاء الدرس الافتتاحي بجامعة محمد الخامس بالرباط)، ليتحول هذا اللقاء إلى رباطٍ آسرٍ، وعروةٍ وثقى بهذا البلد الأمين، بعد قراره الاستقرار فيه إلى يومنا هذا.
خاتمة
في الأخير، وجب التشديد على أن الأمكنة الواردة في هذه الرواية معبأةٌ بمواقف وعواطف وخلجات ومشاعر وانفعالات الروائي عبر سيرته العامة والخاصة، وبهذا ندرك أن من بين أهم العوامل التي ترقى بأمكنة القاسمي في هذه الرواية من مستواها السطحي البارد إلى مستواها الفني الغني والزاخر، غناها العاطفي، يتذكرها سليم، فتتقوى العروة الوثقى بهذا المكان أو ذاك، حيث يشعر الروائي بأن تلك الأمكنة جزء منه، يتذكرها بفرح العاشق الولهان والحالم الرومانسي، الذي يمجد تلك المحطات من عمره بكل ما لها وما عليها، وهو يردد مع الشيخ المتصوف النفري قولته الرائعة: «الأمكنة التي لا تؤنث لا يعول عليها.».

المصادر:
1ـ علي القاسمي: "مرافئ الحب السبعة"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط:1، 2012.
2  ـ المصدر نفسه، ص:214.
3  ـ المصدر نفسه، ص:215.
4  ـ الصفحة نفسها، ص:215.
5  ـ المصدر نفسه، ص:206.
6  ـ المصدر نفسه، ص:307.
7  ـ المصدر نفسه، ص:311

مقالات ذات صلة